(الجزء الأول)
1- مقدّمة : البداية” نقول لتبسيط الأمور، قد يبدو للبعض أنّ الأسبرين هي مجرد حبة بخسة الثمن لا ضرر من تناولها حتى بدون إستشارة اي طبيب وهذا ما كان يجري خلال ال 25 سنة الماضية. وكان الكثير من المرضى يتناولونها حتى من دون وصفة طبية في معظم الأحيان لإعتقادهم ان لها فؤائد صحّيّة كثيرة خاصة لناحية الوقاية من امراض القلب والشّرايين. وكان كُثر يتناولونها لأبسط الأسباب وكُثر يصفونها لغيرهم من الأهل والأقارب والأصحاب لدواعٍ مختلفة دون الإرتكاز على أَيّ مسوّغ او أساس علميّ او طبيّ مُثبت في دراسات سريريّة واسعة ومُتقنة، ودون التفكير كثيراً في العواقب التي قد تُصاحب ذلك.
صحيح أنه قد يبدو للبعض أن تناول الأسبرين “آمن” وانّ له فوائد أكثر ممّا له من أضرار، لكن في الواقع يبقى الأسبرين أحد الأدوية التي لها دواعي استعمال مُعيّنة والتي تحتاج إلى وصفة طبيب والذي هو وحده يُحدّد ما إذا كانت الفوائد من تناوله أكثر من المخاطر والأضرار التي قد تنتج عن ذلك.
ففي عام 2018 ، نُشرت ثلاث دراسات في اهم مجلّة علميّة اميركيّة وهي المجلّة الأميركيّة المشهورة New England Journal of Medicine تُشير إلى أن جرعة يومية مُنخفضة من الأسبرين تتراوح بين 80 و 100 ميليغرام لا تُوفّر فوائد صحيّة كبيرة لكبار السن الأصحّاء الذين لم يُصابوا من قَبل بهكذا امراض وعائيّة او قلبيّة. وبدلاً من ذلك، فقد يتسبّب ذلك عندهم بمخاطر جسيمة على حياتهم نتيجة إمكانية حصول حالات نزيف خطيرة كما سنشرح لاحقاً بشكل تفصيلي.
وقد غيّرت هذه الدراسات كثيراً من الوقائع التي كنّا نعرفها عن اهميّة تناول حبة الأسبرين “للوقاية الأوّلية” من امراض القلب والشرايين أي للوقاية الأولية من حدوث الذبحات القلبية والجلطات الدّماغية والمشاكل الشّريانيّة الأخرى قبل حدوث المرض عند بعض المرضى الذين كان الأطباء يعتبرون أنهم مُعرّضون للإصابة بهكذا امراض نتيجة وجود عوامل خطورة مثل التّدخين او مرض السُّكّريّ او إرتفاع الدّهنيات الضّارّة او مرض إرتفاع الضّغط الشّرياني او البدانة وقلّة الحركة وممارسة الرياضة لديهم. وقد كانت هذه التوصية هي الطريقة التي إتّبعها الأطباء منذ ثمانينيّات القرن الماضي، بحيث أنّهم كانوا فعليّاً وروتينيّاً ينصحون “الأشخاص العاديّين” او “الأصحّاء” بتناول كمية قليلة من الأسبرين يومياً”( بين 80 و100 ميليغرام) لمنع حدوث الأحداث القلبية والشريانيّة الخطيرة لديهم. كل هذه المعطيات العلمية القويّة التي ظهرت مُؤخّراً أنهت”الحقبة او العصر الذّهبيّ” للأسبرين وشكّلت ثورة كبيرة في هذا المجال، وأظهرت أنّ هذا الدواء ليس كلّياً بريء وان فوائده المُرتجاة قد تتبخّر نتيجة حالات النزيف الخطيرة التي قد يتسبّب بها. فهو قد يقود لحصول بعض المشاكل الخطيرة واهمها حالات نزيف حادّ في الجهاز الهضميّ او في الدّماغ، ممّا استدعى تغييراً جذرياً في التّوصيات العلميّة الحالية وتوجيه بوصلة تناول هذا الدواء الى الطّريق الصّحيح.
