كتبت ” الجمهورية” تقول: يومان وترتسم الصورة النهائية للوائح الانتخابية، واعتباراً من الخامس من الشهر الجاري، تنطلق صفّارة السباق إلى اليوم الموعود في 15 ايار، ومعها صفّارة العناوين الاشتباكية التي شتشكّل مادة الشحن السياسي والشعبوي على مدى الاربعين يوماً الفاصلة عن موعد الاستحقاق.
وإذا كان الحراك الانتخابي، بالزخم المتصاعد فيه هذه الايام، قد بدأ يرجح نظرياً كفّة إجراء الانتخابات في موعدها، إلّا انّ كلّ المعنيين بهذا الاستحقاق تتجاذبهم فرضية انّ السباق المحموم الى الإنتخابات، محفوف بالمفاجآت، وبتقلّبات قد يشهدها الواقع اللبناني في الاسابيع المقبلة، في ظلّ الرخاوة التي يعانيها هذا الواقع على كل المستويات، سواء ما يتصل بمصير الانتخابات، او ما يتصل بالوضع المالي والاقتصادي والمعيشي والحياتي المفتوح على انحدارات أكثر سوءاً مما عليه في هذه الايام.
إحراج .. وقلق وبديهي مع انتهاء المرحلة التحضيرية للانتخابات عبر حسم التحالفات وتركيب اللوائح، ان تضع الأطراف المتنافسة النصر حليفها في 15 أيار، الّا انّ نظرة واقعية في عمق المشهد الانتخابي تظهر انّ كلّ الأطراف من دون استثناء أي منها، في وضع حرج، وتصارع قلقاً جدّياً وخوفاً كبيراً من ان تُسقط صناديق الاقتراع، فيما لو فُتحت في 15 أيار، كلّ الشعارات التغييرية الكبيرة التي رفعتها على مدى السنتين الماضيتين، وتخيب الآمال التي علّقتها على استحقاق توعّدت ان تُحدث فيه انقلاباً جذرياً في الصورة النيابية والسياسية الراهنة.
وعلى ما هو واضح في عمق المشهد الانتخابي، فإنّ أزمة الأطراف الحزبية وعلى وجه الخصوص أصحاب الشعارات الكبيرة، أقلّ وطأة من أزمة القوى الحراكية التي صنّفت نفسها ثورية وتغييرية، فالأحزاب تبدو وكأنّها اعترفت بمبالغتها في رفع سقف الشعارات والطموحات، ولذلك نحت الى تجييش جمهورها، بذات الشعارات الكبرى، إنما لتحقيق هدف اقل تواضعاً، وهو المحافظة بأي ثمن، على نسبة التمثيل الحالية في مجلس النواب، علماً انّ بعضها اصطدم باحتمال ان يتراجع تمثيله عمّا كان عليه في المجلس النيابي الحالي، في ذلك بالتأكيد ضربة سياسية ومعنوية قاتلة، خصوصاً امام الجمهور الذي جرى إيهامه يوماً بأنّ التغيير صار في متناول اليد.
وفي المقابل، يتبدّى تشتّت القوى المدنية الرافعة لواء التغيير، حيث وجدت هذه القوى نفسها في مواجهة مع احزاب ركبت موجتها منذ 17 تشرين الاول 2019، كما في مواجهة مع نفسها وفي تعدّد الرؤوس والتوجّهات فيها، وهو الأمر الذي حال دون تمكّنها من التوحّد ضمن لوائح «قوية»، أو لوائح مشتركة، قادرة على تحقيق بعض من وعودها التي قطعتها منذ 17 تشرين، وإحداث اختراقات تكسر الواقع القائم.
وإذا كانت الصورة الانتخابية تشي مسبقاً بتقدّم الأحزاب على القوى الحراكية، الّا انّ طريق هذه الاحزاب الى الانتخابات لا تبدو مزروعة بالورود، إذ انّ الخصم اللدود لها يوم الاستحقاق ليست اللوائح المنافسة لها، بل هي نسبة الاقتراع التي تؤشر كل الدراسات والاستطلاعات، انّها ستكون الأدنى في تاريخ الانتخابات النيابية التي شهدها لبنان. وبالتالي، فإنّ المعركة الحقيقية للأحزاب هي مع المزاج الشعبي الذي اعلن يأسه من الطبقة الحزبية والسياسية، وفي محاولة إقناع الناخب وجذبه الى صناديق الاقتراع، وخصوصاً انّ هذه الاحزاب تدرك انّه مع تدنّي نسبة المقترعين تبقى كل الاحتمالات واردة.
