ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة قداس الأحد والجناز عن راحة نفس البطريرك إغناطيوس الرابع في ذكراه التاسعة، في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل، ألقى عوده عظة قال فيها: “نسمع في إنجيل اليوم عن امرأة منحنية منذ ثماني عشرة سنة، تنوء تحت عبء المرض والألم، يشفيها يسوع يوم سبت وكان في أحد المجامع يعلم، فاستاء رئيس المجمع لأن يسوع كسر الناموس وتخطى أحكامه، وبكت الجمع والمرأة على تجاوز عطلة السبت قائلا: هي ستة أيام ينبغي العمل فيها، ففيها تأتون وتستشفون لا في يوم السبت (لو 13: 13-14). لم يتوجه بكلامه إلى المسيح شخصيا، بل أدان عمله الشفائي معتبرا إياه مخالفا للناموس. في العمق، جهل هذا الناموسي الناموس، وانفصل عن روحيته. لم ير في أوامر الناموس المحبة والتحرر من أركان العالم. إن هدف الناموس هو تدريب الشعب حتى يصبح قادرا على قبول المسيح، ومساعدته على معرفة الخطيئة، مهيئا لأحداث الخلاص الآتي”.
أضاف: “نرى في إنجيل اليوم أن الناموس يحرف ويستخدم ضد المسيح. إن الفترة الزمنية لصوم الميلاد تساعد على مواجهة هذا الأمر، لأنه كما كان الناموس يؤدب شعب إسرائيل ليقبل المسيح، هكذا نحن أيضا نتهيأ بالتسابيح، ومن خلال ناموس الصوم، لنعيد لمجيئه تعييدا واعيا. إن حسد رئيس المجمع وجد طريقة قانونية ليبرز أمام الآخرين، متوسلا عطلة السبت. في الحقيقة، لم يكن الناموسي مهتما بالناموس، لذلك دعاه المسيح مرائيا قائلا: يا مرائي، أما يحل كل منكم يوم السبت رباط ثوره أو حماره من المذود ويذهب به ليسقيه؟ في صدامه المستمر مع الفريسيين من أجل عطلة السبت، قال المسيح في موضع آخر: السبت إنما جعل من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت (مر 2: 27). يشير كلام المسيح هذا إلى معنى السبت، كما إلى الناموس كله بشكل عام. فقد أعطي الناموس ليخدم الإنسان ويساعده على إيجاد الطريق نحو الكمال الروحي، فيصبح راشدا وكاملا في المسيح. يوم السبت مقدس عند اليهود. هو يوم راحة وصلاة. فكما استراح الرب، بعد الخلق، في اليوم السابع، هكذا يستريح الإنسان من عمل الأسبوع في يوم السبت، ويكون بذلك حافظا للعهد الذي يربطه بالرب: سبوتي تحفظونها لأنها علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم (خروج 31: 13)”.
وتابع: “كان للسبت هدف عملي مباشر، هو إراحة الناس من أتعاب الأيام الستة، وهذا أمر كانوا بحاجة ماسة إليه. ارتبطت هذه الراحة بتلاوة كتب الشريعة والصلاة، لأن التعب الجسدي والاهتمامات الكثيرة، تعيق الذهن عن التوجه نحو الله. إذا، اتخذت عطلة السبت مضمونا روحيا، حيث يترافق توقف الجسد عن العمل مع عمل النفس. تاليا، لم يأت السبت بجمود توجبه الشريعة، بل بإمكانية إتمام الأعمال المرضية لله. وفيما يحمل عمل الأيام الستة مصلحة شخصية، وفر السبت فرصة لإتمام عمل خال من الأنا. لقد استراح الله من كل أعماله في اليوم السابع، وعاد من السفليات إلى ما فوق العالميات. هكذا تمثل الراحة من كل الأعمال الجسدية العودة بذهننا إلى ملكوت الله الذي في داخلنا بقوة النعمة. بالنسبة إلينا، نحن المسيحيين، سبتنا هو يوم الأحد، المكرس لقيامة المسيح. إنه الانفصال عن الفكر الجسداني، وتغير الأهواء كلها حتى تتجلى وتتحرك بمقتضى مشيئة الله. أحيانا كثيرة يتحجج المسيحيون بأن أيام الأسبوع صعبة ومتعبة، وهم ينتظرون يوم الأحد لكي يناموا ويرتاحوا، أو لينصرفوا إلى الترفيه عن أنفسهم، وينسون كلام الرب يسوع: “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم (مت 11: 28)”.
وقال: “يا أحبة، البشر دائما محاطون بخطر استخدام السبت، والناموس عموما، على طريقة رئيس المجمع. فعوض استخدامه كسلاح ضد ميول أهوائهم، يبرزون من خلال أوامره حسدهم وأنانيتهم وبغضهم. الناموس الهادف إلى المحبة قد يستخدم للحسد والكراهية، وذلك طبعا عندما يجهل الناس روحه، ويقفون على حرفيته القاتلة، كما يقول الرسول بولس، الذي كان ناموسيا عظيما: إن الحرف يقتل، لكن الروح يحيي (2كو 3: 6). رئيس المجمع عاين شفاء المرأة المنحنية ولم يفرح، بل غضب لأنه شعر بأن الناموس يحل. لم ينكر قوة المسيح الشفائية، لأن الأحداث كانت صارخة ولم يستطع إنكارها، لكنه انقسم على نفسه وعاش الناموس بطريقة لم تسمح له بأن يفرح مع الفرحين، ولا أعطته إحساسا روحيا مرهفا مقترنا بالمحبة، ولا ساعدته لينتصر على أهوائه، لا بل أخفى أهواءه تحت ستار المحافظة الصارمة، كما تخفي القبور الفاخرة نتانة الأجساد الميتة، التي يبدو ظاهرها جميلا، أما داخلها فمملوء من عظام الموتى وكل نجاسة (مت 23: 27)”.
