ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان سمير مظلوم وحنا علوان، أمين سر البطريرك الأب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان – حريصا الأب فادي تابت، بمشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور رابطة خريجي معهد الرسل – جونية وعائلة المرحوم روميو لحود وحشد من الفعاليات والمؤمنين.
بعد الإنجيل المقدس، ألقى الراعي عظة في “أحد الأبرار والصديقي” بعنوان “كنت جائعا فأطعمتموني”. قال فيها: “تذكر الكنيسة، في هذا الأحد، وطيلة الأسبوع، الأبرار والصديقين. هي كنيسة الأرض المجاهدة، من أجل بناء ملكوت الله في المجتمع البشري وفي العالم، تكرم كنيسة السماء الممجدة، التي يبلغ معها ملكوت الله ذروة إكتماله. فتستشفعها لكي يسلك أبناؤها وبناتها، الذين في العالم الطريق الذي سلكه القديسون، وهو محبة الأخوة في حاجاتهم، وتسمى “بالمحبة الإجتماعية”. وقد تماهى الرب يسوع مع المحتاجين: فإذا جاع أحدهم، جاع هو، وإذا أحد أطعمهم، أطعمه هو، وسماهم “إخوته الصغار”. ولذا قال: “كنت جائعا فأطعمتموني” (متى 25: 35)”.
أضاف: “يسعدنا أن نحتفل معا بهذه الليتورجيا الإلهية، فأرحب بكم جميعا مع تحية خاصة إلى رابطة خريجي معهد الرسل جونيه: إلى مجلسها برئيسها الفخري الأب معين سابا رئيس معهد الرسل، وبرئيسها الأستاذ غسان بلان، وبسائر أعضاء المجلس. ونذكر أعضاء الرابطة، ونصلي لراحة نفوس الذين انتقلوا إلى بيت الآب. تأسست الرابطة سنة 1956 أي منذ 67 سنة. وقد لمع عدد كبير من الخريجين في المجتمع. فكان منهم أساقفة ووزراء ونواب وقضاة ومحامون وأطباء وإعلاميون وعسكريون وسواهم. تميزت الرابطة بوحدتها وبولائها لمعهد الرسل ومساندة طلابه، فتقوم بكثير من المبادرات لهذا الهدف. نتمنى لها دوام الإزدهار والمساعدة الإلهية لتحقيق مقاصدها البناءة. ونحيي أسرة المرحوم روميو لحود الذي سطر صفحات مجيدة في تاريخ الفن المسرحي والإبداع في الغناء والتأليف والتلحين والإنتاج والإخراج. وبذلك حمل إسم لبنان عاليا إلى الدول فكرمته وقدرته بالأوسمة الخمس. لقد ودعناه مع عائلته: إبنته وحفيدته وشقيقه وشقيقتيه وأصدقائه الكثر، بل مع اللبنانيين، منذ ما يزيد على الشهرين. ولكن مهما طال الزمن، يبقى إسم روميو لحود حيا في الذاكرة والقلوب بما ترك من إرث في الفن والإبداع. نصلي في هذه الذبيحة الإلهية لراحة نفسه، ولعزاء أسرته ومحبيه”.
وتابع: “كنت جائعا فأطعمتموني” يؤكد الرب يسوع أننا في مساء الحياة سندان على المحبة الإجتماعية، التي فصلها على سبيل المثال في ست حالات يمر فيها كل إنسان ويحتاج إلى محبة الناس تجاهه، وفي الوقت عينه هو مدعو ليساعد من هم في إحدى هذه الحاجات. الحالات الست لا تقتصر على الحاجات المادية بل تشمل أيضا تلك الروحية والمعنوية والنفسية والاجتماعية والحقوقية. فالجائع يجوع إلى خبز وطعام، وأيضا إلى كلمة الله والعلم. والعطشان يعطش إلى ماء، وأيضا إلى عدالة وإنصاف وكلمة حق، وإلى غفران ومصالحة. والغريب غريب عن وطنه ومحيطه، وأيضا غريب عن ذاته وداخله، وعن أهل بيته، وعائش في غربة نفسية وعاطفية وسط عائلته ومجتمعه. والعريان يفتقر إلى ثوب ولباس، لكنه أيضا يعرى من كرامته وحسن صيته بالنميمة والسخرية والتجني والافتراء والكلام الكاذب عنه. والمريض مريض في جسده وأعصابه وعقله، وأيضا في انحرافاته المرضية من نوع الانحرافات الجنسية والإدمان على السكر والمخدرات ولعب القمار. والسجين سجين في الأسر وراء القضبان، وأيضا أسير أنانيته وشهواته ونزواته، وأسير مواقفه وآرائه، وفاقد إرادته وقدرته على التمييز باستعباده لأشخاص وإيديولوجيات ومصالح رخيصة لا يميز معها بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، وبين الحقيقة والكذب”.
