حسمت السلطة قرارها في ضرب الإضراب المفتوح الذي ينفذه العاملون في القطاع العام من خلال ترهيب كل موظف لا يحضر يومين إلى العمل بإحالته إلى التأديب ومنعه من تقاضي الأجزاء الجديدة من الراتب المسماة مساعدة اجتماعية وبدل نقل والراتب التحفيزي. هذا القرار اتخذ في الاجتماع الذي عقد أمس بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والمديرين العامين والذي تنسّقه رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، واتفق فيه على إصدار تعميم يتعامل مع المضربين عن العمل لمدة 15 يوماً باعتبارهم مستقيلين حكماً… وفوق كل ذلك تقرّر أيضاً إقرار الدولار الجمركي بمخالفة دستورية
نفّذت السلطة ما هدّدت به في الاجتماعات السابقة التي عقدت في السراي الحكومي برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي وبحضور المديرين العامين وعلى رأسهم رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، وأقرّت تجزئة الأجور لتصبح فسيفساء من أربع طبقات مشترطة حضور الموظفين إلى العمل من أجل تقاضيها ولو كان غالبيتها ظرفي ومؤقت. وفي المقابل، قرّرت أيضاً أن ترفع الدولار الجمركي من خلال إصدار مرسوم استثنائي يعدّ مخالفاً للدستور.
تهديد العاملين في القطاع العام بإحالتهم إلى التأديب إذا لم يحضروا أقلّه ثلاثة أيام أسبوعياً، أو بفصلهم واعتبارهم مستقيلين من الوظيفة في حال استمر تغيبهم عن العمل لمدّة 15 يوماً متتالية، ينقل الاحتجاج المتمثل بالإضراب المفتوح إلى مرحلة ثانية من الصراع. إذ إن السلطة تستخدم حفنة من المديرين العامين الذين قرّروا استلام دفة النقابات العمالية في القطاع العام بدلاً من الغياب البائس لروابط العاملين في القطاع العام، وحفّزتهم من أجل ممارسة صلاحيات التأديب والفصل من العمل لكل من تسوّل له نفسه الاستمرار في الإضراب. المديرون العامون يبيعون السلطة موقفاً كهذا لردّ جميل السلطة على تعيينهم في مواقعهم الوظيفية أو أملاً بترقية ما من هذا النوع.
إذاً، ميقاتي ووزراء السلطة ومديروها العامون، يضعون الموظفين أمام خيار من اثنين: القبول بطرح مجحف، أو الخضوع للتأديب وخسارة وظائفهم. وبحسب ما صدر عن الاجتماع الذي عقد أمس، فقد اتفق على تجزئة الأجور على النحو الآتي: الراتب الأساسي، مساعدة مالية تعادل قيمة راتب كامل، بدل نقل يومي مقداره 95000 ليرة بشرط الحضور يومين على الأقل، «تعويض إنتاج» أو «راتب تحفيزي» عن كل يوم حضور فعلي إلى مركز العمل في الإدارات العامة وتعاونية موظفي الدولة لشهري آب وأيلول. بدعة الراتب التحفيزي هي أيضاً مجزأة، إذ ستبدأ من 150 ألف ليرة لموظفي الفئة الخامسة وما يماثلهم من المتعاقدين والأجراء ومقدمي الخدمات، وضمن حدّ أقصى يبلغ 350 ألف ليرة لموظفي الفئة الأولى. وهذا الراتب الأخير والمساعدة الاجتماعية وبدل النقل بطبيعة الحال، مشروطة بحضور الموظف إلى مركز عمله ثلاثة أيامٍ على الأقل.
أوكل ميقاتي وبقية الوزراء إلى المديرين العامين اتخاذ الإجراءات الإدارية والتأديبية، بما فيها الإحالة إلى هيئة التفتيش المركزي، والهيئة العليا للتأديب، بحق من يتخلّف من الموظفين عن الحضور من دون مسوّغ قانوني لمدة يومين على الأقل، وتطبيق أحكام نظام الموظفين بحق من ينقطع عن الحضور من دون مبرر لمدة 15 يوماً، لجهة اعتباره مستقيلاً من الخدمة، والطلب إلى التفتيش المركزي متابعة جميع الجهات المعنية في سبيل تطبيق هذه الإجراءات.
لكن ميقاتي ووزراءه لم يكتفوا بذلك، بل استغلّوا هذا الطرح لتمرير الدولار الجمركي. فبحسب مصادر «الأخبار»، جرى التداول في اعتبار الأمر فرصة لإقرار الدولار الجمركي على سعر السوق الموازية وإصدار القرار بمرسوم يعتمد صيغة «الموافقة الاستثنائية». أي أنه سيتم فرض الضرائب فيما لن يحصل العاملون في القطاع العام سوى على راتب تحفيزي لمدّة شهرين.
وبحسب وزير الداخلية السابق والقانوني زياد بارود، فإن الموافقة الاستثنائية «لا وجود لها في الدستور اللبناني تحت أي عنوان، كونها تنقل صلاحيات مجلس الوزراء وتحصرها بيد رئيسي الجمهورية والحكومة، في غياب تام لأي نص قد يبرر ذلك أو يعطيه أي سند قانوني». ولا يعدّ هذا الإجراء سابقة، إذ نشرت في الجريدة الرسمية وعلى مدى سنوات قرارات تحت هذا العنوان، وفي كل مرة كان التلطي بذريعة عدم التعطيل في ظل حكومة مستقيلة. اليوم «قد يبررونه في الظروف الاستثنائية والحالات الطارئة، ولكنه يبقى مع ذلك غير دستوري»، يجزم بارود.
بنتيجة هذا القرار، فإن السلطة ترمي الفتات للموظفين، فيما هي ستنعم على زيادة الضرائب وتحميل كل شرائح المستهلكين ضريبة ضخمة لا تأتي في سياق خطّة واضحة للخروج من الأزمة العالقة عند مسألة توزيع الخسائر منذ ثلاث سنوات. وعلى خلفية توزيع الخسائر يتم تحميل المجتمع أكلافاً لا طاقة له عليها، بينما كل همّ السلطة هو أن توقف السلوك المتمرّد للعاملين في القطاع العام الذين يطالبون بتصحيح عادل لأجورهم.
80% من موظفي القطاع العام من الفئات الرابعة والخامسة لا تتعدى رواتبهم مليوني ليرة
وعلّقت رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر على هذا القرار بالقول: «هو تهديد لن يمر. نحن من نهدد السلطة والدولة لا العكس. نحن أصحاب حق، بينما هي متخلية عن القيام بواجباتها تجاهنا». يدرك الموظفون أن للمديرين العامين صلاحية تنفيذ الإجراءات من طرف واحد، ولا يملكون سوى المواجهة متحصنين بخطاب حقوقي، إذ تؤكد نصر بأن «لا ممارسة للسخرة بعد ثلاث سنوات من الأزمة»، ناصحة المسؤولين بحلحلة الأمور، قبل الاستعانة بالمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والعمال.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 80% من موظفي القطاع العام هم من الفئات الرابعة والخامسة، أي أن راتبهم لا يتعدى المليوني ليرة. بالتالي فإنه وفق طرح ميقاتي والمديرين العامين، سيحصل هؤلاء على 150 أو 200 ألف ليرة كحدّ أقصى عن كل يوم حضور، وعلى مساعدة اجتماعية بقيمة راتبهم، أي سيحصلون على مبلغ سيمكّنهم من سداد قيمة التنقل من وإلى مراكز العمل فقط لا غير، ولا سيما للقاطنين في مناطق بعيدة.