ليس غريباً على السلطة السياسية أن تستغل التباينات بين مكوّنات القطاع العام لضرب بعضها بالبعض الآخر. كان هذا دأبها منذ زمن بعيد حيث تترك، في كل مرة، القطاعات الوظيفية تغرق في انقسامات أفقية وعمودية لقطع الطريق على أيّ تحرّك مشترك بينها، أو مجرد التفكير بتشكيل تنظيمات نقابية تمثل أداة ضغط تضرّ بمصالح أصحاب الرساميل
نجحت السلطة السياسية ولا تزال في اللعب على التناقضات الداخلية وتضارب المصالح بين القطاعات الوظيفية. استطاعت تجزئة موظفي القطاع العام إلى فئات داخل كلّ قطاع وظيفي، وبات لكلّ فئة منها مطالبها الخاصة، ما عزّز مناخ عدم الثقة فيما بينها. وأصبح «ردم الهوة» مصطلحاً مستخدماً للتعبير عن حاجة فئة وظيفية معيّنة إلى تقليص الفجوة مع الفئة الوظيفية الأعلى. وما الرشوة المصرفية الأخيرة بتحويل رواتب القضاة من سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة للدولار الواحد) إلى سعر صرف 8 آلاف ليرة، سوى استمرار لتطبيق سياسة «فرّق تسد» القديمة الجديدة.
لا تصنيف وظيفياً
لم يحدث، بحسب مصدر نقابي، منذ تأسيس القطاع العام، أن ارتبط إعداد السلسلة أو إعطاء زيادات على الرواتب لهذا القطاع أو ذاك بالتصنيف الوظيفي. فالتصنيف المعتمد هو نفسه منذ أكثر من نصف قرن، والاعتبارات التي تحكم الزيادات والمكافآت والحوافز عشوائية ولا علاقة لها بالفوارق المنطقية التي تستند إلى تقييم الشهادات العلمية وخصوصية الوظيفة وحجم ساعات العمل مثلاً، إنما هي نابعة من مكان آخر تماماً، رهن موازين قوى بين القطاعات. فالسلطة تستنسب وتعطي فئة أكثر من أخرى وعندما كانت تريد مثلاً أن «تكمش» رأس الإدارة العامة كانت تمنح «علاوات» للمديرين العامين وموظفي الفئة الأولى.
تعديل الرواتب كان يحصل أحياناً تحت ضغط الإضرابات والاعتصامات، إذ نال أساتذة التعليم الثانوي الرسمي في عامَي 1999 و2010، عشر درجات ونصف الدرجة كتعويض عن الخسارة التي لحقت برواتبهم من جراء قرار دمج التعويضات في أساسات الرواتب في عام 1998، كما نال معلّمو التعليم الأساسي أربع درجات ونصف الدرجة. يومها، قال الأساتذة الثانويون إن معلّمي الأساسي لم يتحرّكوا ونالوا الدرجات على ظهرنا.
وقبل سنوات قليلة، خرجت أصوات تتحدّث عن التمييز واللامساواة في التشريع بين أصحاب الحقوق في سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة التي أقرّت عام 2017.
بين القضاة وأساتذة الجامعة
إلى ذلك، صُحّحت رواتب القضاة بموجب القانون الرقم 173 بتاريخ 29/8/2011 (تحويل سلاسل رواتب القضاة)، كذلك صحّحت رواتب أساتذة الجامعة اللبنانية بموجب القانون رقم 206 تاريخ 5/3/2012 (تحويل سلسلة رواتب أفراد الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية ومعاشات المتقاعدين لديها)، بما يتناسب مع نسبة التضخم، فيما حُرم من التصحيح في ذلك الوقت، الأساتذة والمعلمون وموظفو الإدارة العامة.
