ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس، قداسا في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الانجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها: “يلتقي ربنا، في إنجيل اليوم، صيادين مرهقين نفسا وجسدا. لقد تعبوا طوال الليل ولم يصطادوا شيئا، وكأن الأمر امتحان إلهي يتعلم من خلاله الرسل الصيادون، ونحن معهم، كيفية الاعتماد المطلق على كلمة الله وتدبيره الخلاصي”.
أضاف: “لقد صادف الرب سفينتين واقفتين عند الشاطئ، إنحدر منهما الصيادون خائبين وخائري القوى، لأنهم انتهوا من رحلة الصيد دون أن يتمكنوا من اصطياد سمكة واحدة. كانوا يغسلون الشباك لكي يوضبوها ويتهيأوا لصيد جديد في المساء المقبل. إلا أن توقيت الرب يعمل، أحيانا كثيرة، عكس التوقيتات التي نضعها لأنفسنا. فقد حضر الرب يسوع ودخل إحدى السفينتين طالبا من مالكها، سمعان بطرس، أن يبتعد قليلا عن البر ليستطيع أن يعلم الشعب. السفينتان ترمزان إلى العالمين اليهودي والأممي اللذين خرج منهما رسل ومبشرون بالمسيح وكلمة الله. هذا الأمر هو دلالة على أن الكنيسة، سفينة المسيح، ليست حكرا على فئة دون أخرى، بل هي تحمل المسيح، ويخرج منها أبناء الله جميعهم، المخلوقون على صورته ومثاله بلا تفرقة. دخول المسيح سفينة بطرس هو تهيئة أيضا من أجل تشديد إيمان هذا الرسول الذي سيصبح الصخرة التي عليها ستبنى الكنيسة. الكنيسة، المرموز إليها بالسفينة، أرادها المسيح خالية من الدنيويات، لذلك سمح بألا تمتلئ سمكا، حتى تكون منبرا للبشارة الحقيقية المتسامية عن الماديات، ولهذا بدأ يعلم الجموع عن متن السفينة – الكنيسة، لكي يعلمنا أن الكنيسة هي بدءا منبر تعليم كلمة الله ونقل البشارة السارة والطعام الروحي إلى الجميع، وبعد ذلك تكون مكانا يحمل إليهم الطعام الدنيوي”.
وأردف: “ثمة كتاب روحي مهم، قامت مطرانيتنا بترجمته، عنوانه: “أمسية في برية الجبل المقدس”، وهو كتاب يعرض لنا خبرة كاهن (أصبح متروبوليتا) كان يبحث عن أجوبة روحية لدى مستنيري جبل آثوس. نقرأ في هذا الكتاب: “ليست الكنيسة وزارة شؤون اجتماعية، إنما هي “خزانة النعمة الإلهية”. ليس الكهنة موظفين أو ذوي عمل إجتماعي رسمي للعموم، إنما هم رعاة يرعون شعب الله، وعملهم الرعائي هذا لا يمكن أن يتم إلا بالإتضاع والقداسة. كل عمل إجتماعي لا يتم بالقداسة والإتضاع، سرعان ما يزول، في حين يبقى العمل الإجتماعي، مهما كان صغيرا، ويتخذ له أبعادا عظيمة، إذا لازمته حياة مفعمة بالقداسة والإتضاع”. يختصر هذا الكلام ما أراد الرب تعليمنا إياه في هذا الإنجيل، عن أن خلاص النفس يأتي قبل الجسد بالنسبة إلى الكنيسة. الأمر الذي لا يعيه أبناء الكنيسة في أيامنا الحالية، ويريدون من الكنيسة أن تكون مستودع مؤونة وأدوية ومساعدات مالية، وينسون أن عملها الأساسي هو خلاص نفوسهم. يقولون لنا: “كفوا عن الوعظ والكلام وأطعمونا، أو ستخسرون ما تبقى من مسيحيين”. هذا الكلام لا