رأى مفوض الحكومة لدى الجامعة اللبنانية البروفسور جان داود أن “الفساد اليوم عالمي، وقد اخترق مجتمعنا بأشكال مختلفة، والنتيجة الجحيم. هذا الجحيم هو مستقبل عالم يستمر خارج القيم، وستكون للجحيم أعماق جديدة إن استمر التيار المادي بالتحكم بمفاصل الحياة العامة و/أو الخاصة. التيار المادي انتصر بالمسماة خصخصة. والخصخصة تقوض بأكثر من شكل العدالة الاجتماعية. فيجد المجتمع نفسه ساعيا من جديد إلى بديهيات السلام المجتمعي، فيقول بضرورة الاندماج، وضرورة تكافؤ الفرص، وضرورة قبول التنوع ورفض التمييز. ويبات بمثابة من يطلب من الظلام أن يلد النور. الخصخصة والمنافسة بين الشركات لن ترحم مهما كانت الضوابط القانونية، وستولد منافسات وأشكال احتيال على القانون لفائض من المكاسب على حساب الآخرين أفرادا، ثم جماعات، ثم دولا. وستذهب كل شركة (وربما كل حزب، حيث بعض الأحزاب مجموعة شركات) لتقوم مقام دولة بقوانينها وحروبها الخفية وفسادها العصي على العدالة. ويغرق المجتمع إلى مزيد من الأعماق، ومزيد من الجحيم، ومزيد من النمو في الفساد، مما يفرغ الديمقراطية من جوهر مضمونها وصلاحها، ومن أبرز غاياتها: النمو المستدام بعدالة والسلام المجتمعي. وأبرز المؤشرات على العدالة الاجتماعية نظام يتيح فرص التعلم المجاني للجميع وفي كل عمر”.
أضاف: “ما يخيفنا اليوم أكثر من كل مصاب في لبنان، هو علاقة السلطة بمسألة التربية. أغلب الحكام والحاكمين والأحزاب والجمعيات والساسة والسلطات والمشرعين غيبوا الجامعة اللبنانية عن اهتمامهم. وكأنهم يسيرون بها عن قصد أو غير قصد إلى أمر واقع: الخصخصة المتدرجة، وهذا أمر مرفوض، وما هو مجرد خط أحمر، وسنقف في وجهه جدارا قاتم الحمرة. في الوقت الذي نهبت فيه وتنهب أموال الناس، ويضرب الفقر نحوالى تسعين بالماية من المجتمع، ويستحيلُ على الطالب أن يتمكّن من دفع بدل النقل إلى الجامعة لصفوف حضورية، سمعنا صوتا ينادي “بتحميل الطلاب بعضا من أعباء التعلّم في الجامعة الوطنية لحمايتها”. سأفترض أنّ هذا الصوت صوت يائس، وصوت قارئ لنوايا وخلفيات السلطة التي لم تبادر، والتي إلى حينه لم تظهر ما يشير إلى أنّها ستبادر. وقد يكون هذا الصوت اليائس مستشفّاً نوايا خصخصة للتعليم الجامعي، وافق على تلك النوايا أو لم يوافق. باقتضاب: الجامعة الوطنية هي الحصن الأخير لمنع الاختناق وبلوغ القعر، وهي المربع الأول لإعادة النهوض. كفى القول بأنها خط أحمر، فهناك عمى ألوان مقصود لدى عملاء الخصخصة. ولعلّ من فائدة في التذكير، الجامعة اللبنانية هي نتاج نضال طلاب لبنان ومنهم طلاب في جامعات خاصة سقط أحدهم شهيدا (فرج الله حنين وهو مستحق لتحية) من أجلها. الجامعة اللبنانية نتاج نضال أحزاب راقية بممارساتها (أحزاب الخمسينيات والستينيات في لبنان هي غير ما عرفه لبنان في أحزاب ما بعد الحرب عليه التي ظهرت إلى العلن في العام 1975). نمو الجامعة لتحتلّ مراتب متقدمة نتاج نضال طلابها وأساتذتها ورابطاتها، ومؤسف القول بأن هناك تفاوت في أداء أهل الهيئة النقابية تلك كرابطة مستقلة تماما ومتماسكة في قرارها، وأداء هيئة إدارية محكومة بإرادة الأحزاب . قد يقال: كان في قيادة الرابطة قبل سنوات حزبيون، وكان في قيادات اتحاد الطلاب حزبيون، نعم، إلا أن هؤلاء قدموا الجامعة على أحزابهم والوطن على زعمائهم، لا بل سخروا أحزابهم لخدمة الجامعة. الخطر الأول والأعمق الذي نثبت موقفنا منه في مقدمة مقالتنا ونحذر منه هو الخصخصة. وأعتبر أن كل كلام يأخذ إلى خصخصة الجامعة اللبنانية عمالة للتيار المادي وللفساد الدولي العميق. وإن ذهب العالم بأكمله إلى خصخصة التعليم سأبقى ضد هكذا مشروع في لبنان، وسيبقى كل وطني وملتزم المشروع الإنساني ضد هكذا مشروع”.