ولذلك كان لا بدّ أيضا” من كتابة هذه المقالة التي تُسلّط الضوء على ما كان يحدث في الماضي وما يجب ان تكون عليه الامور من الآن وصاعداً وفي المستقبل على ضوء هذه الدراسات الجديدة التي لم تثبت ان فوائد تناول الأسبرين تتجاوز بشكل كبير المخاطر المُترتّبة على ذلك. وبالتالي كان علينا منذ ظهور نتائج هذه الدراسات التعامل بجدّيّة ومهنيّة عالية مع المخاطر التي قد تترتّب على تناول هذا الدواء وبات علينا اليوم واجب الحيطة والحذر مع هكذا دواء لجهة عدم تناوله بشكل عشوائي كما كان يحدث سابقاً.
في هذه المقالة سوف نتحدّث اولأ عن التغيير الجذري الذي حصل في مجال التوصيات المُتعلّقة بتناول هذا الدواء في السنوات القليلة الماضية وخاصة في السنتين الأخيرتين، وعن واقع تناول هذا الدواء في مطلع العام 2022.
وفي الجزء الثاني من هذا البحث سوف نغوص اكثر في دواعي تناول الأسبرين وسوف نتحدّث عن الآثار الجانبية التي قد تنتج عن تناوله وعن المرضى المعرّضين اكثر للإصابة بمخاطر النزيف. وكذلك عن اهم الدراسات الجديدة التي ادّت الى تغيير المسار والتوصيات. وهي التي جعلتنا نشدّد اكثر على أهمية اللّجوء إلى طبيب لوصفه وللمشورة حول ضرورة ومخاطر تناوله لأنه يبقى في النهاية دواء ولا يمكن تناوله عشوائياً” بل ثمة أسباب ومُبرَرات تدعو إلى وصفه كعلاج لأشخاص معينيّن سوف نحدّدهم لاحقا”. وسوف نستعرض تباعاً ما كان سائداً حتى العام 2018 وما يجب ان تكون عليه الأمور حالياً في مرحلة نهاية الحُلم والحقبة الجديدة التي يجب ان يتعامل معها المرضى والأطباء مع هذه “الحبة السحرية”.
2-تغيير جذري في المسار والتوصيات : شهد العالم في السّنوات الأخيرة وخاصة منذ العام 2016 عدّة دراسات حول دور الأسبيرين في الوقاية الأولية والثّانوية من امراض القلب والشرايين، منها ست دراسات واسعة اجريت في الولايات المُتحدة وأُنهيت نتائجها حالياً نهائياً اي في نهاية العام 2021 وبداية العام 2022 “حقبة قديمة دامت لأكثر من 25 سنة”. وقد كانت طلائع هذا التغيير بدأت تظهر في العام 2018 بحيث إضطرت “هيئة الخدمات الوقائية الأمريكية” ومثيلاتها من الهيئات والجمعيٍات العلميّة الأوروبية والعالمية وعلى ضوء كلّ المعطيات الإضافية الأخيرة التي ظهرت في معظم تلك الدراسات التي ظهرت نتائجها تباعاً، لتحذير المرضى الذين يبلغون من العمر 60 عامًا أو أكثر، من تناول الأسبرين يومياً، بهدف “الوقاية الأوّلية” من أمراض القلب والشّرايين او لعدم التعرّض لمخاطر الإصابة بالسّكتة الدماغيّة. وأوضح عدّة خبراء في هذه الهيئة وعدّة خبراء في دول اوروبية اخرى أن الأدلّة الجديدة تُظهر أن المخاطر والأضرار المُحتملة لتناول الأسبرين بشكلٍ يومي كإجراء “وقائى أوّلي” (اي قبل ظهور اعراض المرض وتشخيصه النهائي) تُلغي الفوائد التي ظهرت من خلال تحليل الدّراسات الجديدة المتتالية. وكان آخرها عدة دراسات نُشرت في العام 2019 كما سنذكر لاحقاً.
ونشرت “هيئة الخدمات الوقائية الأمريكية” مُؤخراً ايضاً مُسودّة بيان يُوصي بأنّ الأشخاص البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و 59 عامًا والذين هم أكثر عرضةً للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية لأنّ لديهم الكثير من “عوامل الخطورة للإصابة بهذه الأمراض مثل التدخين وارتفاع الضّغط الشريانيّ ومرض السّكّريّ وارتفاع الدّهنيات والبدانة وغيرها من عوامل خطورة، ولكن ليس لديهم تاريخ مرضيّ سابق يؤكّد أنّهم اُصيبوا فعلاً بهكذا امراض بأن يقرّروا مع طبيبهم الخاص- او مع طبيب العائلة او طبيب امراض القلب والشرايين ما إذا كان يجب ان يبدأوا في تناول الأسبرين، كُلٌ حسب حالته وظروفه الفرديّة وعوامل الخطورة الموجودة عنده وبعد دراسة ملفّه التّفصيليّ بالكامل. هذا الأمر يجب ان يتمّ لكلّ مريض على حدة بحيث يجب دراسة وقياس ميزان الفائدة والمخاطر بكشلٍ دقيقٍ لأخذ القرار بتناول هكذا دواء على ضوء كل ذلك.
