كتبت صحيفة “الجمهورية”: المشهد اللبناني يغلي في خاصرتيه الرئاسية والجنوبية؛ تعاني الأولى من التهابات سياسية مزمنة، عطّلت سلسلة المبادرات الداخلية والخارجية التي تلاحقت لإنضاج طبخة البحص الرئاسية، ودارت وما تزال في حلقة مفرغة، فيما تشهد الخاصرة الثانية تورّماً أمنياً متزايداً على امتداد الحدود الجنوبية، عزّز المخاوف من بلوغها حدّ الانفجار الكبير، وأطلق العنان لتحذيرات من الانزلاق في منحدر تلوح في أفقه احتمالات وسيناريوهات غير محمودة.
على انّ التطور البارز الذي تصدّر واجهة الأحداث، كان الحادث الأمني المريب الذي تجلّى في الاعتداء المسلح على السفارة الاميركية في عوكر، خلّف موجة استنكارات واسعة، وتساؤلات حول الجهة التي تقف خلفه، والغاية منه في هذا التوقيت بالذات؟
حادث السفارة
وفيما اعلنت السفارة الاميركية في بيانها انّه «بفضل ردّ الفعل السريع للجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي وفريقنا الأمني في السفارة، اصبحت منشآتنا وفريقنا آمنين، والتحقيقات جارية»، قال مستشار الأمن القومي الأميركي تعليقاً على الهجوم: «نعمل بشكل وثيق مع السلطات المحلية للتأكّد مما حدث ولضمان عدم وجود تهديد وسنفعل ما يتعيّن فعله لحماية شعبنا».
وفي وقت لاحق أصدرت السفارة الاميركية بياناً اشارت فيه الى انّها تخطط لتعود الى العمل اعتباراً من اليوم الخميس، دعت فيه مواطني الولايات المتحدة الى تجنّب السفر الى منطقة الحدود اللبنانية- الاسرائيلية، ومنطقة الحدود اللبنانية- السورية، ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين في جميع انحاء لبنان، وايضاً تجنّب التظاهرات وتوخّي الحذر».
وقد تقاطعت المعلومات الأمنية حول انّ منفذي الاعتداء ثلاثة مسلحين قُتل احدهم ويدعى قيس فراج سوري الجنسية ويقيم في بلدة الصويري البقاعية، وجرح آخر وتمّ توقيفه فيما البحث جارٍ عن الثالث. كما انّ الجيش والقوى الامنية قامت بعمليات دهم لعدد من منازل مشتبه بتورطهم في الاعتداء، بين بلدتي مجدل عنجر والصويري، وتمّ توقيف شقيق احد المشاركين.
وقال الجيش اللبناني في بيان، انّ «السفارة الأميركية في لبنان في منطقة عوكر تعرّضت لإطلاق نار من قبل شخص يحمل الجنسية السورية، فردّ عناصر الجيش المنتشرون في المنطقة على مصادر النيران ما أسفر عن إصابة مطلق النار، وتمّ توقيفه ونقله إلى أحد المستشفيات للمعالجة. تجري المتابعة لتحديد ملابسات الحادثة». واشار البيان إلى انّ وحدات الجيش المنتشرة في محيط السفارة اجرت عمليات تفتيش للبقعة المحيطة، وتعمل على تنفيذ الإجراءات الأمنية اللازمة لحفظ أمن المنطقة».
وفي بيان آخر، اعلن الجيش اللبناني انّه «ضمن إطار ملاحقة المتورطين في الاعتداء المسلح على السفارة الأميركية في منطقة عوكر، دهمت دورية من مديرية المخابرات ووحدة من الجيش عددًا من المنازل في بلدتَي الصويري ومجدل عنجر في البقاع الغربي وأوقفت السوري (ع.ج.) والمواطن (ا.ز.) للاشتباه بعلاقتهما بالسوري (ق.ف.) مطلق النار على السفارة، و3 من أفراد عائلته. وأفيد انّ الجيش اوقف سائق «الفان» الذي اقلّ مطلق النار من الكولا الى عوكر.
واشار وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي الى أنّ «التحقيق بالهجوم على السفارة الأميركية مستمر ويتمّ توقيف أي شخص له صلة».
وكشف مولوي أنّ «مهاجم السفارة الأميركية نقل متفجرات من مجدل عنجر إلى عوكر، وقد اجتاز حواجز عدة وهذا «مستغرب»، مشدّداً على «أنّنا نبحث عن الجهات التي تقف خلف الهجوم».
