يتابع المؤتمر الدولي الإسلامي-المسيحي حول تطبيق وثيقة الأخوة الإنسانية المنعقد في كلية اللاهوت للتصوف في مدينة افيلا الإسبانية أعماله بحضور مفكرين وعلماء واعلاميين من دول عدة.
طبعت اليوم الثاني مداخلات ومحاضرات هامة تعمقت في مضامين الوثيقة.
بداية، قدم القاضي الشيخ محمد النقري محاضرة بعنوان ” الأخوة الإنسانية انطلاقا من القرآن ورسالة الشيخ الأزهر أحمد الطيب، قال فيها:”
إزاء المخاطر التي تحدق بمجتمعاتنا تأتي الوثيقة لتشدد على ضرورة أن تعود الأسرة بركنيها الأب والأم لتشكل نواة أساسية للمجتمع والبشرية بما تتضمنه من إنجاب أولاد وتربيتهم وتحصينهم بالأخلاق. وتركز الوثيقة في هذا المجال على التربية الدينية الصحيحة والى ضرورة ايقاظ الحس الديني للناشئة.
وحتى تكتمل هذه المنظومة كان لا بد للوثيقة من أن تشدد على أن الأديان لم تكن مطلقاً بريداً للحروب أو باعثة لمشاعر مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ، فهذه المَآسِي حَصِيلَةُ الانحِرافِ عن التعاليمِ الدِّينِيَّة، ونتيجةُ استِغلالِ الأديانِ في السِّياسَةِ، وكذا تأويلاتُ طائفةٍ من رِجالاتِ الدِّينِ – في بعض مَراحِلِ التاريخِ – ممَّن وظَّف بعضُهم الشُّعُورَ الدِّينيَّ لدَفْعِ الناسِ للإتيانِ بما لا علاقةَ له بصَحِيحِ الدِّينِ، من أجلِ تَحقِيقِ أهدافٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةٍ دُنيويَّةٍ ضَيِّقةٍ
استتباعاً لما ذكر فإن توصيات الوثيقة تضيف ايضاً البنود الآتية :
1. التوقف عن استخدام اسم الله لتبرير اعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش
2. التركيز على أهمية التعاليم الصحيحة للأديان
3. التأكيد على أن الحرية حق لكل إنسان اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسة
4. اعتبار لتَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ
5. تجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر.
6. التشجيع على الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ
7. الحوارَ بين المُؤمِنين يَعنِي التلاقيَ في المساحةِ الهائلةِ للقِيَمِ الرُّوحيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُشترَكةِ
8. حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ
9. وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّةِ بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلاميِّ لها باعتبار أنها نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي
10. التأكيد على مفهومَ المواطنةِ الذي يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ
11. اعتبار العلاقةَ بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ ضَرُورةٌ قُصوَى لكِلَيْهما، لا يُمكِنُ الاستعاضةُ عنها أو تَجاهُلُها
12. التأكيدُ على أهميَّةِ العمَلِ على تَرسِيخِ الحقوقِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ المُشترَكةِ
13. وقفُ كل المُمارَساتِ اللاإنسانية والعادات المُبتذِلة لكَرامةِ المرأةِ، والعمَلُ على تعديلِ التشريعاتِ التي تَحُولُ دُونَ حُصُولِ النساءِ على كامِلِ حُقوقِهنَّ، وحِمايتُها أيضًا من الاستغلالِ الجنسيِّ ومن مُعامَلتِها كسِلعةٍ أو كأداةٍ للتمتُّعِ والتربُّحِ
14. حماية حُقوقَ الأطفالِ الأساسيَّةَ في التنشئةِ الأسريَّةِ، والتغذيةِ والتعليمِ والرعايةِ وكذلك حمايةَ حُقوقِ المُسنِّين والضُّعفَاءِ وذَوِي الاحتياجاتِ الخاصَّةِ والمُستَضعَفِينَ
هذه البنود الأساسية لوثيقة الأخوة الإنسانية تضاهي بقيمتها شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة باعتبارها صادرة عن مؤسّستين دينيّتين هما الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكيّة، وتستحق بما لها من مرجعية دينية ومعنوية على المؤمنين بالديانتين على أن تكون مساراً ملزما لكافة المؤسسات التابعة لمرجعيتهما وأن تدرس في جميع المعاهد والجامعات والمؤسسات التربوية وأن تذاع نصوصها على كافة المنابر الدينية وتشكل لجان مشتركة مسيحية- إسلامية في كافة البلاد لوضع الآلية التنفيذية لبنود هذه الوثيقة. “.