أزمة محروقات؟! وفي موازاة المزاج الشعبي «المعوكر سياسياً» والناقم على الأحزاب والطّاقم الحاكم، ثمّة عامل أساس، لحظته إحدى الدراسات الانتخابية، التي رجّحت انّه قد يكون المساهم الأكبر في تخفيض نسبة الإقتراع، وهو كلفة نقل الناخبين، الذي سيرتب بالتأكيد أعباء كبيرة على الأحزاب والمعنيين بهذا الاستحقاق، الّا انّ العبء الاكبر سيكون على الناخب، الذي وإن أراد ان يقترع طوعاً، فإنّه في موازاة الضائقة التي يعيشها، سيجد نفسه مصدوماً بالكلفة العالية التي سيتكبّدها لقاء تأمين بنزين لسيارته، وهو ما يجعله يحجم عن المشاركة في عمليات الاقتراع.
على انّ أهم ما تشير اليه تلك الدراسة، هو احتمال غير مستبعد قد يلجأ اليه المتضرّرون من إجراء الانتخابات، بافتعال أزمة محروقات على باب الانتخابات، وهذا الأمر إن حصل، من شأنه ان يشكّل عامل تعطيل لهذه الانتخابات بذريعة عدم تمكّن الناخبين من الوصول الى بلداتهم وقراهم لممارسة حقهم الانتخابي.
مخاوف من حراك تعطيلي على انّ اللافت في موازاة التأكيدات الرسمية على حصول الانتخابات في موعدها، والدعوات المتتالية للمشاركة بكثافة في عمليات الاقتراع، هو ما تخوّفت منه مصادر سياسية التي أبلغت الى «الجمهورية» قولها: «انّ إمكانية تعطيل العملية الانتخابية صعبة على أي طرف سياسي داخلي، حتى ولو اراد ذلك. الّا انّ ما يُخشى منه ان تمارس لعبة من نوع آخر، تسعى الى التشكيك المسبق بشرعية تمثيل المجلس النيابي، وذلك عبر إقدام بعض القوى السياسية والحراكية التي استحال عليها التغيير الذي نادت به، وتركيب لوائح تعبر من خلالها الى مجلس النواب، على ان تحوّل معركتها في اتجاه آخر، أي ان تلعب لعبة تخفيض نسبة الاقتراع، عبر حث الناخبين على البقاء في منازلهم، سواء عبر دعوات مباشرة وصريحة لعدم المشاركة في انتخاب مجلس نيابي معلّب، وهو توصيف بدأ بعض الحراكيين يطلقونه، او عبر تحركات ميدانية وإعادة توتير الشارع وقطع طرقات في هذه المنطقة او تلك».
وسألت «الجمهورية» مرجعاً أمنياً عن الإجراءات التي يمكن ان تقابل هذه الحراكات فيما لو حصلت، فقال: «لا نرى في الأفق ما يؤكّد هذا الاحتمال حتى الآن، ولكن في كل الاحوال، كل أجهزة الدولة الامنية والعسكريّة مستنفرة لحماية الاستحقاق الانتخابي وإجراء الانتخابات في جو من الهدوء والاستقرار. وبالتالي لن نسمح بأيّ إخلال بأمن الناس وأمن الانتخابات».
الرئيس بري في السياق الانتخابي، أطلق رئيس مجلس النواب نبيه بري امس، الماكينة الانتخابية للائحة «الأمل والوفاء» في دائرة الجنوب الثانية، من المصيلح. واكّد خلال ذلك «انّ مستقبل لبنان ومصيره وهويته وثوابته وسبل الخروج من الأزمة مرتبط بنتائج هذه الدورة الانتخابية في كل لبنان».
وتوجّه بري الى من سمّاهم «حملة الحقائب المليئة بالعملة الصعبة والذين صرفوا 30 مليون دولار في هذه الدائرة» وقال: «إنّ أبناء هذه الأرض هم حفدة السيد المسيح، لا يقايضون ثوابتهم ومقاومتهم بالفضة ولا بشيء». محذّراً من «الاستسلام والركون لما يُروّج له».. وقال: «فلتكن أصوات كل من يحق له الاقتراع أصواتاً لردّ كيدهم إلى نحرهم».
واكّد انّه «في الوحدة أمل، نحمي ونبني، وثقوا أنّ التأسيس لإنجاز الحلول لهذه الأزمة جزء كبير منها مفبرك في الخارج… في الوحدة أمل لإنقاذ لبنان من الطائفية والمذهبية، ونستطيع استثمار كل ثرواتنا، فحدودنا مرسومة بالدم ولا تقبل المقايضة ولا المساومة».