أضاف: “عندما يعجز الإنسان عن النظر إلى وصايا الله كحياة وحرية ونهج يصله شخصيا بالله، ويشعر أنها قوانين وضعها له حاكم عظيم القدرة، لا يمكنه أن يحب الله والناس إطلاقا. سوف يرى الله ربا قاسيا ومتشددا، ولن يجد فيه الإله الذي أفرغ ذاته ليرتبط بالإنسان ويجتذب إليه الكثيرين. مسيحيون كثيرون يقفون عند حدود العقائد، ولا يتخطونها نحو ناموس المحبة الذي أرساه المسيح، فيكفرون إخوتهم البشر، ويصنفونهم حسب فهمهم الشخصي، وينسون أن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله (لو 18: 27)، وأن المحبة تستر جما من الخطايا (1بط 4: 8). هؤلاء يظهرون الله بأبشع صورة، فيعثرون الآخرين بدلا من اجتذابهم نحو المسيح القائل: ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة (مت 18: 7). إنهم يضعون أنفسهم مكان الديان العادل، وكأن الملكوت ملكا لهم وحدهم، أو كأنهم أصحاب الملك في السماوات، يدخلون إليه من يشاؤون، ويتركون خارجا من يشاؤون. عندما لا يحفظ الإنسان ناموس الله بطهارة، حينها يخلق الناموس في الإنسان غضبا وعدائية على مثال رئيس المجمع، ويتحول الغضب والعدائية ضد من يحسبون مخالفين، مثلما حدث في إنجيل اليوم، أو ضد الناموس نفسه، من خلال رفض جزئي أو كامل له. في الحالتين، يحرم الإنسان نفسه من النور والحياة الحقيقية، فيجعلها عاجزة عن المحبة، وتاليا عاجزة عن تذوق شيء من معنى ميلاد المسيح الآتي”.
وتابع: “أحبائي، نعيد غدا للقديس نيقولاوس العجائبي، رئيس أساقفة ميراليكية. هذا القديس كان همه الإنسان، الأمر الذي عبر عنه من خلال إنقاذ الفتيات اللواتي كان يريد أبوهن أن يزوجهن مقابل المال بسبب الفقر، ومن خلال إنقاذه القادة الثلاثة المقبوض عليهم ظلما، وغير ذلك من المساعدات الإلهية التي قدمها. لم يعمل القديس نيقولاوس إلا بناموس المحبة، الذي يجب أن يعمل بوحيه كل مسؤول يعي مسؤوليته حقا. الرب يسوع كان يخالف اليهود في تمسكهم بحرفية النص، وكان يعتبر عمل الرحمة في السبت أفضل من اللاعمل، وأن شفاء المرضى وتحريرهم من كابوس المرض هو إدخال لهم في الراحة، لذلك كان يقوم بشفاء المرضى في كل الأيام وفي السبت أيضا لأن السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت (مر 2: 27)”.
وقال: “كم نحن في حاجة في لبنان إلى هذه الرؤية، إلى جعل كل شيء في خدمة الإنسان وقد أصبح إنسان بلادي جائعا ومريضا وفقيرا، ومستعطيا الدواء، ومظلوما من حكام لا يبالون إلا بمصالحهم، وزعماء لا يعرفون إلا استغلاله من أجل الوصول إلى مآربهم، ومتى وصلوا نسوا كل شيء إلا التشبث بمراكزهم وكراسيهم ولو على حساب الشعب وحياته. وما ردة فعلهم على التحقيق في تفجير بيروت إلا عينة عن أنانيتهم وقلة مسؤوليتهم وعدم اكتراثهم بشعبهم. والآن يعطلون عمل الحكومة من أجل غاياتهم وكأن البلد ملكا لهم يتصرفون به حسب أمزجتهم ومصالحهم. وعوض أن تكون اجتماعات الحكومة مفتوحة ومتلاحقة وغير منقطعة من أجل إخراج لبنان من عمق أزماته، نراها معطلة مشرذمة وغير منتجة. وكلنا نعرف أن الفرصة التي تضيع لا تتكرر، وأن هدر الوقت يفاقم الأوضاع، وأن لا حل خارج المؤسسات الدستورية التي يجب أن تعمل وفق أحكام الدستور والقوانين، ومن أجل خير الشعب. لذلك على الحكومة أن تتكاتف وتنصرف إلى العمل، وإن كان أعضاؤها واعين ثقل مسؤوليتهم، عليهم الإقلاع عن سياسة التعطيل وفرض الشروط، والعمل من أجل إخراج لبنان من أزمته المميتة، ومساعدة شعبه على البقاء على قيد الحياة. أما استرضاء هذه الجهة وتطييب خاطرها، ومسايرة تلك والتغاضي عن أخطائها، فليست الطريقة الفضلى لإدارة البلاد. وعلى الجميع أن يعوا أن مصلحة لبنان فوق مصالحهم وأنهم في مراكزهم للخدمة والعمل لا لتعطيل البلاد وقهر العباد”.
وختم عوده: “كل ناموس أو قانون لا يكون الإنسان أساسه الأول والأخير ليس ناموسا إلهيا. لذلك، دعوتنا اليوم أن نحب الجميع، ونكون ناموسا حيا تنبع منه المحبة للجميع، حتى نصل إلى تذوق الملكوت مسبقا على هذه الأرض العطشى إلى بشر محبين، متواضعين لا يسعون إلى التقاتل والكراهية إشباعا لأنانيتهم، بل إلى التسامح والأخوة”.