منح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ممثلا بوزير الثقافة القاضي محمد وسام مرتضى، الروائي الراحل الدكتور جبور الدويهي، وسام الاستحقاق اللبناني البرونزي، تقديريا لعطاءاته الأدبية، خلال “تحية وفاء” أقامتها وزارة الثقافة وبلدية زغرتا اهدن وعائلة المحتفى به وأصدقاؤه، في إهدن، في حضور رئيس “حركة الاستقلال” النائب المستقيل ميشال معوض، المدير العام للشؤون الثقافية الدكتور علي الصمد، أصدقاء الراحل من أهل السياسة والثقافة والإعلام.
استهل الاحتفال كلمة لجان هاشم قال فيها: “جبور الدويهي على غرار بطل إحدى أقاصيصه، حضر رحيله بهدوء، بأدق التفاصيل، بهدوء العارف وبدون صخب… أراه تصور هذا الجمع وما يدور فيه وحوله وعلى ألسنة الأصدقاء في المكان الذي جعله على مدى سنوات ملتقى سنويا لهم. والليلة نشهد مع حشد الأصدقاء المتوافدين، لتأدية تحية وفاء لمن كان وسيظل اسمه جامعا لهم”.
مرتضى
وكانت كلمة لوزير الثقافة، قال فيها: “عند زيارة إهدن، يرتقي الدرب قاصدها في كل مرة مرتين: واحدة إلى القمم، وأخرى إلى القيم. وإهدن فضاء لبناني مسكون بالوجع الإنساني المزمن وبالحرية والجمال وعبق الوادي المقدس وجيرة الأعالي، فخليق بها أن تطلع على امتداد الوطن والعالم قمما من القيم”.
أضاف: “جبور الدويهي واحد من رعيل تشرب هذه الأماكن، وراح يعمر بها رواياته بطلا بطلا وموضعا موضعا. وأنت إذا قرأت “شريد المنازل” و”طبع في بيروت” و”عين وردة” و”حي الأميركان” و”اعتدال الخريف” و “مطر حزيران” و”ريا النهر” و”ملك الهند” و”سم في الهواء”، تجد أن أديبنا الراحل لم يكن إلا مؤرخا لهذه الجغرافيا اللبنانية بكل ما فيها من حجر وبشر واجتماع وافتراق، ولأحوال ناسها بكل ما فيهم من آمال وخيبات وسلام وصراعات، تأريخا حيا يبدأ من عناوين الروايات حيث تطل الأمكنة بكامل إيحاءاتها، ثم تمضي في الكشف عن نفسها من خلال تسلسل الأحداث وانقطاعها عند النهايات، ثم تحتار أنت القارىء، من هو الذي يكتب الآخر: أجبور الدويهي هو الذي يحكي قصة المكان في سياق رواياته، أم المكان هو الذي يملي عليه الأحداث ويختار الأبطال ويعقد الحبكة ويقدم الحل؟”
وتابع: “للعمل الروائي قواعد التزمها راحلنا الكبير دون أن يمنعه ذلك، وهو المتجذر في شجون المجتمع اللبناني، من اتخاذ قضايا هذا المجتمع قواعد ثابتة أدبيا وإنسانيا تحدد في العمق إطار أعماله، حتى سمي عن حق “روائي الحياة اللبنانية”، ولهذا يشعر قارئوه سريعا كم تفيض من كلماته الهموم الاجتماعية المتمادية الحضور، كأنه يكتب بالوجع لا بالحبر. “الموت بين الأهل نعاس” يشكل مثالا على الحزن الذي يغزو حروفه حين يعالج واقع الحياة اللبنانية المتصدعة بفعل الانقسامات الطائفية والسياسية والمناطقية. حزن رافق قلمه في كل ما كتب، بل ازداد سطوعا من رواية إلى أخرى وصولا الى “سم في الهواء” لأن همومنا الوطنية بكل أسف لا تنتهي. لكن هذا الحزن في الحقيقة حزن مجبول بالأمل يعلم كيف ينبعث الضوء من الظلمة والرجاء من اليأس. “شريد المنازل” هي الأحب على قلبي من رواياته نطقت بأن المحبة قادرة على إزالة جميع الفوارق في الحياة وبعدها، وأن التنوع إذا حكمته المحبة يثري، وأن جيرة المدن نسب يجمع ناسها إلى أرومة واحدة مهما اختلفت مشاربهم الثقافية والدينية. وروايته “حي الأميركان” تفضي إلى العبرة نفسها وتكشف بخاصة غنى العلاقات التي تنسجها أحياء طرابلس بساكنيها وبالوافدين إليها، وقد خبرت خلاصة ذلك شخصيا، عندما جئت في مطالع حياتي إلى الفيحاء قاضيا فأعطتني هذه المدينة وسائر مدن الشمال من الصداقات والأخوات والمودات ما لا أنساه العمر كله”.