ينبع من قلوب بشر مؤمنين، بل من أناس اعتادوا أن يتقاضوا ثمن مبادئهم وآرائهم، يطبلون لمن يطعمهم وعندما يتوقف عن ذلك يرحلون عنه بحثا عن آخر. لذلك سمح الرب بأن تفرغ سفن هذه الأيام من السمك، وأن يتبدل توقيت الصيد، فيتذكر تلاميذه، أبناء الكنيسة، أنه هو إله كل زمان ومكان، وهو الآمر الناهي. لا يريد الرب بطونا ملأى ونفوسا فارغة، بل ما يهمه في البدء هو إشباع النفس بما يحييها. هذا لا يعني أن الكنيسة لا تهتم بالجسد، بل هي تسخر كل إمكاناتها في سبيل خير البشر، من خلال إنشاء المستشفيات والمدارس والجامعات والمؤسسات التي تضع الإنسان وحاجاته في أعلى سلم اهتماماتها. لكن الكنيسة لا تحل محل الدولة. إن من واجب الدولة تأمين حاجات مواطنيها وحقوقهم. هل يجوز أن يستعطي المواطن حقه في دولة يعيش فيها ويقوم بواجباته أمامها ويحترم دستورها وقوانينها؟ هل يجوز أن يموت المواطنون في قوارب الموت فيما هم يبحثون عن ملجأ آمن لهم ولعيالهم، هربا من جحيم يعيشون فيه؟ هل يجوز أن ينفجر قلب المدينة بسكانه وبيوتهم ويتركون لمصيرهم؟ وهل يقبل إنسان مسؤول أن يفتش إنسان فقير في وطنه عما يسد جوعه في النفايات؟”.
وقال عودة: “القليل من التواضع يا أيها المسؤولون، والإعتراف بالعجز ليس عيبا. فعندما يعجز إنسان عن إتمام واجبه أو تنفيذ مخطط عمله، عليه أن يتراجع عن التمسك بمركزه وإتاحة الفرصة أمام من هو قادر على العمل. الدولة ليست مرتعا للفاشلين أو العاطلين عن العمل وليست حلبة للمصارعة وإعلان الإنتصار، كما أنها ليست المكان المناسب للمحاصصات وتقاسم الغنائم. الدولة مكان للعمل الجاد الدؤوب من أجل خدمة المواطن وتأمين سلامته وحقوقه، وحفظ تراثه، والتخطيط من أجل مستقبل أفضل لأبنائه.
إنه وقت التخلي عن الأنانيات والمصالح الضيقة. لبنان في قعر الهاوية وهو بحاجة إلى من يقيمه منها لا إلى من يغرقه أكثر ويشده إلى أسفل. الوقت ليس وقت التمسك بحقيبة وزارية، أو التشدد في المواقف، أو التشفي من الأخصام. الوقت للعمل والإنقاذ، والتاريخ لا يرحم، كما أن الضمير أيضا لا يرحم ولو بعد حين. معيب جدا أن يهتم الخارج لمصلحتنا أكثر من اهتمام السياسيين والزعماء. معيب أن يتلهى السياسيون بتقاسم الحقائب والتعنت ووضع الشروط لتسهيل قيام حكومة والمواطنون على أبواب السفارات وفي غياهب البحر، ومن بقي منهم في لبنان يبكي حظه السيء ويستعطي قوته ومستلزمات عيشه ويلعن من أوصله إلى هذا الدرك. معيب أن يدفع رئيس مكلف لتشكيل الحكومة إلى التنحي بعد شهر من الأخذ والرد دون نتيجة وكأن لا قيمة للوقت المهدور فيما الخناق يشتد على أعناق اللبنانيين.
ماذا تريدون بعد؟ ألم يكف ما جنيتموه خلال السنوات المنصرمة، وما اقترفت أيديكم من ظلم وبطش واستغلال واستزلام وتفقير وتجويع؟ وهل طموحكم أن تبقوا في الحكم على أنقاض البلد وجثث المواطنين؟ عودوا إلى ضمائركم إن كانت بعد موجودة، واتركوا الأنقياء والأكفاء والصادقين والمتواضعين يحكمون”.