وقال: “هذه حالات يمر فيها أو في بعضها كل إنسان كبيرا كان أم وصغيرا. وهو في حالته هذه من “إخوة يسوع الصغار” (متى 25: 40). ومدعو ليستحضر المسيح في حالته وألمه، ويضمها إلى آلام المسيح فتنال قيمة خلاصية وبعد فداء، على مثال بولس الرسول: “إني أتم في جسدي ما نقص من آلام المسيح” (كول 1: 24). وعندما يكون، في حالة إيجابية، هو من المدعوين لمساعدة غيره من هؤلاء “الإخوة”، مكرما فيهم شخص المسيح وآلام الفداء الجارية فيهم. عندما تكون أنت “من إخوة يسوع الصغار”، كانت لك نعمة، أما عندما تكون أمام “أخوة يسوع الصغار” الذين يحتاجون إلى محبتك، فهذه لك دعوة ومسؤولية ستدان عليها. وذلك أنها واجب من باب العدل. يقول القديس يوحنا فم الذهب: “إن عدم إشراك الفقراء في خيراتنا الشخصية هو سرقتهم وقتلهم.
” العدل فضلية أخلاقية قوامها إرادة ثابتة وراسخة لإعطاء الله والقريب ما يحق لهما”. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1807). العدل تجاه الله يدعى “فضيلة العبادة”، والعدل تجاه القريب هو احترام حقوق كل شخص، وجعل العلاقات البشرية في إنسجام يعزز الإنصاف والعدل، على أساس من الحقيقة والخير العام (راجع إفتتاحية النهار بقلم المطران كيرللس سليم بستروس: العدل. السبت 4 شباط 2023). إن الأبرار والصديقين الذين تذكرهم الكنيسة اليوم هم الذين عاشوا في هذه الدنيا الحق والعدل تجاه “الأخوة الصغار” الذين يتكلم عنهم المسيح الرب في إنجيل اليوم”.
أضاف: “إن حالة الشعب اللبناني الذي يعاني من الفقر والجوع، ومن حرمانه الدواء والغذاء، ومن فقدان الحق والعدل، إنما هي نتيجة سوء إداء السياسيين الممعنين في خيانة الشعب.نعم في خيانة الشعب الذي ائتمنهم على مؤسسات الدولة لكي يحكموا له بالحق والعدل، ويؤمنوا الخير العام الذي منه خير جميع المواطنين وخير كل واحد. ذلك أن نواب الأمة بالطاعة العمياء لمرجعياتهم يحجمون عن انتخاب رئيس للجمهورية، ويؤثرون الإنهيار المتفاقم في المؤسسات الدستورية والعامة، وقهر الشعب، وإرغام خيرة قوانا الحية على مرارة الهجرة. أليست هذه خيانة عظمى؟ بل جرما عظيما بحق الشعب اللبناني والدولة؟ كيف بإمكانهم أن يغمضوا أعينهم عن رؤية شعبنا الفقير المقهور، وعن رؤية مؤسسات الدولة تتهاوى وتسقط؟ وأن يصموا آذانهم عن صراخ المرضى المحرومين من الدواء وإمكانية الإستشفاء؟ أإلى هذا الحد من الحقد والكيدية بلغ نواب الأمة ومرجعياتهم؟ وما القول عن القضاء، هذا العمود الفقري للدولة؟ الذي يهدم أمام أعيننا من أهل السياسة بتدخلهم وضغوطهم، ومن أهل القضاء أنفسهم المنصاعين لهم؟ هذه كلها نتيجة غياب رأس للدولة”.
وتابع: “يتكلمون عن ضرورة الحوار من أجل الوصول إلى مرشح توافقي، فيما البعض يتمسك بمرشحه ويريد فرضه على الآخرين، والبعض الآخر يتمسك بحق النقض ضد ترشيح هذا أو ذاك من الشخصيات المؤهلة وهي عديدة. أول ما يقتضي هذا الحوار، إذا حصل، الإنطلاق أولا من لبنان ووضعه ومن حالة اللبنانيين، ومن ثم البحث عن المرشح الأفضل والأحسن لهذا الظرف. ويقتضي ثانيا التجرد من الأنانية الرامية إلى المصلحة الخاصة. يقول الكاتب والمفكر الفرنسي بسكال: “الأنا ظالم بحد ذاته، إذ إنه يجعل نفسه محور كل شيء، ولا يقبل الآخرين بل يرغب في استعبادهم. فكل أنا هو العدو ويريد أن يتسلط على جميع الناس.” (راجع النهار: الإفتتاحية المذكورة)”.
وختم: “فلنصل، أيها الإخوة والأخوات الأحباء، لكي يعضدنا الله جميعا بنعمته لنعيش المحبة الإجتماعية على مثال الأبرار والصديقين ، ولكي يرد الكثيرين إلى الإيمان وقداسة السيرة، فنستحق أن نسبح ونمجد الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد”.
بعد القداس استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في القداس.