وقال: “جبور الدويهي أهله قلمه المغموس في محبرة الواقع اللبناني، لأن يطل على الأدب العالمي إطلالة واسعة، فرشحت رواياته أو معظمها لجوائز أدبية راقية كما ترجمت إلى لغات كثيرة. هذا يثبت أهمية التشبث بالجذور، لا في الأدب فقط، بل في كل منحى من مناحي الحياة. إنها دعوة إلى شباب الجيل الصاعد أن يتمسكوا بهذا الوطن، هوية وقيما، فإن الشجرة لا تناطح السماء ولا تمد أغصانها إلى البعيد إلا متى رسخت عميقا في تربتها. ولعل المهمة الأساسية الملقاة على عاتق هذه الحكومة هي: كيف نستعيد ثقة الشباب بلبنان ليظلوا فيه ويعملوا على بنائه وطنا عصريا جديرا بطموحاتهم. صحيح أننا نلنا ثقة المجلس النيابي، لكن الثقة الحقيقية التي نسعى إليها هي تلك التي يمنحها المواطنون عندما يلمسون بأيديهم نتائج ايجابية للعمل الحكومي. أنا أعرف مقدار النقمة لدى فئة كبيرة من اللبنانيين على الأداء السياسي منذ عقود، وسعي الكثيرين إلى الهجرة من أجل العمل وطلب العيش الكريم، وأعرف الضائقة الاقتصادية التي نمر بها دولة وشعبا، وأرى جبال التحديات التي تطوقنا في بلد مشرع أمام القهر والفقر، قلوبنا عليه مسكونة بالهموم، ومعظمنا يعيش أسوأ تجارب البؤس في تاريخ لبنان الحديث، لكن قدرنا الذي لا مفر منه: أن نثق بأنفسنا وبما لدينا من كفاءات قادرة على وضع السياسات والخطط الكفيلة بإخراجنا من هذه الصعوبات القاسية، بالثبات والتضامن فيما بيننا، وبالتعاون مع الأشقاء والأصدقاء، وهذا ما نحن عليه عازمون. وبعضنا يسأل: هل يمكن إنجاز مشاريع إبداعية على مستوى الوطن، في حمأة هذه الضائقة الوطنية وهذا الشلل الخطير؟ أقول نعم، وهذا واجب بالرغم من كل التحديات الكبيرة…. علينا أن نحاول… فالعطاءات الفكرية تثري وجودنا وتسهم في استعادتنا لهويتنا الثقافية، ولا محيد عن استكمال بناء ما أنجزه السابقون ومنهم راحلنا الكبير من أجل إعلاء دور لبنان الثقافي الريادي. لذلك أراني متعهدا أمامكم ببذل كل ما في وسعي لدعم جميع الجهود الثقافية للبنانيين المقيمين والمغتربين، ولإحياء المناسبات الثقافية على أفضل ما يسمح به الوضع المالي المأزوم، فإنما بالثقافة أولا يستعيد لبنان مكانته مركزا للتلاقي ومنارة تشع نورا وحضارة على المستويين العربي والعالمي”.
