*جدلية العشق بين الإغتراب الجنوبي وأفريقيا*
*د. علي سيّد*
*جدلية العشق بين الإغتراب الجنوبي وأفريقيا*
*د. علي سيّد
بدأت هجرة اللبنانيين إلى أفريقيا قبل حوالي 150 عاما، عندما تعرض اللبنانيون لخداع من قباطنة السفن الفرنسية حيث وصلوا إلى شواطئ غرب أفريقيا ظنّا منهم أنها البرازيل أو الولايات المتحدة التي جذبت عشرات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين في ذلك الوقت. واختلفت الروايات التاريخية حول أول مهاجر لبناني إلى غرب أفريقيا، حيث أكد مؤرخون أن غانا استقبلت أول المهاجرين اللبنانيين عام 1870، بينما يقول آخرون إن أول المهاجرين اللبنانيين كان إلياس الخوري يونس عام 1882، الذي وصل إلى سواحل نيجيريا.
*تطورات الهجرة إلى أفريقيا*
إن المهجر الإفريقي هو الرئة التي يتنفس منها لبنان بشكل عام، والجنوب بشكل خاص. وعبر مجاله تنطلق جحافل الجنوبيين عزماً وطموحاً تناضل بثبات وشرف لتهب الحياة أرضاً، من ربوعها انطلقت، فالجنوب صدر لبنان ودرعه، ومنعته وعزته تنبع من نجاح المغتربين الذين يعتبرون حقاً المتنفس الوحيد له. وعلى الجاليات المغتربة واجب وطني، هو توطيد صلتها بالوطن حتى لا تذوب حضارتهم وشخصيتهم في البحر الإغترابي. يعدّ الإغتراب رافعة الاقتصاد في لبنان، ومن دون شريحة مغتربيه لا يوجد أي اقتصاد حيّ ومنتج، وهذا ما شهدناه منذ الأزمة اللبنانية (تشرين الأول ٢٠١٩(، وخاصةً بعد عملية السطو على أموالهم في المصارف وتخلخل ثقتهم في الإستثمار في لبنان أو حتى التفكير بذلك.
على الرغم من التزايد التدريجي الذي عرفته الهجرة اللبنانية إلى أفريقيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأرقام بقيت متواضعة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن الملاحظ في تلك الهجرة أنها لم تعد مقتصرة على الذكور البالغين فقط، بل شملت كذلك النساء والأطفال، الأمر الذي يعكس نوعاً من اطمئنان المهاجرين إلى تلك المناطق التي هاجروا إليها. وقد اتجهت تيارات الهجرة إلى ستة أقاليم خاضعة للسيطرة الفرنسية هي السنغال وغينيا والسودان الفرنسي (مالي الحالية) والداهومي (بنين الحالية) والنيجر وموريتانيا، بالإضافة إلى مستعمرتي غامبيا وسيراليون الإنكليزيتين، ومستعمرة غينيا البرتغالية (غينيا الاستوائية حالياً)، فقد بدأت الهجرة اللبنانية تتزايد، بعد الحرب العالمية الثانية في خط تصاعدي نتيجة لعدة عوامل.
مع اندلاع الحرب في لبنان العام 1975، وما تلاها من أحداث، عرفت أفريقيا الغربية هجرة لبنانية جديدة، كانت وجهتها الأساسية ساحل العاج- التي تضاعف عدد اللبنانيين فيها- ثم بنسبة أقل إلى السنغال وسيراليون. وكان من آثار الحرب في لبنان رجوع عدد كبير من المواطنين اللبنانيين إلى نيجيريا، وتبع ذلك أيضاً وفود أعداد صغيرة جديدة هرباً من ظروف الحرب القاسية. وبخلاف هجرات المراحل السابقة، التي كانت تهمّ مختلف الطوائف، فإن هجرة ما بعد الحرب تشكلت بالأساس من الشيعة القادمين من الجنوب – والذين مثلوا حوالى 90 في المئة من مجموع المهاجرين اللبنانيين فى تلك الحقبة.
وفي ما بعد لعبت الظروف الاقتصادية المهيأة في أفريقيا وفرص العمل المتوافرة، دورًا في استقطاب عدد كبير من الجماعات اللبنانية، إذ نجد أن بلاد أفريقيا تحتل المكانة الثانية بعد البرازيل بالنسبة إلى المهاجرين اللبنانيين في العالم.
