ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “يعرف الجميع مثل السامري الشفوق، إلا أن قليلين ينتبهون إلى أن مثل الرجال العشرة البرص الذي سمعناه في قراءة إنجيل اليوم هو مثل السامري الشكور. إن تسعة من الرجال البرص الذين ذكرهم إنجيل اليوم كانوا يهودا، أي من الشعب الذي يعتبر أنه المختار من الله، فيما كان العاشر سامريا. اليهود يقولون عن أنفسهم أنهم مؤمنون، لأنهم يحفظون الناموس والشريعة الإلهية منذ حداثتهم، إلا أن الإيمان الحقيقي لا يظهر من خلال حفظ الحرف، بل من خلال تطبيقه أيضا. الشكر أو الامتنان من المواضيع الأساسية في الكتاب المقدس، ومن لا يطبقه يكون حائدا عن الشريعة. يقول الرسول بولس: «إفرحوا كل حين، صلوا بلا انقطاع، أشكروا في كل شيء، لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم» (1تس 5: 16-18). إذا، على المؤمن أن يكون شكورا في كل حين، أي أن يكون الشكر أسلوب حياته، يتدرب عليه في مسيرته الروحية، حتى يفيض تلقائيا من قلبه وشفتيه”.
أضاف: “جاء في سفر المزامير: «إحمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته» (136: 1). تعلمنا هذه الآية أن نكون شاكرين الله لسببين لا يزولان: صلاحه ورحمته الأزليين. هذا ما فهمه الأبرص السامري الشكور. فالتسعة اليهود تابعوا طريقهم باتجاه الكهنة، لكي يتبرروا أمام الناموس والشريعة التي تقول إن الأبرص يجب أن يخرج خارج الجماعة لأنه نجس. ذهبوا ليتبرروا أمام الناس. أما العاشر، الذي يعتبره اليهود نجسا، حتى لو لم يكن أبرص، لأنه سامري، فقد لمست قلبه رحمة الرب وصلاحه غير المتناهيين، فامتلأ فرحا وامتنانا، وعاد ليشكر واضع الشريعة ومكملها بوصية المحبة. تقرأ الكنيسة على مسامعنا إنجيل البرص العشرة بعد موسم حافل بالأعياد الخلاصية التي تبين لنا تنازل المسيح الأقصى، واحتماله الخضوع للناموس من أجل خلاصنا من برصنا، أي من خطيئتنا. تضعنا الكنيسة أمام مفترق طرق، علينا أن نقرر أيها نختار: الخوف والسير بحسب حرفية الناموس وتبرير النفس أمام البشر، أو الشكر والامتنان لما فعله المسيح من أجلنا”.
وتابع: “ليست مصادفة أن يدعى القداس الإلهي «سر الشكر». نحن نشكر الله في إجتماعنا الليتورجي «لأن كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة» (يع 1: 17) هي منحدرة من لدنه، كما نقول في نهاية القداس الإلهي، عندما يخرج الكاهن ويقف أمام أيقونة السيد، كما وقف الأبرص الشكور أمامه ممتنا لما صنعه من أجله. نحن نشكر الله الذي لا يزال يرحمنا ويعطينا جسده ودمه مأكلا ومشربا، على الرغم من خطايانا الكثيرة. نشكره لأنه يجعلنا جسدا واحدا، جسده، عندما نجتمع حول الكأس الواحدة لننال سلامه، كما يقول الرسول بولس: «وليملك في قلوبكم سلام الله الذي إليه دعيتم في جسد واحد، وكونوا شاكرين» (كو 3: 15). ربما كان البرص العشرة حافظين للكتاب، خصوصا لأنهم عانوا ألم الإنسلاخ عن جماعتهم، فترجموا معرفتهم بصراخهم نحو الرب يسوع ليرحمهم، كما قال النبي داود: «إلى الرب صرخت في ضيقي فاستجاب لي» (مز 120: 1). عملهم هذا كان اعترافا صارخا بأن يسوع هو الرب الذي سيخلصهم من آلامهم، الأمر الذي يؤكده انتظارهم له واستقبالهم إياه. لقد أدركت كنيستنا هذا الموضوع فرتلت: «يا ربي إليك صرخت فاستمع لي، أنصت إلى صوت تضرعي حين أصرخ إليك» (مز 141: 1)، وبعد هذا الصراخ يشرق «النور البهي»، نور المسيح المخلص من برص الخطايا”.
وقال: “نتعلم من البرص العشرة أن الصلاة هي صرخة إيمان، وقد قال الرب يسوع: «كل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه» (مت 21: 22). هذا ما حدث مع البرص، ويحدث مع الكثيرين اليوم، إلا أن الموقف تجاه عمل الله في حياة البشر يختلف من إنسان إلى آخر، بحسب أولوياته: هل يريد أن يكون متعلقا بالجماعة الأرضية كالتسعة، أو متعلقا بالمسيح وملكوته كالأبرص السامري الشكور”.