وهذه هي المرة الأولى التي يُوصي فيها الخبراء المرضى البالغين من العمر من 40 سنة حتى 59 سنة بالتحدّث إلى أطبّائهم حول ما إذا كان يجب عليهم ان يأخذوا الأسبرين من أجل الوقاية من الأزمات القلبية والوعائية أم لا وطبعاً بعد تقييمٍ دقيقٍ لميزان الفائدة والمخاطر عند كلّ شخص منهم .
والجديد ايضاً في هذه التوصيات ان الخبراء ينصحون حالياً أيضًا المرضى البالغين 60 عامًا أو أكثر بأن لا يبدأوا في تناول الأسبرين للوقاية الأوّلية من أمراض القلب والسكتة الدماغية لأنّ الأدلّة الجديدة تُظهر أن المخاطر والأضرار المُحتملة من تناول هكذا دواء تُلغي الفوائد التي كشفتها معظم الدراسات المذكورة مؤخّراً.
والجدير ذكره ايضاً مع بداية العام 2022، إن هذه التوصيات التي يقودها اهم الخبراء في هذا المجال ليست موجّهة للأشخاص الذين يتناولون الأسبرين ضمن ما يُطلق عليه طبّياً وعلمياً “الوقاية الثانوية” اي عند المرضى الذين توجد عندهم اعراض او علامات المرض ويأخذون هذا الدواء للعلاج الفعّال لهذا المرض او لمنع تطوّره وتقدّمه. وهم مجموعة واسعة من المرضى الذين تعرّضوا مثلاً لنوبة قلبية مثل” إحتشاء في عضلة القلب” او لما نسمّيه “بالذّبحة القلبيّة الحادّة” او “الخناق الصدري غير المستقر” او حتّى “الخناق الصّدري المستقر”، واحتاجوا بعدها لعمليات “قسطرة قلبية” او “تمييل لشرايين القلب”، مع ظهور إنسدادات في هذه الشرايين واحتاجوا للعلاج بواسطة الأدوية التي تُخفّف من اعراض هذا المرض وتحدّ من تطوّره وإختلاطاته واعراضه. او عند الذين احتاجوا لزرع “دعّامات او رسورات” او لتغيير الشرايين التاجيّة للقلب عبر زرع جسور ابهريّة-تاجيّة لعلاج الإنسدادات. وهذا ينطبق ايضاً على اولئك الذين حصل عندهم سكتة دماغيّة سابقة تمّ التأكد منها عبر الفحص السّريريّ والتصوير الطبقي المحوري او بواسطة تقنيات بالرنين المغناطيسيّ للدّماغ؛ فكل هؤلاء المرضى يجب أن يستمرّوا في تناول الأسبيربن “مدى العمر” إلّا في حالات إستثنائية، او في حال حصول حالات نزيف خطيره في اية منطقة او عضو مهم من اعضاء الجسم. او في حال احتاجوا لعمليات جراحية طارئة تستدعي إيقاف الأسبيرين لفترات وجيزة قد تتراوح بين 3 الى 5 ايام قبل إجراء العملية. على ان يعاودوا تناوله في اسرع وقت مُمكن بعد الإنتهاء من العملية والتأكّد انّه لا يوجد نزيف او إختلاطات جانبية للجراحة.
ويضاف الى هؤلاء المرضى الذين يجب الّا يوقفوا أبداً تناول الأسبيرين كل المرضى الذين يعانون من مشاكلد مُؤكّدة في شرايين الأطراف وخضعوا لعمليات زراعة دعامات او لإجراء عمليات جراحية لزرع “جسور وريديّة” او “صناعيّة” بهدف معالجة إنسدادات هذه الشرايين. او عند المرضى الذين يعانون فقط من تصلّب مُتوسّط او مُتقدّم في شرايين الأطراف ويجب علاجهم بالدّواء بهدف الحدّ من تطوّر هذا المرض وإختلاطاته.