الحراك الرئاسي
رئاسياً، وبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّه كما استعان سفراء اللجنة الخماسية بمبادرة «تكتل الاعتدال» واتكأوا عليها كقاعدة افترضوا انّها قد تفتح باباً لحوار رئاسي يفضي الى انتخاب رئيس بالتوافق في ما بين الاطراف المختلفة، استعان الفرنسيون بالصديق «الاشتراكي»، حيث طلب الموفد الفرنسي جان ايف لودريان من الرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط القيام بمسعى مساعد لاختراق حاجز التعطيل، فاستجاب الأخير برغم إدراكه بصعوبة هذه المهمّة، واطلق تحرّكاً بقيادة ابنه النائب تيمور جنبلاط.
وإذا كانت هذه الاستجابة السريعة من قبل جنبلاط، وعلى ما تقول مصادر المعلومات، تشكّل رافداً لجهود اللجنة الخماسية ولمهمّة لودريان الذي أكّد صراحة «أنّه لا يرى باباً لانتخاب رئيس الجمهورية سوى بالتوافق، إلّا أنّ آلية هذا التوافق ما زالت ضائعة»، فإنّها في الوقت ذاته، تأتي تأكيداً على المنحى الحواري التوافقي الذي يؤكّد عليه جنبلاط ويتقاطع فيه مع مبادرة الرئيس نبيه بري، كسبيل لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في اقرب وقت ممكن».
وبحسب المصادر عينها، فإنّ الحركة الجنبلاطية، التي رمت الى تغليب منطق الحوار او التشاور، والتعجيل في الحسم الايجابي للملف الرئاسي، لا تلوح في أفقها بوادر خرق ايجابي، وخصوصاً انّ حجر التعطيل، وكما تبّدى من هذه الحركة، ما زال مزروعاً في الطريق، وحائلًا دون تلاقي الاطراف على طاولة التوافق على رئيس. وعند هذه النقطة انتهى لقاء وفد «اللقاء الديموقراطي» مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في معراب.
وقالت المصادر، انّ جعجع لم يبد تجاوباً مع المبادرة الجنبلاطية، بل كان متمسكاً بموقفه لناحية رفض الحوار او التشاور والتوافق المسبق على رئيس، وكذلك رفض ما تُسمّى اعرافاً تضرب الدستور، واعاد في الوقت ذاته، التأكيد على انّ الحل الرئاسي كما تراه «القوات»، يكون بالدعوة الى جلسة انتخاب مفتوحة، يُصار خلالها الى إجراء مشاورات جانبية. واما بالنسبة الى رئيس الجمهورية، فإنّ «القوات» تريد رئيساً ليس من الممانعة ولا تابعاً لها، وبمعنى اوضح؛ رئيس ضدّ فريق الممانعة.
تقييم «اشتراكي»
وبحسب معلومات «الجمهورية»، فإنّ التقييم «الاشتراكي» لحركة اللقاءات التي أجراها وفد «اللقاء الديموقراطي» خلال اليومين الماضيين، تجنّب الحديث عن سلبيات علنية، الّا انّه المح اليها بعدم نفيه وجود نقاط خلافية، ينبغي ان تنتفي امام الحاجة الملحّة للبلد لانتخاب رئيس الجمهورية واعادة انتظام الحياة السياسية فيه، في ظرف هو الأقسى في تاريخ لبنان».
الرئيس بري يؤيّد
وفيما اكّد «حزب الله» انّه مع كل حوار او تشاور يرأسه الرئيس نبيه بري، اكّدت مصادر عين التينة لـ«الجمهورية» انّ «الرئيس بري المتمسك بمبادرته، يؤكّد انّه مع كل مسعى يؤسس للتلاقي والتوافق، وعلى هذا الاساس عبّر في مناسبات عديدة عن استعداده لتقديم كل ما يلزم من تسهيلات تخدم الوصول الى هذه الغاية، ومن هنا كان تجاوبه الى ابعد الحدود مع اللجنة الخماسية، وكذلك تجاوبه مع المنحى الحواري الذي اكّد عليه لودريان، وبين هذا وذاك تشجيعه لـ«تكتل الاعتدال»، وضمن هذا السياق، قارب المبادرة بإيجابية وترحيب، آملا أن تتمكن من تحقيق النتائج المرجوة منها. الّا انّه في الوقت نفسه، يعتبر انّ العقدة الأساس تبقى لدى رافضي التوافق، الذين كما هو واضح يريدون ابقاء الوضع على ما هو عليه، ولا يريدون للاستحقاق الرئاسي ان يُنجز».
