ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداسا إلهيا في كاتدرائية مار جاورجيوس في بيروت بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، ألقى عوده عظة قال فيها: “كثيرا ما يتم لقاؤنا مع المسيح في خضم عواصف الأحوال السيئة والظروف الصعبة. يتم هذا اللقاء على أرض لا يثبتها إلا الإيمان. فقلة الإيمان تفتح الهوة وتغرق كل من يوجه انتباهه نحو الريح المعاكسة، فيرى اضطراب عناصر الطبيعة، وبسبب منطقه البشري المحدود يشك بقوة الكلمة التي أبدعت الطبيعة. إن لقاء المسيح في التجارب الكبيرة يحتاج إلى جرأة ونكران للذات. علينا ألا ننسى أن التلاميذ، داخل اضطراب الأمواج، لم يتعرفوا على وجه معلمهم. فحضوره الضابط الكل ملأهم خوفا، وظنوا أن المحبة المتجسدة، الإله الوديع المتواضع القلب، هو مجرد خيال، ومن الخوف صرخوا. إذا، نحن لا ندرك بسهولة وجه المسيح البهي في خضم الأحوال الصعبة، لأن حضوره يخيفنا. نقاوم رؤيته بالصراخ، وهذا لا يعني بالصلاة، بل بصوت الفزع واليأس اللذين لا يأتيان بنتيجة. طبعا، المسيح لا يتركنا في اضطراب أمواج الأفكار المظلمة، بل يعطينا الشجاعة بكلمته وقوله: تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا. ولأننا لا نستطيع أن ندركه بأعين نفوسنا، يتوجه إلى سمعنا. عندما لا يراه ذهننا، نجده يسندنا بكلمته. في هذه الحال، نحتاج إلى مجازفة بطرس الرسول الجريئة، بطرس القائل: “يا سيد، إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء”. ليست كلمة بطرس هنا تعبيرا عن نقص في الإيمان، بل هي تعبير عن المحبة والتمييز. لقد جرب الروح «هل هو من الله (1يو 4: 1). رغب في لقاء معلمه، لكن الخوف من الضلال حد من شوقه، لذلك تفحص حقيقة الأمر الظاهر. بدأ يفهم، في تخبط الأمواج، بعض خفايا محبة المسيح غير المدركة. طلب عطية الله التي تزدري بالمخاطر، وفي الوقت نفسه أخرج ذاته من أمان المركب إلى هيجان الأمواج”.
أضاف: “إن جرأة الرسول بطرس المليئة بالمجازفة، هو الذي خاطر بحياته لكي يلتقي بالمسيح، ترسم معالم مسيرتنا الروحية، في خضم حياتنا اليومية الهائجة، المليئة بالمخاطر. الإيمان يتطلب جرأة ونكرانا للذات، ولكي ينبت فينا، علينا أن ننقي أنفسنا من التعلق بالأشياء والأفكار، وأن ننعتق من الفزع الذي تخلقه أنانيتنا ومحبتنا الكبيرة لأنفسنا، عندما نواجه المخاطر. لذلك، من الضروري أن نصبح مجازفين. الأصح أن يلاحظ المرء أن هذه الأمور كلها هي نتيجة الإيمان وليست شرطا له. لكننا، في هذه الحالة، لا نقدر أن نفصل الشروط عن النتائج. يمكن القول إنها تظهر وتنمو معا، والواحدة تغذي الأخرى. الإيمان يغذي الجرأة، والجرأة تفعل الإيمان، وتجذب نعمة الله التي بدورها تعلم القلب الحقيقة التي يؤمن بها. الإنسان الجريء المؤمن يخاف لأنه يعي عجزه، ويعرف سهولة الوقوع في الضلال، لذلك يختار طرقا صعبة من أجل كلام المسيح. جرأته هي نتيجة الخوف. قد يبدو الرابط غريبا، لكنه بدء الخلاص. فالخوف من الموت الأبدي ومن الخطيئة التي تفصلنا عن نعمة الله يقود الإنسان إلى قرارات جريئة تعارض حب الذات، وحب الراحة الجسدية، وتشتت الذهن في أمور هذا العالم الباطلة الخداعة”.
وتابع: “إن الآباء القديسين جازفوا من خلال نسكهم ومحبتهم. لم يأسفوا على أجسادهم، لأنهم أحبوا خلاصهم حقا. أخضعوا الجسد للنفس وتحلوا بالتواضع، لذلك كانوا يسرون كلما حملهم الإيمان ومحبة الناس على المجازفة بكرامتهم ومقامهم، أي بالأمور التي تدعم الكبرياء والأنانية. لقد كان الآباء، خصوصا الذين كانوا أساقفة، ولا يزالون، مدركين أنهم خدام للشعب، حتى ولو رتل لهم المرتلون أنهم مقامون من الله مطارنة على أبرشياتهم. المقام من الله يعرف أنه مرسل ليحب ويخدم ويغسل الأرجل، لا لكي يستقوي ويتعظم ويفتخر، لأن الله لا يخالط المستكبرين، بل يبارك المتواضعين. من هنا، يجازف أبناء الله الحقيقيون بكرامتهم، ويصمتون إذا جرحوا ونكل بهم، على مثال ما حدث مع القديس نكتاريوس، أسقف المدن الخمس، وسواه من القديسين. لا يثورون كموج البحر، لأن الغضب يغرقهم في الخطايا، ولا يجندون من يدافع عن كرامتهم، لأن كرامة المسيحي من كرامة المسيح الذي سخر منه، وألبس أرجوان الهزء، المصلوب، والقائم بعد الصلب. عندما تجرأ بطرس على خوض الأمواج، اختبر قوة كلمة المسيح. كان يدوس على المياه وكأنها أرض يابسة. غير أن قوة الريح وتهديد الطبيعة انتزعا انتباهه فخاف، عندئذ صرخ: «يا رب نجني. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المسيح أنب بطرس وأنهضه من دون أن يوقف هبوب الرياح. لقد أراد أن يوضح له أنه لم يغرق بسبب هيجان الريح، بل لقلة إيمانه. فقد تجرأ الرسول وقام بأصعب الأمور ماشيا على المياه، وفيما هو يعيش الأعجوبة خاف من الرياح عندما أصبح قريبا جدا من الرب. فالإنسان لا يستفيد شيئا إن كان أقرب ما يمكن إلى المسيح، إن لم يقترب عن إيمان. إن نتيجة عدم إيمانه أخرجت منه صرخة صلاة. هكذا يعلمنا كيف تصبح لجة التجارب، التي تحاول أن تغرقنا، أو ترسلنا إلى أعماق الجحيم، أرضا ثابتة. الصلاة تتحدنا بالمسيح، تحولنا من أناس خائفين إلى جريئين، تنجينا من الغرق وتصلح عدم إيماننا بإظهار الإيمان الذي يصنع العجائب”.
وقال: “بلدنا بحاجة إلى إيمان يصنع العجائب. لبنان بحاجة إلى أن يتجاوز أبناؤه ومسؤولوه أنانياتهم ومصالحهم وألا يعملوا إلا من أجل مصلحته، لأن كرامتهم من كرامته، ومصيرهم من مصيره. لذا، وكما يتطلب الإيمان جرأة ونكرانا للذات، يتطلب الوطن جرأة من أبنائه ليتخلوا عن مصالحهم وغاياتهم، وينكروا ذواتهم من أجل إنقاذ وطنهم. هنا لا بد من التذكير أن على مجلس النواب أن يحزم أمره ويلتئم من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، في المهلة الدستورية المحددة، عل روحا جديدة تنسل إلى لبنان وتعيده إلى الحياة. والرئيس الذي نريده هو رئيس قريب من شعبه، يعي هموم الشعب، ويتبنى أحلامه، ويعمل على تحقيقها. عاشق لوطنه، ناذر النفس لخدمته، متخليا عن ذاته وأنانيته ومصلحته. صاحب هيبة يعيد للدولة هيبتها وسيادتها واستقرارها، ويحسن قيادتها بحكمته وعلمه وخبرته لا بأتباعه. رئيس يعيد للبنان مركزه في قلوب أبنائه أولا، ثم في محيطه والعالم، يبني مستقبله على ركائز متينة لا تزعزعها أدنى العواصف، صاحب رؤية واضحة وشخصية قوية بتواضع، محاور ذكي يحسن الإصغاء إلى محاوريه، ويحسن اختيار وقيادة فريق عمله، يستبق الأحداث ويستشرف المستقبل. شجاع حيث تدعو الحاجة ووديع حيث يجب، لا تحيز عنده ولا انتماء إلا للبنان، يحترم الدستور والقوانين ولا يتساهل مع من يخالفها، يطبق المبادئ الديمقراطية، يحترم القيم ولا يساوم أو يتنازل عن حق. باختصار، نحن بحاجة إلى رئيس متحرر من أثقال المصالح والإرتباطات، يضع مصلحة لبنان نصب عينيه، ولا يعمل إلا من أجل تحقيقها، فيلتف الشعب حوله ويقتدي به”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نتكل على الله وألا نخاف في كل المصاعب التي نمر بها. على أبناء هذا البلد أن يتشبثوا بالإيمان، لا بالزعماء، لأن الإيمان بالله يخلص من الموت، لكن التمسك بالزعيم، المتمسك بالكرسي والمال والمصلحة، لا يوصل إلا إلى أعمق دركات الجحيم. لا تدعوهم يزعزعون إيمانكم وثقتكم بالله، عاملين كالأمواج الهائجة على نفوسكم النقية المؤمنة، بل واجهوا بثبات عزم، وإيمان راسخ، والله سينجينا من أشراك الشرير”.