مقابل ذلك، تحدث الدكتور أدونيس عكرا عن موضوع عودة الديانة إلى الحقل العام أبرز ما جاء فيها:”
تندرج هذه الوثيقة في إطار الوضعية الثقافية والفكرية التي ينشغل بمعطياتها الفكر الفلسفي السياسي منذ القرن التاسع عشر، غربا وشرقا، ولا سيما بعد أن أخذت النظريات العَلمانية تواجه العديد من التحديات التطبيقية التي أفرزتها المجتمعات المتعددة المكوّنات الإثنية والدينية واللغوية والعرقية،
هذه المواجهة حتّمتها الهجرات المتنوعة، لا سيما الى دول الغرب الأوروبي والأميركي، والاختلاط البشري الحاصل هناك بكثافة، مع ما يحمله من مواجهات ثقافية مردّها الى اختلافات في أنماط التفكير، وفي المعتقدات الدينية والأيديولوجية والفلسفية التي تنطوي على تباين وتعارض في النظر الى الكون والمجتمع والانسان.
فقد نتج عن هذا الواقع الاجتماعي والثقافي ارتدادات سياسية كان لها تأثير واضح المعالم على أنظمة الحكم وإدارة الاختلافات في الدول التي حصلت داخلها هذه المواجهات. كما نشأت أيضا، بحكم هذا الأمر الواقع، ضرورات حياتية تَفرض مبادئ جديدة للعيش المشترك داخل المجتمع الواحد بين جماعات وافراد يحملون اختلافاتهم وتنوّعاتهم، وتَفرض، من جهة أخرى، ابتكارَ قيمٍ متجدّدة من شأنها إعادةُ النظر في مضامين العديد من المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها فكرة الديمقراطية، كالمساواة، والحرية، والعدل، والمواطنيّة.
في مرتكزات الوضعية الثقافية والفكرية العالمية التي نعيش في كنفها اليوم، تبرز من جديد قضية علاقة الدين بالدولة، فينشغل بها الفكر الفلسفي السياسي الملتزم، مستأنِفا ما أنجزه عصر الأنوار الأوروبي في هذا الميدان، ومصوّبا بعض الانحرافات التي ظهرت في تطبيق الأفكار التنويرية المتعلقة بوضعية الدين في الدولة، وبكيفية تنظيم الدولة الديمقراطية للشأن الديني في نظامها السياسي والقانوني. وتقوم هذه القضيّة على مطارحتين يجري التعبير عنهما حديثا بمقولتين: “خروج الدين” و”عودة الدين”، والمقصود بهما على التوالي خروج الدين من الفضاء العمومي، وعودة الدين الى الفضاء العمومي، وذلك في إطار بنية الدولة وتنظيم الحياة السياسية فيها. وهنا، لا بدّ من توضيح المضامين الفعلية لهاتين المقولتين لكي نتمكن من قراءة “وثيقة الأخوّة” قراءة واقعية وتبيان مكانتها في الوضعية الحضارية العامة والراهنة، وإبراز دورها في الخروج من مأزق التعارض بين الدين والدولة.