ورأى في الوضع الراهن “ضرورة تعليق قبض رسوم التسجيل إلى حين إصلاح الوضع المالي العام”، لافتا إلى أن “الجامعة اللبنانية يجب أن تبقى ملاذا لكل طالب علم وفق نظام مجانية التعليم في مراحله كافة. عقل الإنسان مدرَّب على تبرير سلوكه، وقد ذهبت بعض الأنظمة والدول إلى خصخصة التعليم الجامعي وبرَّرت ذلك بما يحقق غاياتها. لكن عندما تقارب نسبة الفقر في بلد التسعين في المئة من أهل المجتمع، لا يحق لك أن تفرض أقساطا على التعليم الجامعي. حتى إن تدنت نسبة الفقر في المجتمعات إلى صفر في المئة فلا أرى ضرورة لفرض أقساط وخصخصة التعليم الجامعي. وبتنا نخشى مع ما تعكسه نتائج أداء الحكام وأغلب الأحزاب في لبنان، وبعض الأصوات المجهولة الدوافع، نوعا من العمالة المدرِكة والمتجاهلة لمشروع خصخصة التعليم العالي. فنقول: الأجدى بالدولة أن تقفل الجامعات الخاصّة السيئة السمعة والتجارية المنحى. إنّ أفضل استثمار تقوم به الدولة هو التعليم. لذا سأكون مع مجانية التعليم في مختلف مراحله. وعلى مجلس النواب المنتخَب أن يضع في أولوياته مجانية التعليم ويشرّع لها، ويقيم السدود في وجه تجّار العلم والتربية. وإن أول ما يجب أن يتبناه مجلس النواب المنتخب هو قضية الجامعة اللبنانية. فيكوّن فِرق عمل من أكاديميين ووطنيين وغير نفعيين ومن خبراء وغير العملاء لمشاريع الخصخصة من أجل إعادة النظر في القانون 66، وإعادة الفاعليّة إلى موازنة الجامعة اللنبانية، وتعزيز البحث العلمي فيها، وتعزيز التفرّغ بموجباته ومستوجباته، ووضع بنود إدخال المتفرغين إلى الملاك، وإدخال المستوفين الشروط إلى التفرّغ، وإنصاف المدرّبين وتعزيز حال الموظفين وصيانة المباني، واستكمال الأبنية الجامعية الموحَّدة، على أن يدرجوا كل تلك المسائل في البيان الوزاري للحكومة العتيدة”.
وتابع: “نريد لمرة أن نرى ما يعمل على النهوض بالجامعة اللبنانية في البيان الوزاري الذي ستنال الحكومة الثقة على أساسه. فالجامعة اللبنانية في أساس الاندماج المجتمعي والتعددية وتأمين العدالة عبر تكافوء الفرص وهي في أساس بناء السلم الاقتصادي والمجتمعي، وهي خير من يؤمن في لبنان ظروف تحقيق أجندة التنمية المستدامة عشرين ثلاثين المقترحة من الأمم المتحدة. أما الحراك المسمى توقفا قسريا عن الدروس، وكثر التجاذب حوله فقد فشل. والمزيد من الكلام عليه لن يخدم صورة الجامعة. إنما، ولأن الجامعة مساحة حوار بناء ومصنعا للرقي في الحياة ومختبرا للديموقراطية، لا بد من القول إن خذلان الأساتذة أصحاب الحق بالملاك والتفرغ، وخذلان المدربين، والضرر الذي لحق بطلاب بعض الكليات (لأن هناك كليات لم تكن مضربة ولا متوقفة عن التدريس لا اختيارا ولا قسرا) يرتب مسؤوليات لا يسمح ضمير حي بالتنصل منها. لطالما أضرب أساتذة الجامعة اللبنانية، وفي الغالب حصلوا أغلب مطالبهم، وكانت لهم في السر باستمرار استراتيجيتهم المرتبطة بمصلحة الطلاب. الكليات التطببيقية لم تكن تشارك في الإضراب. الدروس العملية والمختبرات لم تكن خاضعة للإضراب. كل من الكليات كان لها طرقها لحماية مستوى شهادتها وحماية حقوق أساتذتها ومصلحة الجامعة في آن. فشل الحراك الأخير للرابطة في تحقيق المطالب يدفع إلى التفكير في احتمالات مسبباته: أهي سوء رؤية، أم سوء تخطيط أم سوء تقدير أم سوء توقيت للحراك، أم سوء تحديد للخصم أم للوجهة المطالبة بتحقيق المطالب؟ ألا تتوجب ملامة الأكثرية التي أتت بأعضاء الهيئة الإدارية للرابطة؟ أليس هناك ملامة على الأقلية التي التزمت الصمت والحياد؟ نعم الجميع مسؤول. ولا مشكلة إن كانت الأمثولة مفيدة لانتخابات قريبة تسعى إلى رابطة بقدر المخاطر ومواجهة المخاطر المموهة. والخطر الاكبر في أن يكون خلف سوء الأداء والصدمة الناتجة عنه، تخطيط لفشله، او نية لإفشاله، أو توقع لفشله والمضي فيه رغم المحاذير من ضمن خطة: فلنفشل، أو فليفشلوا، أو فلنفشِّلهم، ويخدم الفشل المشروع ذاك أو ذاك، ويا لهول ما تتضمنه مفردة ذاك. أن نفترض أن النوايا سليمة لا يكفي. فما النوايا وحدها هي التي تحقق المطالب أو تصنع القادة. وأن يقال خططنا جيدا ولكن هناك من لم يسمح لنا بالنجاح فذاك كلام لا يصح ولا يقنع عقلا أكاديميا، لا بل هو عبث بالعقول واستغباء. أرى مع كثير من الزملاء والأصدقاء: إن كان المنتمون إلى الأحزاب هم من أفشلوا الحراك بأدائهم ، فعلى أحزابهم أن تتخلى عنهم، وإن كانت أحزابهم هي من أفشل المطالب فما هي بأحزاب وطنية ولا إنسانية، وهي بذلك لم ترحم كراماتهم، ألا تستحق كراماتهم أن يستقيلوا من قيادة الرابطة ومن أحزابهم في آن”.
ولفت إلى أن “الاستقالة هي أيضا للضغط على أحزاب الحزبيين منهم لتأخذ مستقبلا بآراء المتنورين من الأساتذة وعدم إملاء المواقف عليهم. فالأكاديمي إن اختار الانتماء إلى حزب وجب أن يكون مرجعية موثوقة لرزانة ووقار في رأيه، وإن لا رأي له فما حاجته بوجوده في مثل تلك الأحزاب. أما إن كان الفشل لتقصير في الرؤى من قيادة الرابطة، فالاستقالة واجبة للإفساح في المجال أمام آخرين أعمق رؤية وأبعد نظرا. في الحالين على من كان في موقع قرار التوقف القسري عن الدروس أن يستقيل على صورة ونبل من تقدم باستقالته. استقيلوا، أتركوا الشأن العام، وأتمنى لكم التوفيق في التعويض عما حصل من ضرر. ولا تترددوا أو تلتقطوا قبعة بعض السحرة المتلاعبين بالأدمغة وبالرأي العام يسعون إلى تبرير الفشل، فذهبوا إلى القول أن ليس هناك من مواد في أنظمة الرابطة والمندوبين تسمح بالاستقالة، أو “لا تجب الاستقالة كي لا يفسر أنها تمت تحت ضغط الطلاب”. كفى يا سادة استغباء للآخر: أبرز الرد على المزاعم، ليس هناك أيضا من مادة تمنع استقالة مندوب أو عضو في إدارة الرابطة، وأبرز ملامح الديمقراطية الاستقالة تحت ضغط الطلاب إن كان الطلاب على حق، فالجامعة موجودة أولا وأخيرا من أجلهم”.