وختم مرتضى: “في الختام، وأمامكم أيها الحضور الكرام، أشهد بأن الراحل الكبير كان ممن آمن بلبنان موئلا للفكر ومنبعا للحضارة، وأشهد أنه ممن عمل الصالحات بالنصح والإرشاد، وبالهداية الى درب المواطنية المثلى، وأنه ممن تواصى بالحق … حق الإنسان بأن يحفظه أخوه الإنسان، وأنه ممن تواصى بالصبر وقد جسده فعلا لا قولا وأصر على أن يبث أملا حتى وهو في خضم أعلى درجات الألم، الألم على وطنه ينزف، وعلى جسده يتهاوى بفعل المرض، وهذا ما تشي به روايته الأخيرة ” سم في الهواء، كما أشهد أنه ممن جاهد وإجتهد ما جعله في مصاف الأعلام الخالدين، إذ أغنى بنتاجه المخزون الثقافي اللبناني وعمق فينا نحن من قرأه الإنتماء الى لبنان الوطن ولبنان الرسالة، فالى منظمي هذا الاحتفال المهيب والمشاركين فيه أتوجه بالشكر الجزيل على إحيائهم ذكرى فقيدنا الجليلة، والى راحلنا حيث هو أتوجه بصادق المحبة وعميق التقدير مع رجائي بأن يديم الله ذكراه وأن يطيب ثراه وأن يبقى لبنان وطنا أبيا منبعا للثقافة وقبلة للمثقفين”.
الوسام
بعد ذلك سلم مرتضى العائلة وسام رئيس الجمهورية، وقال: “تقديرا لعطاءاتك في مجال الأدب والفكر، ومسيرتك الثقافية والأكاديمية المشعة، وإرثك الأدبي المكلل بالجوائز والتكريم والتقدير، قرر فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منحك وسام الاستحقاق اللبناني البرونزي، وكلفني فشرفني أن أسلمه اليوم الى عائلتك الكريمة، متقدما منها باسم فخامته وباسمي الشخصي، بأحر التعازي، سائلا القدير أن يتغمدك بغالي رحمته ويسكنك فسيح عليائه، وأن يلهم عائلتك ومحبيك الصبر والعزاء”.
العائلة
وشكرت أرملة المحتفى به السيدة تيريز دحدح الدويهي لرئيس الجمهورية الوسام. وقالت: “يتكرم جبور الدويهي اليوم بعد أن كرمته الجامعة الأنطونية ضمن سلسلة “أسم علم” تحت عنوان “روائي الحياة اللبنانية”. قبل أن يكون جبور لبنانيا بالدرجة الأولى “زغرتاوي”، بمعنى أن زغرتا سكنته بأحيائها وساحاتها وكنيستها وناسها، أحبها وأحبته. جبور “طرابلسي” لا يرتاح ليومه إذا لم يزر طرابلس، ويتنقل في أحيائها، ويجلس في مقاهيها يشرب القهوة الصباحية في الأندلس مع روادها، أصحابه على مدى سنوات عمره، ويكتب في مقاهيها”.
أضافت: “أحب طرابلس وأحبته. بلدة مسيحية مارونية ومدينة هو “مرتع” جبور منذ طفولته حتى آخر عمره، يغرف منه قصصا وحكايات يحكيها بأسلوب مشوق استعاره من والدته، وأضاف عليه نفحة من التهكم تميز بها أسلوبه الأدبي. كان جبور صادقا في أدبه يخلط الخير والشر، والمفرح والمبكي، تماما كما هي الحياة البشرية، لم يحاسب شخصية ولم يتعاطف مع أخرى، معتبرا أن الجميع في هذه الحياة الدنيا محكومون بقدر العذاب والموت والنهاية”.
وختمت: “هكذا، كما أعتقد، انتقلت أعماله إلى العالمية واستحق التنوية والجوائز”.
فرنجية
بدوره ألقى رئيس بلدية زغرتا اهدن انطونيو فرنجيه كلمة قال فيها: “قدر الروائي الذي تأخر الى تسعينيات القرن الماضي لكي يدفع باصداراته، ان يعوض هذا التأخير بغزارة نوعية لروايات وروايات وضعت اسمه في وادي الروائيين البارزين الذين لا يتعدي عددهم أصابع اليدين. اهدن اليوم ومع وزارة الثقافة وعائلة الفقيد واصدقائه تكرم اسما جديدا من قافلة مبدعين خرجوا من بوابة الاقليمية الى الفضاء الواسع”.
وختم: “جبور الدويهي الذي نفض غبرة السنين عن كراسي المسرح البلدي وسعى مع الساعين لاطلاق اسم الفنان الشهيد بيار فرشخ على خشبة المسرح، حقه علينا بتكريم يليق بمسيرته ونضاله وتواقيعه”.