غير ان المعنى الأكثر واقعيّة وموضوعية لمقولة “الخروج من الدين” هو الذي قدّمه الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) في العديد من كتاباته ومؤلفاته، لا سيما في كتابه “فكّ السحر عن العالم: تاريخ سياسي للدين”. فلهذا الفيلسوف نظرية متكاملة في تفسير الظاهرة الدينية وتاريخها في عالم البشر، والدور الألفيّ الذي أداه الدين في كونه المرجع الأول والأخير في تنظيم المجتمعات البشرية. وقد استمرت هذه الحقبة بضعة آلاف من السنين وكان طابعها الأساسي، بنظر غوشيه، تبعية القرار في تنظيم المجتمع لمن هو خارج الذات الإنسانية، أي الإله، وفي ما بعد، الله. وهنا يستخدم غوشيه عبارة “الإيتيرونوميا” (Hétéronomie) {ويعني بها اختصارا: تبعية الذات} للدلالة على صفة هذه المرحلة من التاريخ السياسي للدين من خلال دوره الأساسي والمرجعي في تنظيم المجتمعات. ولم تنتقل المجتمعات البشرية في تنظيم نفسها الى مرحلة الـ”أوتونوميا” إلا بعد نشوء الدولة بمعناها الحديث، أي الى المرحلة التي خرج فيها العقل البشري من تبعيته الدينية في تنظيم المجتمع، وأصبح قرار الانسان في الشأن العمومي قرارا حرّا ومستقلا بذاته. وهنا تجدر الإشارة الى أن مرحلة الـ”الأوتونوميا” لا تعني عند مارسيل غوشيه إلغاء الإيمان الديني، بل تنحصر فقط في ان تنظيم المجتمع يتعلّق بالقرار الإنساني المتحرّر من هيمنة الدين على الشأن العمومي، دون المساس بالإيمان الديني الشخصي الذي يتمتّع به كل انسان وفق مبادئ حرية المعتقد، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وحرية الضمير، وما الى ذلك من حريات شخصية تكفلها أسس الدولة الحديثة الديمقراطية ومقوّماتها وأنظمتها.
لقد انطبعت الوضعية الحضارية العامة، لا سيما انطلاقا من الغرب، بمقولة “خروج الدين”، وذلك منذ القرن السابع عشر ولغاية الثمانينيّات من القرن العشرين حيث أخذت المسألة الدينية تعاود طرح الأسئلة الكبرى على الفكر الديمقراطي النظري وعلى تطبيقاته من خلال الأنظمة السياسية والاجتماعية المتحققة في العالم، أو في الدول والمجتمعات المتجهة نحو الديمقراطية. ومنذ تلك الفترة لغاية اليوم، يشهد المسرح الحضاري عودةً للدين الى طاولة النقاش العام في المجالات الفكرية، والسياسية، والتربوية، والثقافية بعامة، بعد ان تكررت الأحداث العنفيّة ذات الخلفيات الدينية في أماكن متعددة من العالم، وواكبتها حركات مطلبيّة وأزمات اجتماعية طاولت مبادئ الديمقراطية وأنظمة الحكم، بالإضافة الى القوانين التي تحكم قواعد الحياة الاجتماعية ومبادئ العيش معا.
وكان من نتائج ذلك عودة المفكرين وفلاسفة السياسة الى الانشغال بالظاهرة الدينية وتأثيراتها في مجتمعاتهم المتقدّمة ديمقراطيا، والتي أصبحت مجتمعات تعدّدية بسبب الهجرات الكثيفة اليها من الدول ذات المستوى الديمقراطي المنخفض والمأزوم اقتصاديا. ففي هذا الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي، ليست تعني مقولة “عودة الدين” الى الفضاء العمومي أن الدين قد عاد ليحتل مرجعيات الأنظمة السياسية ودساتيرها، وأن الحقيقة الإلهية أصبحت المرجعية الوحيدة للتشريع وبناء المؤسسات والحكم بين الناس باسم الله. إن إيجابيات هذه العودة تنحصر في إعادة الاعتبار الى أهمية الأسئلة التي تطرحها المسألة الدينية على كيفية تحديد الشروط الكافية لتحقيق الحريات المدنيّة والسياسية، وحرية المعتقد، وحرية الضمير، بناء على قيم العدل والمساواة داخل الأنظمة الديمقراطية.