وتابع: “بعدما انتهى المسيح من تعليم الجموع، طلب من بطرس أن يلقوا الشبكة ليصطادوا السمك. عادة يتم الصيد في الليل، إلا أن المسيح طلب أن يتم الصيد في وضح النهار. صحيح أنهم تعبوا طوال الليل، إلا أن الرب علم صياديه أن على من أراد الوصول إلى الصيد الوفير أن يتعب أكثر، الأمر الذي يعبر عنه الرسول بولس في رسالة اليوم قائلا: “نظهر في كل شيء أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في جلدات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام، في طهارة، في معرفة، في طول أناة، في رفق في الروح القدس، في محبة بلا رياء، في كلمة الحق، في قوة الله بأسلحة البر عن اليمين وعن اليسار، بمجد وهوان، بسوء صيت وحسنه…” (2كور 6: 4-8). عندما طلب الرب من بطرس إعادة الصيد، برر بطرس نفسه كصياد ماهر بأنهم تعبوا طول الليل ولم يأتوا بسمكة واحدة، أفينجح الصيد في النهار. لكن بطرس لم يشأ أن يحزن معلمه، فقال له: “لأجل كلمتك ألقي الشبكة”. يقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلان: “يا رب، أنا أيضا أعلم تماما أن ظلام الليل يكتنفني عندما لا تكون أنت قائدي، فيحيط بي الظلام عندما ألقي ببذار الكلمة الباطلة التي من عندي”. إن جهاد بطرس طول الليل بلا ثمر يمثل من يكرز ببلاغة بشرية وفلسفات مجردة، لذا صارت الحاجة أن يتم الصيد في النهار، حيث يشرق نور المسيح، شمس العدل، مقدما كلمته الفعالة التي تملأ شباك الكنيسة سمكا حيا”.
وأضاف: “كل عمل نقوم به، ليس مؤسسا على صخرة المسيح والكلمة الإلهية، يكون عملا باطلا. هذا ما يفرق المؤمن عن غير المؤمن. المؤمن يقوم بالعمل لمجد الله، أما غير المؤمن فلمجده الشخصي، وليظهر أن الإنسان يستطيع العمل من دون وجود الله في حياته. صحيح أن الإنسان يستطيع العمل بعيدا عن الله وكلمته، لكنه سيشقى طول الليل كبطرس، ولن يصطاد شيئا. أما إذا أدخل الله إلى حياته، فإن عمله سيأتي بثمر كثير يفيض لجموع كثيرة.
كم نحتاج في هذه الأيام إلى التمتع بالثقة بالرب، عندئذ سننذهل كبطرس الذي ظن أنه صياد ماهر وشك في مهارة الرب يسوع الذي اصطاده هو أولا، وعبره جموعا كثيرة.
عندما عاين بطرس عمل النعمة الإلهية في حياته شعر بضعفه البشري وقال للرب: “أخرج عني يا رب فإني رجل خاطئ”. أحس بأنه تكبر بظنه أنه عالم أكثر من الرب يسوع. ألا يفعل الكثيرون منا الأمر نفسه؟ لهذا، فإن الدعوة في إنجيل اليوم هي إلى التواضع، وتقبل الكلمة الإلهية، والعمل بها من دون أي شك في مصداقيتها”.
وختم عودة: “إن كل من يعمل بحسب كلمة الرب، سيسمع صوت الرب قائلا له، كما لبطرس: “من الآن تكون صائدا للناس” . كل من يكون مع الرب يصطاد الناس، ليس بالضرورة من خلال الكلام، بل من خلال كل عمل يقوم به: “هكذا فليضئ نوركم قدام الناس، ليروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16). يقول بولس الرسول لتيموثاوس، الإبن الصادق في الإيمان: “كن مثالا للمؤمنين في الكلام والتصرف والمحبة والروح والإيمان والعفاف” (1تيم4: 12) ويدعو ابنه في الإيمان تيطس إلى أن يجعل نفسه في كل شيء مثالا للأعمال الصالحة (تيطس2: 7). فيا أحبة، ليكن الرب في كل أعمالكم، فتجتذبوا كل من يشاهدكم إلى تمجيده هو من خلالكم، وبهذا تصبحون صائدي للناس، آمين”.