نجار
ورأى الأديب ألكسندر نجار في كلمته أن “الحياة أضعف من الموت لكن الموت أضعف من الحب فمن يحب لا يموت بل يظل حيا فينا”.
ملاط
ولفت البروفسور شبلي ملاط في كلمته إلى أن “جبور دويهي ليس فقط روائيا فيه النعمة والبركة، اليوم هناك قاسم روائي مشترك اضافي بكتاباته، خاصة بعد “ملك الهند” و”سم في الهواء”، عنده مرارة حياتنا اللبنانية جميعا، لذلك نحب شخصياته، لأنها مثلنا طحنها التاريخ، نعيش والتاريخ طحننا. طحننا بالطائفية، وطحننا بحروب المنطقة، وطحننا بالعنف، وطحننا بالغلاة الذين بحكموننا، غلاة الدنيا وغلاة السياسة. جبور الدويهي رواياته فيها البركة والنعمة، ورواياته فيها عمل مطاحن التاريخ الذي نتيجته نحن، نحن القاسم المشترك، نحن طحين التاريخ”.
متري
أما الوزير السابق طارق متري فقال: “عرفتك عن قرب منذ أيام الشباب وعرفتك عن بعد من خلال رواياتك فكأنها قصصك وقصصنا وتواريخك وتواريخنا”.
زيادة
كذلك قال السفير السابق خالد زيادة: “خسرت في غيابه جزءا من ذاكرتي ويومياتي ولا يعوضني ذلك سوى أنني كنت صديقه”.
عريجي
وتناول الوزير السابق روني عريجي العلاقة الوطيدة التي تربطه بالمحتفى به. وقال: “عرفت جبور، وتعارفنا صديقين في رحاب زغرتا – اهدن، وكانت بيننا حوارات غنية بأفكار إنسانية مفتوحة الأفق، عن الأدب الإنساني في عمارته الروائية وشؤون الوطن، فقد كانت مناقشاتنا ثرية تتسم برحابة صدر وتقبل فكر الآخر”.
أضاف: “بشغف ومتعة قرأت جبور الدويهي في محطاته الروائية، من “الموت بين الأهل نعاس” وصولا إلى آخر أعماله ” سم في الهواء”،… في مرحلة أولى، تناولت جميع كتبه، وبعدها توطدت علاقتنا وعدت إليها ثانية لأن فرصة مناقشتها معه أصبحت متاحة. أذكر جيدا يوم سلمني رواية “ملك الهند” وكانت لا تزال مخطوطة للاستئناس برأيي، تأثرت بهذه اللفتة التي تنم عن ثقة وصداقة، ولم أوفق مع روايته الأخيرة إذ تسلمتها من يدي العزيزة تيريز وكان على عتبة الرحيل”.
وتوجه الى مرتضى: “أهل الثقافة يعولون عليك لإعادة تفعيل دور وزارة الثقافة بالرغم من أزمات المرحلة التي يتخبط فيها شعب لبنان، وإنك لقادر. ونتمنى عليك إعادة الحياة إلى جائزة الرواية اللبنانية بالعربية”.
محطات فنية
تخللت الاحتفال محطات فنية، تضمنت مشهدا مسرحيا مقتبسا من رواية “مطر حزيران” من إعداد ميرانا النعيمي وإخراجها مع “فرقة الديوان”. وقدم كل من سيمون قندلفت والدكتور فوزي يمين قراءات ممسرحة مختارة من روايات الراحل. وغنت الدكتورة ماريا دويهي يمين ابنة المحتفى به اغنيتين قدمتهما لوالدها الاولى “غاب النهار” تلحين بشير العاقوري وتوزيعه وكلمات فوزي يمين. والثانية “ستعود” تلحين شديد الياس وتوزيعه والكلمات مقتبسة من رواية “سم في الهواء”.
والى جانب المسرح، عرضت بورتريه للمحتفى به بريشة ساشا ابي خليل.
“هبة الحياة الأميرة”
والختام كان مع فيلم “هبة الحياة الأميرة” الذي عرض على شاشة كبيرة من اخراج سميح زعتر واعداد الدكتور فوزي يمين. ويقول المخرج زعتر: “هذا الفيلم كان بمثابة صورة وداعية لخص فيها الروائي مسيرته الأدبية وكانت مرحلة التصوير مؤثرة لأنه وضع فيها عصارة حياته”.