*اللبنانيون في الاقتصاد الأفريقي*
إستقر المهاجرون اللبنانيون وبالأخص الجنوبيون في معظم المناطق المهمة من غرب أفريقيا، إنطلاقاً من مرافئها الساحلية التي استقبلت المهاجرين اللبنانيين الأوائل، الذين كانوا ينتقلون من بيروت إلى مرسيليا، ومنها إلى دكار ثم كوناكري وفريتاون، ومن ثم إلى لاغوس، وكانت الرحلة تستغرق نحو 40 يوماً.
كما هو الشأن بالنسبة إلى مواطنيهم في العالم الجديد، فقد كانت التجارة المتجولة أول نشاط اقتصادي مارسه اللبنانيون في أفريقيا الغربية، وقد بقي الحضور الاقتصادي اللبناني متواضعاً لغاية الحرب العالمية الأولى، حيث استفاد اللبنانيون من الفراغ الذي خلّفه التجار الفرنسيون الذين ذهبوا إلى الجبهة. خلال تلك المرحلة والتي تمكنوا فيها من اللغات الأفريقية، تعرف اللبنانيون إلى البلد، ولم يعد وجودهم مقتصرًا على المدن والمناطق القروية، بل توغّلوا في الأدغال، وهذا ما ساعدهم على تحقيق نجاح سريع، خصوصًا وأنهم أصبحوا وسطاء بين الوكالات التجارية الأجنبية -وبخاصة الوكــــــــالات الفـــرنسـيــــــة- والسكان الأصليين، حيث كانوا يبيعون لهؤلاء المنتجات المصنعة، ويحصلون منهم على منتجاتهم من المواد الخام للتصدير. وقد شجعهم نجاحهم في هذا المجال على التوسّع في هذا النشاط، علاوة على اتجاه البعض إلى افتتاح محلات خاصة لبيع الجملة في المدن، كما اتجه آخرون إلى التخصص في مجال استيراد المنتجات المصنعة مباشرة من أوروبا، وأصبحوا المموّلين الأساسيين لمواطنيهم من تجار الجملة والتقسيط.
وسُجّل خلال التسعينيات حضور لبناني قوي في قطاعات اقتصادية أخرى. ففي ساحل العاج حيث توجد أهم جالية لبنانية في أفريقيا الغربية من حيث العدد والثقل الإقتصادي، يتحكم اللبنانيون في حوالى 60 في المئة من القطاعات الاقتصادية الحيوية، بحيث يمتلكون أربعة آلاف مؤسسة من بينها 1500 مؤسسة صناعية يعمل فيها نحو 150 ألف مواطن من أهل البلاد. وهم يسيطرون على 70 في المئة من تجارة الجملة، و50 في المئة من تجارة التقسيط، و80 في المئة من شركات جمع القهوة والكاكاو وتصديرها، و17 في المئة من سيارات الأجرة، الأمر الذي حرصت قيادات البلاد المتوالية على التنويه والإشادة به. حيث وصف الرئيس المؤسس للدولة العاجية هوفوبيه بوانييه اللبنانيين بالقول: «اللبنانيون عطاء من السماء وقد أرسلهم الله هدية لنا، وإذا كان من وجود للصناعة في هذا البلد، فالفضل يعود إلى نشاط اللبنانيين وذكائهم. هذا الأمر هو ما دفع الرئيس العاجي لوران غباغبو إلى التصريح بأن اقتصاد البلاد بيد اللبنانيين، وهو أمر تضمن في ثناياه الترحيب بالدور اللبناني والاعتراف بفضله على الاقتصاد الأيفواري، لكنه من جانب آخر تضمن تأليباً ضمنياً للجماعات الرافضة الوجود اللبناني في ساحل العاج، على نحو أفرز ممارسات عدائية وانتقامية ضد الجالية اللبنانية في البلاد خلال ما شهدته من نزاعات مسلّحة. ولا يختلف الأمر كثيراً في سيراليون حيث يشير بعض المصادر إلى أن الجالية اللبنانية كانت تسيطر – إلى مطلع التسعينيات من القرن العشرين – على 80 في المئة من تجارة الماس والذهب، وقدّرت ثروة جميل محمد سعيد اللبناني الأصل والجنسية – وكان أهم رجل اقتصاد في البلاد وصديقًا مقرّبًا من رئيس الدولة – بـ 600 مليون فرنك فرنسي. وفي بوركينا فاسو يسيطر اللبنانيون على ما يقرب من 60 في المئة من حجم التعاملات التجارية والصناعية في البلاد.