مضيعة للوقت
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، ما اكّد عليه مسؤول كبير لـ»الجمهورية»، من أنّ كل الحراكات سواءً كانت من الداخل او الخارج، تبقى مضيعة للوقت، بوجود طرف مصرّ على الهروب من التوافق، ويعتقد وهماً، انّ في استطاعته ان يعدّل الميزان الداخلي لمصلحته ويفرض رئيساً خلافياً. متحّديا ذلك توجّه الشريحة الواسعة من اللبنانيين التي تتوق الى رئيس يوحّد اللبنانيين، وهو ما شدّد عليه وفد «اللقاء الديموقراطي» في لقاءاته. وإن دلّ هذا الإمعان في التعطيل وتحدّي التوافق والاستسلام لوهم العظمة على شيء، فعلى إصرار هذا الفريق على تعميق الأزمة وإبقاء الدولة على شللها».
واكّد المسؤول عينه أنّ رفض التوافق ليس بريئاً، فهو تعطيل للتعطيل لا اكثر ولا أقل، ولكن هذا الوضع يستحيل ان يستمر الى ما لا نهاية، حيث انّ الجميع، وفي مقدّمهم هؤلاء، سيخضعون في نهاية الامر لمنطق التوافق».
ورداً على سؤال حول انّ الحوار الرئاسي والتوافق على رئيس للجمهورية يجافيان الدستور، قال المسؤول عينه: «هذه التفسيرات السياسية والهمايونية للدستور، هي التي تضرب الدستور الذي ينص على وجوب الوفاق الوطني في كل شيء، وخصوصاً في بناء المؤسسات الدستورية كلها، حيث حدّد آليات هذا الوفاق، ومنها آلية انتخاب رئيس الجمهورية، حيث أنّ الدستور أوجب لانعقاد جلسة الانتخاب وانتخاب رئيس الجمهورية اكثرية ثلثي اعضاء المجلس النيابي اي 86 نائباً، وهذا النصاب يعبّر عن اوسع توافق، حيث انّه يجمع أكثرية القوى الوازنة في البلد. ثم كيف يتمّ توفيره بين قوى مختلفة لكل منها توجّهاتها السياسية التي تتقاطع او لا تتقاطع مع القوى الاخرى، هل يتوفر هكذا عفواً، أم انّه يتوفر بالتواصل والتوافق عليه. ثم يجب الّا ننسى انّ هذا التوافق ليس وليد اللحظة الراهنة بل هو عرف معتمد، ما يعني أنّه حتى يتمّ توفير هذا النصاب والتوافق يجب الالتزام بالعرف المعتمد اقلّه منذ سريان اتفاق الطائف، وتحت سقف هذا التوافق نجري الانتخابات الرئاسية».
الغليان الحدودي
ميدانياً، يتقلّب الوضع في المنطقة الجنوبية على صفيح المواجهات الساخنة على امتداد خط الحدود من الناقورة الى جبل الشيخ، والتهديدات الاسرائيلية المتلاحقة بشن عدوان واسع على ما تسمّيها جيهة الشمال.
وفي موازاة الاجواء التي تنذر بتفاقم التصعيد، اعلنت واشنطن رفضها للحرب، واكّدت على الحل الديبلوماسي.
ونقلت قناة «كان» عن مسؤول اميركي كبير قوله انّ الولايات المتحدة الاميركية دعت اسرائيل الى عدم التصعيد مع «حزب الله» قبل إتمام صفقة محتملة مع «حماس».
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية ماثيو ميلر قد اشار في ايجاز صحافي الى «شعور بالقلق من رسائل المسؤولين العسكريين الإسرائيليين بأنّهم مستعدون للهجوم على «حزب الله»، وتصعيد التوتر في المنطقة» وقال: «لا ندعم الحرب الشاملة مع «حزب الله»، وتصاعد التوتر في هذا الصراع أمر يقلقنا، وكنا نسعى لإبقائه تحت السيطرة منذ تشرين الأول». واضاف: «لا أحد يرغب بأجواء صراع على مستوى إقليمي في حين يتمّ السعي لتحقيق وقف إطلاق نار في غزة»، معتبراً أنّ «التوتر بين إسرائيل ولبنان الذي يتصاعد بين الحين والآخر، لا يمكن حلّه من خلال الصراع، وإنما يجب حل المشاكل بالطرق الديبلوماسية فقط».