أضاف: “في حين يسمع المسيح الإله صراخ البشر الذين تنازل ليأخذ صورتهم، نجد مسؤولي بلادنا يستعلون على أبناء جنسهم، وينصبون أنفسهم حكاما فوق البشر، يقضون بما يلائمهم، صامين آذانهم عن صراخ الجياع وتنهدات الأمهات وبكاء الأطفال وتأوهات المرضى. كيف يسمع هذه الأصوات من لم يصل إلى آذانهم دوي انفجار هز العاصمة والعالم أجمع، وما هز ضمائرهم، فلم يحركوا ساكنا، بل اجتهدوا لتعطيل كشف الحقيقة، وما زلنا نراهم يتعرضون لذوي الضحايا، عاملين على كم الأفواه وطمس الحقيقة وإسكات صوت العدالة”.
وتابع: “إن ما حصل بالأمس من توقيف شاب يطلب معرفة حقيقة التفجير الذي أودى بشقيقه ورفاق له، واعتداء القوى العسكرية على المحتجين على توقيفه، بمن فيهم كاهن، هو أمر مرفوض ومدان. هل يعي من أزعجه غضب الشاب الذي تلفظ بكلام صادر عن قلب مجروح وكسر زجاجا في قصر العدل أن جزءا كبيرا من العاصمة قد دمر وأن مئات من أبنائها تمزقت أجسادهم أشلاء وآلافا من الجرحى والمعوقين خلفهم التفجير الآثم؟ ويستكثرون على ذوي الضحايا الإحتجاج والمطالبة بالحقيقة والعدالة؟ أين كان القضاة والأمنيون والمسؤولون عندما حصلت الكارثة في بيروت؟ ولماذا لم نر اندفاعهم في ملاحقة مسببيها وتوقيفهم؟ وعوض معاقبة الجناة ها هم يمارسون سلطتهم على ذوي الضحايا وينتقمون من المعتدى عليهم. بئس سلطة تستقوي على الضعيف ولو كان صاحب حق وتمالئ المجرم والجاني والفاسد إما تواطؤا معه أو خوفا منه. من واجب القيادات السياسية والعسكرية والأمنية الدفاع عن المظلوم في وجه الظالم، ومن واجب القضاة الحكم باسم الشعب لا على الشعب. لذلك أخاطب ضمير كل مسؤول وكل قاض نزيه وشريف أن أوقفوا هذا التنكيل اللاأخلاقي بذوي الضحايا الموجوعين وهذا التجاوز اللامهني للقانون وافرضوا العدالة. أما معرقلو التحقيق والهاربون من وجه العدالة فإن نجحوا في الخلاص من عدالة الأرض كيف سينجون من عدالة السماء؟”
وسأل: “من يحاسب من يعطل العدالة ومن يستبيح حدود الدولة ومن يحرم المواطنين من الكهرباء ومن يرتب على الدولة المفلسة غرامات وأعباء؟ من يعاقب الفاسدين والظالمين وسارقي أموال الناس ومفجري العاصمة وقاتلي أبنائها؟ من يعيد الروح إلى الضحايا؟ لو كان أحد ضحايا الكارثة ابن أحد المتمردين على القضاء هل كان سكت أو تصرف بهذا الاستهتار؟ إن من لم يأبه بعاصمته المدمرة وبجراح أبنائها الجسدية والنفسية، هل سيهتم بمصير البلد وأموال الناس؟ نحن بحاجة إلى مسؤولين لا يتلهون بأنفسهم بل يعملون على ابتداع خطة تستند إلى رؤية واضحة تعيد بناء الدولة وتخلصها من آثام هذه الطبقة التي حكمتها لعقود وهيمنت على ناسها، وتناحرت فيما بينها، وتقاسمت خيراتها، وأتت على كل ثرواتها. نحن بحاجة إلى رأس للدولة وإلى دم جديد ينعش جسد هذا الوطن المهترئ، ويعتمد أساليب جديدة ترتكز على النزاهة والعلم، وتعتمد المساءلة والمحاسبة وإنزال العقاب في كل من يخل بالدستور أو يستهين بالدولة وهيبتها وسيادتها، أو يتجرأ على التدخل في عمل القضاء أو مد اليد إلى المال العام. نحن بحاجة إلى قامات كبيرة تحكم بالعدل وتتخذ مواقف كبيرة وتنتج حلولا عظيمة”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نتمثل بالإيمان الصارخ الذي تحلى به البرص العشرة معا، لأن صرخة الألم النابعة من الإيمان العميق بمخلص وحيد هو الرب يسوع، تستطيع أن تجلب الخلاص للجميع. دعوتنا أن نشكر الله على كل شيء مثل الأبرص العاشر، وألا ننسى العودة إلى الله، لأن الخلاص لديه وحده. فلنضع قلوبنا فوق ولنشكرن الرب لأن «منه وبه وله كل الأشياء، له المجد إلى الأبد، آمين» (رو 11: 36)”.