ان “وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” تندرج في سياق مقولة “عودة الدين الى الشأن العمومي”، وهي تقدّم أجوبة أساسية وحاسمة عن الأسئلة الكبرى التي لا تزال مطروحة في النقاش العام الجاري منذ قرنين حول المواجهة بين الدين والدولة، وذلك من خلال رسائل عديدة توجّهها هذه الوثيقة في اتجاهات متنوّعة، وسوف نتوقّف هنا عند اثنين منها في موضوعي التعصّب، والتسامح، كما تنطوي جميع هذه الرسائل على دعوة ملحّة الى التجديد في الفكر الديني المتعلّق بتفسير النصوص الدينية وتأويلها وفق ما يحقّق مُرادَ المتكلّم (الله) الى مخلوقاته.
رسالة في رفض التعصّب
تتكرّر في “الوثيقة” عبارات “التعصّب”، والتعصب الأعمى”، و”التطرّف”، و”التطرّف الديني والقومي”، و “التشدّد”، باعتبارها أسبابا مباشرة لاندلاع الحروب بين الدول والشعوب والجماعات، ولكل أعمال العنف والارهاب التي “لا علاقة لها بصحيح الدين”. انها مجرد نتائج حتميّة لاستغلال الأديان في السياسة، كما وأنها نتيجة تأويلات لبعض رجال الدين الذين وظّفوا الشعور الديني لدفع الناس الى التقاتل في ما بينهم ” من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية ودنيويّة ضيّقة”. في هذا المبحث، وانطلاقا من وضعيّة الدين في لبنان وتأثيره على مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية، سوف نتوقّف عند واحد من أهم الأسباب التي نراها، بنظرنا، مؤدية الى التعصّب الديني: انه طريقة تعليم الدين في المدارس، وانجرارا منها الى طريقة تعليمه في بيوتنا لأبنائنا.
فمن حيث مضمون التعليم الديني الذي يتلقاه أبناء الوطن في المدارس، والكنائس، والمساجد، وفي بيوتهم من أهلهم والمحيطين بهم، فانه يقوم أساسا على فكرة مبدئية تفيد بأن الدين الذي ينتمون اليه هو الحقيقة المطلقة، وهو الأصحّ بين جميع المعتقدات الدينية الأخرى، وبالتالي فانه السبيل الوحيد الى تحقيق مشيئةِ الله والخلاصِ الأبدي. وهذا يعني ان الأديان الأخرى مخطئة في عقائدها وتعاليمها، وأن أتباعَها ليسوا على السراط المستقيم، لا بل يوصفون أحيانا لدى البعض بالكفّار. هذه الفكرة هي الأساس في التعليم الديني لدى كل الديانات، كما ان نتائجها واحدة في جميع المجتمعات التي تعنى بالتعليم الديني.
في نظرنا، إن هذه الطريقة في التعليم الديني، المبنيّة على ذلك الأساس المبدئي، من شأنها ان تزرع التعصّب في نفوس المتعلّمين، لأنها ترسّخ في أذهانهم الاقتناع بمبدأ ديني يعتبرونه الوحيد الصالح، فيعتنقونه بصفته المطلقة، ويتعصّبون لحقيقته الكاملة، والوحيدة، والكلّية، بحيث تصبح تصرفاتهم تجاه الآخر ترتدي صفة الحذر، والخوف، والاتقاء، والازدراء، كما يصبح تعاملهم مع الآخر المختلف مبنيّا على شعور العداء، والرفض، والكراهية، الى درجة الاستعداد لاستخدام العنف ضدّ جميع من يختلفون معهم في الدين وفي تحديد هوية الحقيقة وهوية من يمتلكها.
إن “وثيقة الأخوّة” تعتبر ان التعصّب هو سبب أساسيّ من أسباب الحروب، والاضطرابات، والنزاعات العنفيّة، وأعمال الإرهاب التي تحصل بين الشعوب والجماعات وداخل المجتمعات.
إلا انها، بالمقابل، لا تدعو الى “التعايش السلمي”، بحيث لا ترد هذه العبارة مطلقا في متن “الوثيقة” التي تكتفي بعبارة التعايش (بدون صفة) ومرفقة بعبارة “السلام”.