3-الواقع كما يبدو في مطلع العام 2022: نشير هنا أنّه ورغم التّراجع الكبير الذي أصاب الأبحاث العلميّة الواسعة النطاق وعدم إجراء دراسات عالمية مهمّة في مختلف المجالات الطبّيّة منذ بداية إنتشار “جائحة كورونا” وإنشغال معظم دول العالم بعلاج المرضى المُصابين بهذا الفيروس وبالتّداعيات الصّحيّة والإجتماعيّة والإقتصادية التي تسبّب بها وبخطط توزيع وتعميم اللقاحات وغيرها، فإن امراض القلب والشرايين لا تزال تحتلّ مركز الصّدارة بعدد الوفيّات السّنويّة وبالإنتشار والكلفة المالية المتوجّبة للعلاج في كل الدول المُتقدّمة خاصة في الولايات المتحدة الأميركية واوروبا ومعظم الدول ذات الدخل المرتفع.
ولا تزال هذه الأمراض هي السّبب الرئيسي للوفاة في الولايات المتحدة، حيث تُسبّب حوالي 1 من كل 4 وفيات.
وهذا الأمر ينطبق كما قلنا على معظم الدول المتقدمة بما فيها لبنان رغم الأزمة المعيشية والإقتصادية والنقدية القاسية التي عصفت بهذا الوطن، والتي وكما كنّا قد شرحنا في مقالات سابقة ساهمت بالعكس في زيادة إنتشار هكذا امراض نتيجة تردّي الوضع الإقتصادي والمعيشي وإنتشار البطالة وحالات التوتر والقلق والخوف على المستقبل. ونتيجة انقطاع الكثير من ادوية الأمراض المُزمنة وارتفاع كلفتها بشكل جنوني، خاصة بعد رفع الدّعم “شبه الكلي” عنها مؤخّراً، مما دفع البعض الى تناولها بشكلٍ متقطّع في اغلب الأحيان وذلك بحسب القدرة الشّرائيّة للأفراد وبحسب الوفرة والعرض في الصيدليات ام لا. وقد اضطر البعض اخيراً الى ايقاف بعض الأدوية كلياً بسبب ارتفاع اسعارها او عدم توفّرها في الأسواق. أضف الى ذلك زيادة نسبة اللجوء الى التدخين بكلّ أشكاله وزيادة استهلاك الكحول والمخدرات عند البعض وخاصة بين الشّباب العاطلين عن العمل وفي ضواحي المدن المُكتظّة والأحياء الفقيرة وفي مخيّمات اللّاجئين الفلسطينيين والسوريين.
وفي حين تبيّن من معظم الدراسات أن تناول جرعة مُنخفضة من الأسبرين تتراوح بين 80 و 100 ميليغراما يومياً يُقلّل من خطر الإصابة بذبحة او بنوبة قلبية أو من سكتة او جلطة دماغية لدى بعض الأشخاص، فإن القيام بذلك يتصاحب للأسف أيضًا مع خطر حدوث نزيف مُحتمل في المعدة او الأمعاء او في الدماغ. وهي إختلاطات قد تكون خطيرة جداً وقد تؤدي احياناً إلى وفاة المريض او إلى ظهور إيعاقات خطيرة في حال حدوث جلطات دماغية او الى الدخول الى المستشفى من اجل تمرير كميات كبيرة من وحدات الدم في حال كان النزيف في المعدة.
ولذلك فمن المهم جداً حالياً أن يجري الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و 59 عامًا وليس لديهم تاريخ مرضي لإصابات مهمّة في القلب والشرايين او في الدماغ بحوار مفصّل ومعمّق مع طبيبهم العام او المتخصّص ليقرروا معاً ما إذا كان البدء في تناول الأسبرين مناسبًا لهم.
وقد أصدرت اهم جمعيّتان علميتان اميريكيتان في العام 2019 وهما “الكلية الأمريكية لأمراض القلب” و”جمعية القلب الأمريكية” إرشاداتٍ تقول بأنّ تناول جرعة يومية منخفضة من الأسبرين لم يعد يُنصح به كوسيلة وقائيّة للمرضى الكبار في السّن الذين ليس لديهم مخاطر عالية للإصابة بهده بهذه الأمراض أو أمراض قلبية ووعائية موجودة مُسبقاً عندهم.
ولذلك فقد أصبحت التوصيات الجديدة كما ذكرنا سابقاً هي بعدم تناول هذا الدواء عند المرضى البالغين 60 سنة وما فوق اذا كان الهدف من تناول هذا الدواء هو الوقاية الأولية من هكذا امراض كنا شرحنا عنها وللأسباب التي اشرنا اليها.
د طلال حمود- طبيب قلب تدخّلي-
مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود.