وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي رسالة الفصح بعنوان “المسيح قام !حقا قام!” الى اللبنانيين جميعا والمسيحيين خصوصا، مقيمين ومنتشرين، في حضور المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والراهبات، رئيس المجلس العام الماروني ميشال متى، رئيس تجمع موارنة من اجل لبنان المحامي بول يوسف كنعان، وعدد من المؤمنين.
بعد الصلاة المشتركة، قال الراعي في رسالته: “مع إخواني المطارنة وأسرة الكرسي البطريركي أحيي وأقدم التهاني بعيد فدائنا وتبريرنا، بموت المسيح مخلص العالم وقيامته، وأعرب عن أخلص التمنيات بفيض الخير والنعم للرؤساء العامين والرئيسات العامات، والإقليميين والإقليميات، ومن خلالهم وخلالهن للرهبانيات الرجالية والنسائية ولجميع أعضائها. أشكركم على هذه العادة الحميدة التي نلتقي فيها سنويا للصلاة وإعلان رسالة الفصح وتبادل التهاني، رغم الغصة في القلوب لحالة شعبنا ووطننا. أشكر الأخت نيكول حرو على كلمة المعايدة بإسمكم جميعا. وأود معكم أن نوجه تهانينا وتحياتنا إلى أبرشياتنا ورهبانياتنا في النطاق البطريركي وبلدان الإنتشار، مجددين أساس إيماننا: المسيح قام! حقا قام”.
وتابع: “عندما قام الرب يسوع من الموت، كما روى متى الإنجيلي، وحدثت زلزلة عظيمة، إرتعد خوفا حراس القبر، إذ شاهدوا ملاكا منظره كالبرق، ولباسه كالثلج أبيض، دحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، واعلن للمرأتين أن يسوع قام، وأسرعوا إلى المدينة وأخبروا عظماء الكهنة والشيوخ، فاجتمعوا وتشاوروا، وأعطوا الحرس فضة كثيرة وقالوا لهم: قولوا أن تلاميذه جاؤوا ليلا وسرقوه، ونحن نيام، اما الوالي فتدبر امره (راجع متى 28: 3-4، 11-13). مساكين هؤلاء الحراس: وحدهم شاهدوا حدث القيامة، وكانوا أول شهودها. وبرشوة المال كذبوا أعينهم والحقيقة. يا للكرامة المهدورة!. بل مساكين بالأكثر الذين ارتشوهم! إنها مأساة رشوة الضمائر بالمال الفاسد، ومأساة الكذب الذي يحاول طمس الحقيقة، ولكن إلى حين. مأساة مزدوجة تتكرر كل يوم، ولا سيما من جهة المقتدرين والنافذين ومستغلي السلطة. هذا فضلا عن رشوة الوظيفة والسلطة والنفوذ. إن عظماء الكهنة والشيوخ أنفسهم سبق ورشوا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين من الفضة ليسلمهم يسوع (متى 26: 15). ولكن عندما رأى هول جريمته رمى الفضة في الهيكل وإنصرف ومضى فشنق نفسه (متى 27: 5) هذه هي نتيجة شراء الضمائر بالبخيس من المال. فالضمير الذي هو صوت الله في أعماق الإنسان، لا يباع ولا يشرى، لكونه من القدسيات. والتجارة به إنتهاك لها”.
أضاف: “نحن كمسيحيين شهود على قيامة المسيح (لو 24: 48)، لأنها في أساس إيماننا (القديس أغسطينوس). إن موت المسيح مصلوبا حدث يؤمن به الجميع بما فيهم الوثنيون، لكونه حدثا تاريخيا موثقا ومنظورا. أما قيامته فنقبلها بالإيمان، وهي غير منظورة. لكنها عرفت من الشهود: الحراس والملاك والمجدلية والنسوة وبطرس ويوحنا، وتلميذا عماوس، والرسل الأحد عشر، ومن ترائيات الرب على مدى أربعين يوما، كما اوردها الإنجيلييون. إن مبرر وجودنا كمسيحيين هو الشهادة لحقيقة يسوع المسيح ولمحبته، الشهادة للحقيقة في المحبة. بما أن الله محبة فهو الحقيقة. فأتى المسيح الإله يعلم الحقيقة ويعيش فيها المحبة العظمى حتى النهاية بسره الفصحي مات لفدائنا من خطايانا، وقام لتقديسنا بالحياة الجديدة (راجع روم 4: 25).
الكنيسة المؤتمنة على هذه الشهادة هي عمود الحق وأساسه (1 طيم 3: 15)، ومعلمة الحقيقة (الكرامة البشرية، 14). وبهذه الصفة هي خادمة الحقيقة في المحبة (البابا بندكتوس السادس عشر، رسالته العامة: المحبة في الحقيقة). وعلى هذا الأساس تواصل البطريركية رسالتها بشخص بطاركتها في كل عهد وجيل. فالحقيقة تحرر، والمحبة توحد وتجمع. ولهذه الغاية تتحرر البطريركية باسم الكنيسة من كل مصلحة دنيوية ولون سياسي”.
وقال: “عندما رأى القديس البابا يوحنا بولس الثاني أن هوية لبنان مهددة، وجه رسالة رسولية إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في العالم بتاريخ 7 أيلول 1989، دعاهم فيها الى التحرك من أجل حماية لبنان، مخصصين يوما في أبرشياتهم للكلام عن حقيقة لبنان، وللصلاة من أجل خلاص لبنان، واقترح عليهم الثاني والعشرين من تشرين الثاني من تلك السنة، وهو عيد الإستقلال. وقد ضمن تلك الرسالة الشهيرة رؤيته عن حقيقة لبنان. نحن نعيش اليوم ظرفا مماثلا، يحملنا على أن نتكلم عن حقيقة لبنان، ونتساءل: أيعقل أن نصبح وطن الانحطاط وقد كنا بلد النهضة التي أسسناها ونشرناها في لبنان والشرق والعالم؟ أيعقل أن نمسي دولة التسول وقد كنا دولة الجود والعطاء؟ أيعقل أن نغدو جماعة التبعية وقد كنا المرجعية والمثال. أيعقل ألا يميز البعض بين الصح والغلط؟ أيعقل أن نصير مجتمع التناقضات وقد كنا مجتمع التكامل؟ أيعقل أن نضحي شعب القبول بالأمر الواقع وقد كنا شعب الصمود والمقاومة. لن نقبل بوقف حركة التاريخ والإنسان لئلا نفقد مبرر وجودنا الخاص والمميز بكل الخصائص في هذه المنطقة، وقد كنا فيها حالة اليقظة والإشعاع. فلا يمكن أن نغير الآن هذه الحالة وهذا الدور، وبين أيدينا مدارس وجامعات ومعاهد ومؤسسات. طلاب واساتذة وموظفون وعائلات! نحن حركة التغيير حركة الحرية والسيادة في هذا الشرق، ورواد النهضة السياسية والفكرية. قاومنا حين كانت المقاومة مغامرة، وانتفضنا حين كانت الانتفاضة تقمع، ورفعنا الصوت حين صمتت الأفواه. وصمدنا حين كان المعتدون والمحتلون ممالك وإمبراطوريات وسلطنات. فليس اليوم سنخضع ونسلم ونستسلم. فما بالنا لا ننتفض وننفض عنا غبار النزاعات ونلتقي في وطن الوحدة في التعددية الثقافية والدينية، الذي حققناه معا سنة 1920”.
ودعا الى أن “نضع حدا للأمر الواقع الذي يتألم منه الشعب، ويهمش الدولة الشرعية، ويبعثر وحدتها بين دويلات أمنية ودويلات قضائية ودويلات حزبية ودويلات مذهبية ودويلات غريبة. فبقدر ما يتحرك الشعب ويواجه جديا هذا الأمر الواقع الكارثي، يتشجع المجتمع العربي والدولي لمساعدته وتوفير إمكانات التغيير ووسائل الإنقاذ. وبقدر ما رحبنا بعودة أصدقائنا العرب إلى لبنان، نتمنى أن يعود اللبنانيون أنفسهم إلى لبنان ويتخلوا عن ولاءاتهم الخارجية وعن انتماءاتهم إلى مشاريع غريبة عن تاريخنا وتراثنا”.
واعتبر الراعي أن “إنقاذ لبنان بوحدته وتعدديته مرتبط بالتخلي عن الأدوار المصطنعة والمستوردة، وباسترداد دوره الوطني والحضاري وهويته الأصيلة وحياده، وبالولاء المطلق له، وبوحدة الدولة وسلطتها، وباعتماد اللامركزية الموسعة، وبالسيادة والاستقلال وحرية الإنسان. لقد تهاوت وحدة لبنان عندما اصطدمت بتعدد الولاءات، والانحياز إلى المحاور الإقليمية، والانقلاب على الميثاق الوطني”.
وقال: “قبل أن يكون لبنان كيانا دستوريا وحدودا دولية ونظاما ديموقراطيا، هو هوية شعب تميز عبر العصور بالتوق إلى الأمن والحرية، وبالسعي إلى العلم والمعرفة، وبالتزام التقدم والسلام، وبالتعايش مع الآخر والمحيط، وباعتناق ثقافة الحياة والصمود، وبنسج جدلية روحانية بين الأرض والإنسان، وبعشق التفاعل مع الشرق والغرب. هذه كانت هويتنا الخاصة الملازمة لوجودنا من دون انقطاع سواء في أزمنة التحرر والاحتلال أم في أزمنة الحرب والسلام، وشكلت مرجعية العمل الوطني. أما الهويات الهجينة التي تسللت إلى هويتنا اللبنانية المتجددة عبر التاريخ، فيجب إزالتها عنها وكأنها ملصقات، وجعل هذه الهوية معيار اختيار النواب والوزراء والرؤساء وسائر المسؤولين عن الوطن”.
وتابع: “من أجل هذه الغاية، نراهن مع المواطنين ذوي الإرادة الحسنة على حصول الانتخابات النيابية في موعدها، ومن بعدها الرئاسية. فإنها فرصة التغيير. إذا لم يتنبه الشعب إلى خطورة المرحلة ويقدم على اختيار القوى القادرة على الدفاع عن كيان لبنان وهويته، وعلى الوفاء لشهداء القضية اللبنانية، وعلى إعادة علاقات لبنان العربية والدولية، فإنه، هذا الشعب نفسه، يتحمل هو، لا المنظومة السياسية، مسؤولية الانهيار الكبير. ومن حظ لبنان أن التغيير فيه لا يزال ممكنا ديمقراطيا. فلا تعطلوا أيها اللبنانيون هذه الوسيلة الحضارية السلمية الأخيرة. إن نتائج الانتخابات النيابية تتوقف على المشاركة فيها. فلا يوجد خاسر سلفا ولا رابح سلفا. لبنان يحتاج اليوم وكل يوم إلى أكثرية نيابية وطنية، سيادية، استقلالية، مناضلة، مؤمنة بخصوصية هذا الوطن والدولة الشرعية والمؤسسات الدستورية وبالجيش اللبناني مرجعية وحيدة للسلاح والأمن، وبوحدة القرار السياسي والعسكري”.
وشدد على أن “الخطورة الكبرى هي تضليل الشعب فينتخب أكثرية نيابية لا تشبهه ولا تلتقي مع طموحاته، ولا تقدر أن تحل أزماته فتزيد من عزلته ومن انهياره. ستكون لا سمح الله حالة غريبة أن تأتي الغالبية النيابية خلاف الغالبية الشعبية بسبب سوء اختيار الشعب؛ فيضطر لاحقا إلى معارضة نواب انتخبهم في غفلة من الوعي الوطني. يجدر بالشعب، وهو يختار نوابه، أن يدرك أنه يختار أيضا رئيس الجمهورية المقبل، بل الجمهورية المقبلة. ومما لا شك فيه أن مصير لبنان يتعلق على نوعية الأكثرية النيابية في المجلس الجديد. عيد القيامة هو عيد الرجاء. فلا بد، ونحن نعيش جلجلة طويلة، من أن يتدحرج الحجر عنا بقوة الفادي الإلهي الذي مات فداء عن خطايانا، وقام لإنعاشنا بالحياة الجديدة. ومن علامات الرجاء زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى لبنان الموعودة في حزيران المقبل. وإنا إذ ننتظره بالمحبة والشوق، نصلي كي يبارك الله هذه الزيارة الرسولية، ويحقق أمنيات قداسة البابا من ورائها، فتؤتي ثمارها الروحية والإجتماعية والوطنية اليانعة. المسيح قام! حقا قام!”.