انها تدعو الى العيش معا عيشا أخويّا باعتبار ان “البشر جميعا أخوة”، بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وهذا الموقف الذي أطلقه المرجعان الدينيّان الأكبران في العالم، البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيّب، ليس مستندا الى دراسات فكرية، أو نظريات فلسفية أو أيديولوجية، بل انه مستند الى النصوص الدينيّة العائدة الى ديانة كلّ منهما. وبالتالي فهو ليس موقفا سياسيا، أو أيديولوجيا، أو إعلاميا شعبويّا، بل انه موقف دينيّ محض (لاهوتي وفقهي) يستند الى كلام الله، ويعلن على الملأ مُرادَ المتكلّم، أي ما يريده الله في كلامه المنزل الى البشر. وفي الحقيقة، ان أهمية “وثيقة الأخوّة” تكمن في كونها “إعلان إيمان” أو “شهادة إيمان” يفتتحانها بهذه البسملة الكونيّة: “باسم الله الذي خلق البشر جميعا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كأخوة فيما بينهم ليُعمّروا الأرض وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام”، ثم يشهدان أن البشر جميعا إخوة، وأن “الأخوّة الإنسانية تجمع البشر جميعا، وتوحّدهم وتسوّي بينهم”، وأن التطرّف الديني والتعصب قد أثمرا “في العالم بوادر حرب عالمية ثالثة كشفت عن وجهها بما خلّفته من قتلى وأرامل وثكالى وأيتام…”، وأن التمسّك بالدين في حقيقته وقيمه وأهدافه هو الكفيل بإلغاء التعصّب من النفوس وإشاعة السلام في كل مجتمع، وفي العالم. لم تكن الأديان يوما، تقول “وثيقة الأخوّة”، بريدا للحروب أو باعثة لمشاعر العداء والكراهية والتعصّب التي ما هي سوى حصيلة انحراف عن التعاليم الدينية، “ونتيجة استغلال الأديان في السياسة”، أو نتيجة “تأويلات طائفة من رجالات الدين ممن وظّف بعضُهم الشعور الديني لدفع الناس للإتيان بما لا علاقة له بصحيح الدين من أجل أهداف سياسية واقتصادية دنيويّة ضيقة”. ولذلك يطالب المرجعان الدينيان العالميان “بوقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرّف والتعصّب الأعمى، والكفّ عن استخدام اسم الله لتبرير اعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش(…)”. في هذا السياق، تُعلن “وثيقة الأخوّة” أن الدين نفسه هو الكفيل بالتصدّي للتعصب وإلغائه من النفوس والسلوك، لأن الله واحد، أما الاختلافات العقائدية واللاهوتية بين الأديان وداخلها فما هي سوى طرقات متنوعة ومختلفة تؤدي الى الله الواحد. ولا شك ان هذا الموقف مبنيّ على الآية 46 من سورة العنكبوت التي تتوجّه الى المسلمين عندما يجادلون أهل الكتاب، وقد جاء فيها: “وقولوا آمَنّا بالذي أُنزِلَ الينا وأُنزِلَ اليكم، وإلهُنا وإلهُكُم واحدٌ ونَحنُ لهُ مُسلِمون”. إن جميع المؤمنين بالله إنما يُسلمون أمورهم لله تعالى، وهو الواحد بين الجميع وللجميع بحيث لا يعود من سبب للتعصّب لفكرة دينيّة ضد فكرة، ولمبدأ دينيّ ضدّ آخر، ولا لإله مقابل آخر.