وسأل: «هل المشانق تُعلّق افتراضياً لأنّ كتلتي «التحرير والتنمية» و«الوفاء للمقاومة» تمكنتا من انتزاع ما حُرم منه أبناء الجنوب والبقاع الغربي من حقوق على مدى ستة عقود»؟ وقال: «بانتصاركم وهزيمتكم للمشروع الصهيوني، قدمتم جرعة من الكرامة لا يستطيعون أن يتحمّلوها».
دريان بدوره، دعا مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان اللبنانيين الى «الذهاب معاً إلى الانتخابات لإنتاج البدائل».
وقال في رسالته في مناسبة حلول شهر رمضان: «نشهد هدماً أو تهديماً لكل ما بناه اللبنانيون في 100 عام، ويقفون في وجه كل محاولات الإصلاح، إذ هناك هدم للقضاء والقطاع المصرفي ولعلاقات لبنان مع الدول العربية ومحاولات يائسة للتعرّض لهوية لبنان وانتمائه، واعتداء على الدستور وهدم لمبدأ الفصل بين السلطات».
وأضاف دريان: «هناك تضامن مشهود مع لبنان من العرب والعالم رغم غيظهم بسبب الاستيلاء الغريب والفساد الفاقع، وليس هناك من يريد المساعدة إلّا ويحرص على عدم وصول أي من هذه المساعدات إلى السلطة التي تحجّر رؤوس أفرادها».
ملفات أمام الحائط من جهة ثانية، بقي المشهد الداخلي عالقاً في زحمة العناوين والملفات الكبرى، التي يبدو انها كلّها تسابق الوقت، وتصطدم بحائط يمنع أياً منها من بلوغ الهدف المنشود، سواء ما يتصل بالمشروع المتعلق بالكابيتال كونترول، الذي لم تتمكن الصيغة المعدلة، التي أقرّتها الحكومة في جلستها الاخيرة، من اخراج هذا الملف من دائرة الالتباسات والاعتراضات عليه في الشكل والمضمون. او على صعيد التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي طَفا على السطح من جديد مع وجود وفد الصندوق في بيروت لمساعدة الحكومة على بلورة خطتها وبرنامجها الذي يفترض ان يشكل قاعدة التفاوض وصولاً الى اتفاق على برنامج تعاون حوله مع صندوق النقد، مع الاشارة الى انّ المتحدث باسمِ صندوق النقد جيري رايس أعلنَ أمس عن «إحراز المزيد من التقدمِ في المحادثات مع لبنان»، مشيراً إلى انّ الصندوق راغب في التوصّل إلى اتفاق مع السلطات اللبنانية وإن بقيَ عملٌ مهم يتعيّنُ القيامُ به»، لافتاً الى «ان الوفد سيُعلن النتائجَ في نهايةِ المُهمة».
واذا كانت مصادر حكومية قد توقعت أن يُقارب هذا الملف قريباً في مجلس النواب، الّا ان مصادر مجلسية أكدت لـ«الجمهورية» انّ ما رَشح عن الصيغة الجديدة لا يختلف من حيث الجوهر عن الصيغة السابقة التي رفضتها اللجان النيابية المشتركة، وبالتالي سيكون مصيره مُشابهاً لمصير الصيغة السابقة، وخصوصاً لناحية خلوّه من أي اشارة صريحة تحمي اموال المودعين، وتضمن إعادتها إليهم.
ولفتت المصادر الى ان محادثات وفد صندوق النقد الدولي في بيروت في الايام الاخيرة انطوَت من جهة على تأكيد الصندوق استعداده لمساعدة لبنان إنما ضمن الشروط الموضوعة سلفا وتدركها الحكومة اللبنانية، وعكست من جهة ثانية تأكيداً من قبل الصندوق على عدم إلقاء التبعة على المودعين وحرمانهم من حقوقهم. وهو الامر الذي دفع مرجع سياسي الى القول صراحة: «ان صندوق النقد والمجتمع الدولي يبدو انه أحرص على ودائع اللبنانيين اكثر من اللبنانيين أنفسهم». وأضاف: «الكابيتال كونترول» مطلوب بإلحاح انما بصيغة تساهم في حل الازمة، وليس بصيغة تعقّدها، فإن أقرّ بالصيغة الموجودة، فمعنى ذلك انه لن يبقى في مقدور أحد ان يمشي».
آخر فرصة
الى ذلك، علمت «الجمهورية» انّ لقاء حصل قبل أيام قليلة بين مجموعة من الاقتصاديين، وسفير دولة اوروبية كبرى، قدّم خلاله السفير المذكور قراءة سوداوية للواقع اللبناني، خلاصتها: اولاً، على الرغم من التطورات الدولية التي استجدّت بين روسيا واوكرانيا، فإنّ لبنان لم يخرج من دائرة الاهتمام الدولي، فالمجتمع الدولي ما زال ينتظر اجراء الانتخابات النيابية في موعدها بحيادية ونزاهة.
ثانياً، ان المجتمع الدولي، وسائر المؤسسات المالية الدولية على التزامها بمساعدة لبنان فيما لو بادَرت الحكومة اللبنانية الى اتخاذ الاجراءات الاصلاحية المطلوبة. والمؤسف انّ الحكومة اللبنانية لم تبادر الى ذلك حتى الآن، رغم كل ما نسمعه من وعود والتزامات.
ثالثاً، يجب ان يدرك المسؤولون في لبنان انهم أمام آخر فرصة لإنقاذ بلدهم عبر المبادرة الى الايفاء بالتزاماتهم بالاصلاحات، وإن جرى تفويت هذه الفرصة، فلا أمل للبنان بالخروج من الازمة، بل ستتعاظَم هذه الازمة اكثر، وتصبح معاناة الشعب اللبناني أكبر واكثر خطورة.
وبحسب ما نقل بعض الحاضرين عن السفير المذكور، فإنّ الاتفاق على برنامج تعاون بين لبنان وصندوق النقد الدولي يشكّل خطوة مهمة ومُلحّة على طريق إخراج لبنان من أزمته، والمبادرة في هذا السياق في يد الحكومة اللبنانية، التي يريد الصندوق ان تقدم له شيئا ملموسا ومُشجّعا له للاتفاق معها على برنامج تعاون كلّما تأخّر، كانت السلبيات اكبر على لبنان.
على انّ السفير عينه كشف امام الحاضرين عن سبيل آخر لخروج لبنان من أزمته، مؤكداً انّ الدور الاساس فيه هو للحكومة اللبنانية، ولا سيما لجهة العمل الجدي على استرداد الاموال المهربة او المحوّلة الى خارج لبنان خلال السنوات الثلاث الاخيرة، والتي في مجملها اموال ناجمة عن فساد وسرقات وعمليات احتيال، وهذا التوصيف هو للأمين العام للامم المتحدة الذي اكد خلال زيارته الاخيرة للبنان بأنّ ازمة لبنان وإهدار امواله ناجمان عن عملية احتيال.
واوضح السفير، كما نقل عنه بعض الحاضرين، «ان الاموال المهربة او المسروقة هي ملك للدولة اللبنانية، وهي على حد ما نسمع من اللبنانيين، أموال بمبالغ كبيرة جدا، فلو انّ لبنان سعى او تمكّن من استرداد هذه الأموال، فكان يمكن ان تُغنيه عن اللجوء الى صندوق النقد الدولي وكلّ المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة». وقال: «اليوم أنتم في لبنان امام فرصة أخيرة لإنقاذ انفسكم، فإن لم تنقذوا أنفسكم سواء بإصلاحات جذرية وسريعة، او عبر استرداد ما تمّ إخراجه من اموال بطريقة معيبة من بلدكم، فلا أمل لكم بالخروج من الازمة. انّ عليكم ان تُرغموا مَن أخرج المال على إرجاعه.
الاسترداد ممكن.. ولكن!
الّا ان مسؤولا كبيرا في الاتحاد الاوروبي أبلغَ الى أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب تأييده الكلّي لأن يبادر لبنان الى استرداد الاموال من خارج لبنان، وخصوصا تلك التي تحوم حولها شبهات سرقة وفساد.
وبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية» فإنّ المسؤول الاوروبي توجّه الى اعضاء اللجنة الخارجية بعدما أثاروا مسألة الاموال المهربة، وقال: نحن بالتأكيد نؤيّد هذه الفكرة، ولكن انا اريد أن أنوّركم، فلكي تسترد هذه الاموال هناك آلية معقدة ومسار طويل، حيث لا تستطيع الدولة اللبنانية ان تقول فقط لديّ اموال مهربة واريد ان استردها، ويُستجاب لطلبها. فأولاً، يجب ان يكون هناك تحقيق في لبنان، وان يكون هناك متّهم بشكل مباشر وتهمة مباشرة وصريحة تُوجّه اليه وتؤكد انه فاسد وقام بتهريب المال الى الخارج، وتحدد مكان وجود هذا المال بعد تهريبه، ومن ثم تُصدِر الحكم عليه، وبعدها تنتقل الى الخارج لتتفاوض مع الجهات المودع لديها هذا المال، في كيفية الافراج عنه واسترداده. وللعلم، فإنّ تونس حتى الآن لم تسترجع شيئاً من الاموال التي هرّبت خارجها، وكذلك الامر بالنسبة الى مصر، فالمسار طويل، بل هو طويل جدا. والخطوة الاولى الطبيعية يجب ان تبدأ من لبنان، وتحديداً من تطبيق قانون الاثراء غير المشروع.