*اللبنانيون يفرّون من بلادهم سعيا وراء حياة أفضل في أفريقيا*
انتقل مئات الآلاف من الأشخاص، الكثير منهم من جنوب لبنان، إلى أفريقيا، وخاصة كوت ديفوار ونيجيريا والسنغال وسيراليون وغانا.
ولا يعرف تحديدا عدد اللبنانيين الذين انتقلوا إلى غرب أفريقيا منذ بدء الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، لكن الأدلة تشير إلى أن العدد كبير أكثر من عشرة آلاف.
وتؤكد جيهان عبدالرحمن جاد باحثة دكتوراه بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية جامعة القاهرة، أن الجالية اللبنانية في أفريقيا أكثر الجاليات العربية في القارة عددا، وذلك لأسباب كثيرة تاريخية ومعاصرة، دفعت بمئات الآلاف منهم للهجرة إليها.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أن 350 ألف لبناني على الأقل منتشرون عبر القارة معظمهم من جنوب لبنان، وتمثل ساحل العاج والسنغال ونيجيريا أهم أقطاب الجاليات اللبنانية المقيمة في أفريقيا. وغالبا ما أشاروا إلى أنفسهم على أنهم حلقة الوصل بين الأوروبيين والأفارقة في غرب أفريقيا، لهذا فهم منافسون للكثير من الجاليات الأخرى.
لبناني جنسية أم مهنة
ومع استمرار تفشي الوباء والركود الاقتصادي، أصبحت هجرة اللبنانيين إلى البلدان الأفريقية أسهل من تحقيق قفزة إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، حيث إن السفر الجوي إلى القارة مستمر. وعلاوة على ذلك، في معظم الحالات في أفريقيا، يكون المستند الوحيد المطلوب للحصول على تأشيرة هو خطاب دعوة من قريب يعيش في بلد المقصد.
والآن وصلت الجاليات اللبنانية إلى الجيل الثالث في غرب أفريقيا، وأصبحوا يشكلون عنصرا هاما في تلك المجتمعات بما لهم من نفوذ اقتصادي كبير.
ويروي عالم الأنثروبولوجيا الراحل فؤاد خوري أن مسؤول الهجرة أوقفه في مطار كوماسي في غانا. وعند سؤاله عن جنسيته أجاب دون تفكير “لبناني”. وروى خوري أن الضابط أمَالَ رأسه إلى الأمام وكرّر ببطء “نا- تيو- نا- لي- تاي؟”. وعندما قال خوري مرة أخرى “نعم”!Le-ba-nese أخذ نفسا عميقا وقال بلمسة من الغضب “سيدي، أنا لا أسأل عن مهنتك!”
ولم يكن تبادل خوري مع المسؤول الغاني حالة من الارتباك بين الثقافات، بقدر ما كان مثالا معبّرا عن كيفية دمج اللبنانيين في غرب أفريقيا لفترة طويلة في الجسد الاجتماعي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجارة بحيث تصبح أحيانا مرادفة لها.
*قرى الجنوب وهبة أفريقيا*
ذات يوم كتب المؤرخ اليوناني “هيرودوت” قائلاً: ” مصر هبة النيل”، وهذا القول ينطبق على الكثير من القرى الجنوبية فبعضها يعد بحق هبة أفريقيا.
على سبيل المثال لا الحصر تعتبر الزرارية الواقعة على بعد 65 كيلومترا جنوب بيروت، واحدة من القرى الجنوبية ومثالا على هذه التبعية والهبة. ورسميا يبلغ عدد سكان المدينة 15000 نسمة، لكن في الواقع، يعيش أكثر من ثلث سكانها في كوت ديفوار. وفي العام 2015، تمت إعادة تسمية الطريق الرئيسي في المدينة باسم “شارع أبيدجان”. “يعتمد اقتصاد المدينة بالكامل على الهجرة. ينشأ الشباب هناك على فكرة أن أبناء عمومتهم في أبيدجان أغنى منهم.