وأخيرا، تنطوي هذه الرسالة على دعوة صريحة الى تجديد الفكر الديني وما يتعلّق به من تفسير، وتأويل، واجتهاد فقهي ولاهوتي، بحيث تتكامل الأديان في قيمها ونظرتها الى الكائن البشري باعتباره قيمة بذاته فلا يستمدها من خارج ذاته، والى سبل تحقيق السلام بين الدول والشعوب بناء على الحرية والعدل والرحمة، تحقيقا للإرادة الإلهية التي جعلت الناس جميعا أخوة. وهذه الدعوة الى تجديد الفكر الديني تتضمّن منطقيا دعوة متلازمة معها الى تجديد الإيمان الديني بعيدا عن التعصّب والتطرّف والكراهية ضدّ الآخر. ولكن يبقى السؤال الذي ستجيب عنه الرسالة التالية: هل ان الدين يتصدّى للتعصّب ويلغيه بالاستناد الى مبدأ التسامح؟
رسالة في التسامح
في مجال التقاطع بين الأخلاق والسياسة، لا يسعنا الدخول في مناقشة مصطلح التسامح من الزاوية التفسيرية والنقدية إلا بمقارنته مع المصطلح الغربي Tolérance الذي يوازيه في المعنى، ويشكّل بالنسبة اليه مرجعه الثقافي والايديولوجي. وقد استَخدم، في بعض الأحيان، العديدُ من مفكري عصر النهضة العربية (1798-1914) المصطلح الغربي في كتاباتهم بلفظته الأجنبية وبالحروف العربية (توليرانس)، وذلك من أجل تدقيق المعنى الذي كانوا يقصدونه لدى استخدامهم عبارة “التسامح” وأحيانا “التساهل”، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، وفرح أنطون (1874-1922)، وجمال الدين الأفغاني (1838-1897)، ومحمد عبده (1849-1905) …
من المفيد التذكير بأن هذا المصطلح الغربي، الوافد الى الفكر العربي خلال عصر النهضة، قد ابتكره المفكرون الغربيون إبان الحروب الدينية التي أغرقت أوروبا في الدماء منذ أواسط القرن السادس عشر حتى أواسط القرن السابع عشر دون أن تنتهي فعليا إلا أواخر الثامن عشر مع الثورة الفرنسية عام 1789. لقد كانت الغاية من ابتكاره وإدخاله في قاموس التفاوض السياسي في الغرب، هي إيجاد محفّز ذي خلفية أخلاقية من شأنه التبرير لإرساء تسوية سياسية تـُنهي الحرب بين المتقاتلين حول الحقيقة الدينية، الكاثوليك والبروتستانت، في العديد من الدول الأوروبية آنذاك. هذه التسوية السياسية المبنيّة على مبدأ “التسامح” كان يمكن اختصارُها بالصورة التشبيهية الآتية: أن يبقى كلّ من الطرفين مقتنعا بحقيقته الدينية المطلقة دون أن يُعطى أيّ منهما الأحقيةَ تجاه الآخر بحيث يستطيع كلّ منهما، بحسب إيمانه، أن يرى الآخر مخطئا. ولكن بالمقابل كان على كلّ طرف ألاّ يحارب الآخر من أجل القضاء عليه وإلغائه من الوجود أو إرغامه على ترك معتقده الديني، وإلزامه بمعتقد مخالف لما يمليه عليه ضميره ووجدانه، بل أن يتركه بحرّيته الدينية ويغضّ النظر، ولو على مضض، عن “خطيئته” التي يُرجَأ أمرُ الفصل فيها الى الله تعالى. وبتعبير يتناسب مع مبدأ التسامح، كان على كل طرف أن يسامح الآخر بالتبادل وفق المبدأ المنطقي القائم على قاعدة الثالث المرفوع. بمعنى ان تلك التسوية السياسية طرحت أمام المتقاتلين خيارا من اثنين لا ثالث لهما: إما استمرار الحرب، وإما السكوت عن “خطأ” الآخر. وبهذا المعنى كان مبدأ “التسامح” بديلا عن الحرب والتقتيل المتبادل. وعلى هذه الصورة، شبه الكاريكاتورية، توقفت الحروب الدينية التي استمرت طيلة قرن من الزمن. وبالتالي، فإن مبدأ “التسامح” Tolérance أدى دورا إيجابيا حاسما في أوروبا بحيث أحلّ فيها فترة من السلم الداخلي أنتجت “عصر الأنوار” الذي افتتح مرحلة جديدة في الحضارة الغربية ما زالت آثارها حتى اليوم بارزة في الثقافة العالمية. ”
مقابل ذلك، تحدثت الدكتور حسن عبود عن توافق وثيقة الأخوة الإنسانية مع تحرير المرأة، استضافت في مقدمة حديثها بالتعريف عن أهمية اللقاء والإعلان عن الوثيقة وتوقيعها في ابو ظبي العام ٢٠١٩ من قبل قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الشيخ أحمد الطيب برعاية فضيلة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الرئيس الإماراتي، وبالجديد الذي حملته ان الوثيقة تخاطب باسم الله وباسم الإنسان وتناشد السلام العالمي باسم الأخوة الإنسانية.