وفي وقت لاحق، وزّع أساتذة الجامعة جدول مقارنة يظهر تطوّر الفروقات بين رواتبهم ورواتب القضاة، إذ كانت رواتب الأساتذة في القانونين 717/98 و8/63 تزيد على رواتب القضاة بنسبة 7%، بينما بلغت هذه الزيادة لرواتب القضاة 31 % وفق إقرار موازنة 2018، بعدما كانت الزيادة فقط 10% بموجب القانون173/2011. وأشار الجدول إلى أن نسبة زيادة راتب القاضي على راتب الأستاذ الجامعي أصبحت 31%، أما راتب موظفي الفئة الأولى فيزيد 22%على راتب الأستاذ الجامعي وموظفي الخدمة المدنية 41%. بعدها، راحت رابطة الأساتذة المتفرّغين تطالب بردم الهوة مع باقي القطاعات، باعتبار أن السلسلة التي أعطيت للأساتذة بموجب القانون 206، لم تلحظ سوى زيادة 38%، بينما تراوحت الزيادات في السلاسل الأخرى التي أقرّت عام 2017 في القانون 46 ما بين 120 و200 في المئة، في حين أن الأساتذة الثانويين قالوا يومها إن زودتهم لم تُجاوز 85 في المئة. يومها أيضاً، قارن الأساتذة المتفرّغون في الجامعة أنفسهم بباقي القطاعات، لكونهم لا يحق لهم العمل خارج الجامعة بعكس باقي العاملين في القطاع العام، «فالقضاة وموظفو الفئة الأولى يسمح لهم بالتعليم 120 ساعة سنوياً في الجامعات، ومن الفئات الأخرى يسمح لهم بالتعليم 160 ساعة سنوياً، ويتاح لأساتذة التعليم الثانوي والمهني والتقني ومعلمي التعليم الأساسي بالتعاقد 10 ساعات أسبوعياً في التعليم العام أو الخاص».
بين المعلمين وموظفي الإدارة العامة
كان المعلّمون متأكدين بأن هناك «دائرة تبادل مصالح بين السياسيين والموظفين الإداريين، لذا حصلوا على كل ما يريدون من سلسلة الرواتب الأخيرة». وباتوا يردّدون باستمرار بأن المعلم لا يملك سوى راتبه، فيما ينال الموظف الإداري بدلات ساعات إضافية ومكافآت سنوية وبدل تمثيل في اللجان والمشاريع والمؤتمرات. وبدوا مقتنعين بأن رواتبهم يجب أن تكون الأعلى بين كل رواتب الموظفين كما في كلّ دول العالم، بالنظر لما يسمونه خصوصية مهنة التعليم.
أما الموظفون الإداريون فكان لديهم مقارباتهم المختلفة، المنطلقة من أن مشروع قانون السلسلة نفسه نصّ في أسبابه الموجبة على ضرورة ردم الهوة بين الأسلاك وإنصاف موظفي الإدارات العامة».
السلطة تعطي فئة أكثر من أخرى بهدف تطويق تحرّكها
اليوم، مع تمييز القضاة، تُجمع باقي المكوّنات على أن ما حصل فضيحة، وخصوصاً أنه لم يخرج صوت اعتراضي واحد عليها في صفوف القضاة، لا سيما الإصلاحيين منهم مثل نادي القضاة وغيره. مسؤولون أكاديميون في الجامعة اللبنانية قالوا: «إذا كنا في وقت من الأوقات قادرين على أن نطلب، بالمونة، من الأساتذة الحضور إلى صفوفهم، لم يعد هذا الأمر ممكناً بعد القرار المصرفي، بالنظر إلى العلاقة التاريخية بين رواتب القضاة ورواتب أساتذة الجامعة، وبعدما باتت الهوة كبيرة، إذ سبق للقضاة أن أخذوا ثلاث درجات في عام 2018، فيما لم يحصل الأساتذة الجامعيون على شيء بالمقابل».
الأجر الاجتماعي
وفق المصدر النقابي، هناك ثلاثة تحديات تواجه موظفي القطاع العام: الموازنة والضرائب المطروحة فيها وإملاءات صندوق النقد الدولي، ارتفاع الأسعار، والرشاوى والمساعدات الاجتماعية، وهو ما يوجب أن يصوب الموظفون البوصلة باتجاه تعديل موازين القوى بين الحركة النقابية وبين السلطة السياسية. فالموازين مختلة لمصلحة السلطة التي يناسبها أن تأخذنا إلى ملعبها وتلهينا بمعارك صغيرة بواسطة أزلامها داخل الحركة النقابية، «فالقصة أكبر من راتب القاضي. المأمول انتفاضة حول مطالب توحد الفئات الاجتماعية المتضررة في القطاع العام والقطاع الخاص والعاطلين من العمل والمكشوفين صحياً، إذ إن طرح الأجر الاجتماعي بات ملحّاً أكثر من أي وقت مضى، أي المطالبة ضمن سلة واحدة بتصحيح الرواتب بما يلائم نسبة التضخم وبالتغطية الصحية الشاملة وببدلات النقل وبدلات الكهرباء ومجانية التعليم».