وكان هناك وقت استخدمت فيه الأموال المتدفقة من أفريقيا لبناء فيلات فاخرة، فكيفما تجولنا في قرى الجنوب وحين نشاهد القصور والمشاريع الإقتصادية والعمرانية وكل مظاهر الغنى أو الإستثمار يتبادر فوراً إلى ذهننا بأن وراء هذا المشهد مغترب من أفريقيا. ومع وصول الأزمة الإقتصادية إلى ذروتها، تعتمد البلدة بأكملها على الأموال من الخارج. لمنع أسر بأكملها من الغرق في براثن الفقر، فقد أرسل المغتربون اللبنانيون المقيمون في أبيدجان حوالي 100 ألف دولار إلى ديارهم في الأشهر الأخيرة. وقد وزعت على حوالي 1000 عائلة محتاجة. والتي تغطي نفقاتهم اليومية والأدوية وفواتير المستشفى وتكاليف التعليم وما إلى ذلك، ويصل ما يرسله المغتربون إلى بلدتهم شهرياً كمساعدات بمعدل 50 ألف دولار تقريباً.
يردد دائماً أقارب المغتربين إن “الغالبية العظمى من الأموال التي تتدفق إلى البلاد تأتي في شكل نقود. للالتفاف على رسوم العمولة، يتم جلب حقائب مليئة بالنقود إلى لبنان. الجميع يستخدم هذا النظام، وإلا فلن نتمكن من الاستمرار في العيش هنا”.
وما ينطبق على البلدة الجنوبية الزراية ينطبق ايضاً على معظم القرى الجنوبية وبنسب متفاوتة، وعلى سبيل المثال لا الحصر ( قانا، طورا، العباسية، صور، النبطية، بدياس، الخرايب، إرزي، الشهابية، الرمادية، القليلة، النميرية، برج رحال، عين بعال، دير قانون النهر وعشرات عشرات القرى الأخرى).
*قصة نجاح لها ثمن*
ارتبط اللبناني المهاجر وخاصة الجنوبي بوطنه الأم من خلال زيارته المستمرة ومحاولته الدائمة للحفاظ على موروثاته الثقافية في بلاد المهجر، وعدم اندماجه الثقافي مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويتجلّى ذلك في إصراره على تشييد المدارس اللبنانية أو إرسال أبنائه للتعلّم في لبنان.
وقد تمسك اللبنانيون المهاجرون بعادة زواج الأقارب، وعادة ما يقوم الآباء اللبنانيون بترتيب الزيجات لأبنائهم من عائلات لبنانية أخرى، لذا كان أمر الحجاب شائعا بين المسلمين في غرب أفريقيا، إلا أن الزواج من أفريقيات كان قليلا، ونادرا ما كان المجتمع اللبناني يعترف بأطفال الزيجات المختلطة.
أما من الناحية السياسية، فلم يكن للجالية اللبنانية تأثير في الحياة السياسية، لكن استخدم بعضهم قوتهم الاقتصادية لإقامة علاقات مع المسؤولين الحكوميين، فيما قرر بعضهم الآخر خوض غمار الحياة السياسية.
الأمثلة لا تعد ولا تحصى في هذا المجال وآخرها فوز ابن بلدة كفرتبنيت الجنوبية (03/02/2021)
الشاب حسان علي بسام الاخرس ( 29 عاما ) بمقعد نيابي في جمهورية افريقيا الوسطى – بانغي وبذلك يكون اول نائب في دولة افريقية من أب وأم لبنانيين واصغر نائب في البرلمان في بانغي .
*ختاما*، الإقتصاد والمال هم عصب الحياة والمجتمعات، ولا شك بأن هذا العشق المتبادل بين أهل الجنوب وأفريقيا هو صمام أمان هذا العصب، فهذه العلاقة والعشق بينهم والتي بدأت منذ ما يقرب ال 100 سنة إنعكس تطوراً ومنفعةً ورفاهيةً وازدهاراً وحياةً على كافة المستويات لكلا الطرفين.
سيبقى الجنوبيون ومن خلال جالياتنا في أفريقيا صمّام أمان اللبنانيين المغتربين والمقيمين مهما اختلفت مناطقهم ومذاهبهم. وسيبقى لبنان يحلق بجناحيه المقيم والمغترب مهما كبرت وحيكت الدسائس والمؤامرات. ولنا فيما حدث مع الإمام الصدر دروسٌ وعبر حين زار سيراليون سنة 1967 وسأله رئيسها إن كان قد اجتمع بالمسلمين في هذا البلد، فكان ردّه “إن غرضي من هذه الرحلة هو الاتصال بالمسلمين والمسيحيين على السواء، فكلهم مؤمنون بالله وكلهم إخوة لنا”.