لكن المقاربة الإنسانية التي حملتها معها د. حُسن عبود قد تنبهت الى البند المتعلق بالمرأة بأمرين:
ان بند المرأة يحمل خطابا قديما حين طالب بحق المرأة بالتعلم والعمل- علما المرأة أخذت هذا الاعتراف من قبل السلطة, للتعليم النظامي الأهلي منذ أواخر القرن التاسع عشر ومصر نموذج لذلك.
الامر الثاني: ان بند المرأة وضع مع بنود الأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة مما يدل ويشير ان المرأة لم تكن مشاركة في التفكير بالوثيقة وفي النقاشات واللقاءات بين الفاتيكان والأزهر. مما اضعف فكرة ان الوثيقة تخاطب الإنسانية جمعاء وان المخاطب يمثل الإنسانية جمعاء”
كما اقترحت د. حسن عبود تطوير الوثيقة لدمج المعرفة التي تقدمها النساء للسلام وأكدت ان القيمة المضافة للمرأة انها تقارب الموضوع بنظرة أكثر شمولية وبدون ممحاكات وبشجاعة تُحسب لها.”
وأشارت بنهاية المداخلة الى هذا الزمن الذي أسمته بزمن الخروج مثل ما ورد بالعهد القديم لكن في عهدنا الجديد شهدنا على زمن خروج العراقيين من أوطانهم والسوريون من أوطانهم واليوم الفلسطينيون من اوطانهم. فباسم الإنسانية حثت الضمير الى العودة الى إنسانيته لانهاء الصراعات والحروب والإبادة الجماعية”.
كما كانت كلمة للاعلامية ليا عادل معماري مدمجة بتحقيقات وتقارير خاصة عن دور الاعلام المسيحي في تطبيق وثيقة الاخوة الانسانية قالت فيها:”
في العام 2017 وفي المكان نفسه، وقفنا هنا واطلقنا الصوت حول كيفية تحقيق السلام المنشود ، واليوم نطلق الصرخة مجددا وسط الرياح العاتية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بحيث تراودنا أسئلة كثيرة تطرح نفسها في طليعتها: كيف سنواجه هذه الحرب الجديدة ونحافظ على ثقافتنا امام هذا الجرف الهائل من خليط معلومات أكثرها غير معروف الأصل والإنتماء، تجتاح خصوصياتنا وتعرضها للزوال وبخاصة الحرب الجديدة سلاحها وسائل الإعلام، والتي تشمل كل نواحي تاريخ الإنسان بدءا بالإقتصاد والسياسة مرورا بالثقافة وصولا الى موادنا الإستهلاكية”.
اكثر من ذلك، ان الحروب اليوم باتت تأخذ شكلا جديدا، فلم تعد هناك ضرورة لا للمدافع ولا للصواريخ، حروب اليوم هي عبر التقنيات الإلكترونية، والمنصات الرقمية، وشبكات المعلوماتية، والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج التشغيلية ما يدل ان “عالم الالكترونيات هذا يتغير “بسرعة وبخفة” وأحيانا “بخشونة”… ولم يعد سهلا إيقاف هذاالضخ الضخم من الأفكار والأخبار والمعلومات، من هنا يكمن دور الاعلام المسيحي في ارساء الكلمة الحق ومد جسر التواصل بين الأطياف كافة عبر نهج الحوار وزرع بذور التسامح والمحبة”.
كما تخللت اليوم الثاني مداخلات لكل من السيد خوسيه مانويل سانشيت كارو عن موضوع الأخوة انطلاقا من الكتاب المقدس، وكذلك محاضرة القاها الأخ سلفادور روس غارثيا الكرملي عن الأخوة حسب القديسة تريزا القديس يوحنا الصليب.