حرو
وألقت الرئيسة العامة لمرسلات سيدة المعونة الدائمة الأم نيكول حرو كلمة تهنئة بالفصح، باسم مكتب الرؤساء العامين والرئيسات العامات، قالت فيها: “غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. ككل سنة نعود إلى هذا الصرح البطريركي العريق، لنحتفل مع غبطتكم بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح، الذي تسميه الليتورجية البيزنطية عيد الأعياد وموسم المواسم. وبين الصليب واختبار القيامة، هنالك قبر فارغ، يحمل في داخله أبعادا كثيرة، فهو من جهة علامة شك وارتباك وتساؤل… ومن جهة أخرى علامة رجاء وأمل جديد، يفيض من قبر إلهنا القائم الذي حطم الموت بالموت. وها نحن اليوم في لبنان، ككنيسة ومواطنين، في بلد مصلوب، نعيش أمام قبر فارغ، تشدنا الأحداث صوب الارتباك والتشوش، في حين يشدنا إيماننا، نحو رجاء بإله يعمل في قلب التاريخ والأحداث بمقدار ما نسمح له أن يعمل فينا ومن خلالنا”.
وتابعت: “لذلك حاولنا كمكتب رؤساء عامين ورئيسات عامات، أن نعمل هذه السنة معا تحت شعار قلبا واحدا وروحا واحدة، إيمانا منا أننا معا ككنيسة سينودسية بجوهرها، وممارستها، نستطيع أن نواجه سيل التحديات الذي تعصف بوطننا، وبكنيستنا ومؤسساتنا الرهبانية، التي وجدت لخدمة الإنسان في ظل الازمنة الصعبة. وقد أطلقنا هذه السنة، وعلى مدار كل يوم من أيام الصوم المقدس، برنامجا روحيا، نطل به كرهبانيات على كنيستنا، وشعبنا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لنحمل لهم ما يتمخض فينا من بذار رجاء وقيامة. وقد كان لهذه الرسالة صدى واسع في قلوب المؤمنين. وما ذلك إلا رغبة منا، بأن تكون الرهبانيات صورة لكنيسة حية ومتجددة، تعمل معا لخدمة الإنسان، كل إنسان، على الرغم من ضعفنا وهشاشتنا. وسنحاول جاهدين بكل ما لدينا من إمكانات، أن نعمل مع أبنائنا للنهوض من جديد بوطننا، فلبنان الذي اعتاد أن يكون مصلوبا، قد اختبر حتى اليوم القيامة، ألف مرة ومرة”.
وختمت: “أتوجه بالشكر لغبطتكم، على مواقفكم التاريخية، التي من شأنها أن تكون نقطة حاسمة في تاريخ وطننا لبنان. إذ كلنا رجاء أنها قادرة أن تعبر بالوطن، من الموت والفساد نحو قيامة جديدة. ونسأل الله أمامكم أن ينير ضمائرنا كلبنانيين مسؤولين عن بناء وطننا، وينير ضمائر حكامنا، لنبني معا وطنا حرا سيدا مستقلا. كما أتوجه بالشكر لأخواتي وإخوتي في الحياة الرهبانية، على كل ما قدموه ويقدمونه، لخدمة الله المتجلي في وجه كل إنسان. سائلة الرب أن يعطينا قلبا تائبا ومصغيا كي نعبر مع شعبنا، نحو فصح جديد. ألا هدانا الرب جميعا، وجعلنا أمناء لنعمة قيامته، وحفظنا سالمين للخدمة وأيدنا بالروح القدس، لنظل مستمرين في مهمة السهر على أبناء وطننا، وكنيستنا. أعاد الله على الجميع هذه المواسم المباركة، وكل فصح وأنتم بخير. المسيح قام، حقا قام”.
بعدها، تقبل الراعي التهاني بالعيد من الحضور، وظهرا ترأس صلاة الغفران عاونه فيها لفيف من المطارنة والكهنة