وتابع: “نشير إلى أن مبادرات وزير التربية كانت مخلصة وإن لم تأل إلى نتيجة. كذلك هي محاولات رئيس الجامعة: لقد أدرك، وحذر، وأدار الأمور وحمى ما حمى بحكمة وعناية. والملامة، كل الملامة على السياسيين من كل الأطياف. لذا، أقل ما يجب أن يبادر إليه المندوبون وقيادة رابطة المتفرغين هو الاستقالة إما لجهلهم اللعبة والانغماس فيها، إما ليقين منهم بأمرها والانغماس القصدي فيها لخدمة مشروع معلوم مجهول. الاستقالة واجبة لأن ضررا كبيرا وقع؛ التفرغ لم يحصل، والجامعة بأمس الحاجة إلى متفرغين. الملاك لم يتحقق والجامعة بأمس الحاجة إلى أساتذة في الملاك. صندوق التعاضد بات بحكم اللاقيمة في تأميناته والأستاذ الجامعي (بما فيه المتقاعد) في مهب العاصفة صحيا. رواتب الأساتذة لم تعد تسمح لهم بالتفرغ الحقيقي، وبات من حقهم البحث عن مداخيل إضافية عبر عمل خارج الجامعة. كرامتهم ومسؤولياتهم تجاه عائلاتهم لا تسمح بأن يتسولوا مساعدة من نصف راتب عن كل شهر تسرق منهم برفع سعر الدولار قبل أن يتقاضوها. من هنا تتوجه العيون إلى رئيس الجامعة لنقف إلى جانبه في إخراج الجامعة من استهدافات عملاء الخصخصة”.
وطمأن إلى أن “في الجامعة اللبنانية أساتذة لن يسمحوا بالمس بمستواها الأكاديمي، وسيعملون جاهدين لتعويض ما فات. وهم بالمقابل يستحقون ملاكهم وتفرغهم ورواتبهم بكامل قدرتها الشرائية”، وقال: “نتطلع في مرحلة جهنم إلى أن يبادر رئيس الجامعة إلى البحث عن توأمة ومصادر تمويل دولية تسمح بإعادة رواتب الأساتذة إلى ما يسمح لهم بالتفرغ الكامل، وبتأمين التجهيزات الكافية، ونتمنى تسريع القيام بمشاريع تحول الجامعة إلى جامعة منتجة من أجل الإنتاجية وليس دعما لتخلي الدولة عن واجباتها (الأفكار كثيرة بهذا الصدد وكتبنا بشأنها مرارا). إلى حين الخروج من جهنم، نتمنى أيضا رفع بدلات النقل للأساتذة بما يعوض التضخم الحاصل، وأن يتم تخصيص بدل نقل للطلاب وفق قاعدة مسافة السكن عن الكلية التي ينتمي إليها الطالب. فهناك ضرورة لعودة التعليم الحضوري في أكثر المواد ذات الطابع العملي والاختباري، وقد يكون من المخارج العملانية لمسألة انتقال الطلاب إلى الجامعة عقد تفاهم مع وزارة النقل يسمح بالإفادة من هبة الباصات الفرنسية، وبتأمين الانتقال المجاني لحاملي بطاقة الجامعة اللبنانية بصفة طالب أو موظف أو أستاذ (لمن يرغب من الأساتذة)”.
وختم: “يبقى أن أؤكد أنه رغم الإهمال ومحاولات النيل منها ما زالت الجامعة اللبنانية ترفع رأسها وتتقدم في سلم الجامعات العالمية، وتفتخر بخريجيها من كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان والهندسة والزراعة ومن مختلف الكليات، وتعتز بما تؤمنه لشابات لبنان وشبابه من أهلية لأفضل فرص العمل وخدمة المجتمع”.