لم يكد يمُر أسبوعان على محاولة فريق 14 آذار إسقاط المجلس النيابي لتغيير التوازنات النيابية عبر استقالات جماعية لنوابه بعد تفجير مرفأ بيروت، حتى عاد هذا الفريق إلى تنفيذ الهدف نفسه لكن عبر السيطرة على الحكومة الجديدة بعد إسقاط حكومة الرئيس حسان دياب الشهر الماضي.
فرئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي أسقط خطة تطيير المجلس النيابي ووصفها حينها بالانقلاب السياسي عبر إقناعه المستقبل والحزب الاشتراكي بعدم التورّط بمشروع تعميم الفراغ الشامل في الدولة والتوجّه لتغيير حكومي، يخوض اليوم باسم أمل وحزب الله والفريق الوطني العريض معركة إسقاط الانقلاب الثاني المتمثل بالسيطرة على القرار التنفيذي في الدولة لاستكمال السيطرة الأميركية على البلد.
كيف ذلك؟
ظنّ المعنيون بتأليف الحكومة أن الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون سيستميل حزب الله إلى صفه عبر التطمينات المتتالية التي يرسلها باتجاه «الضاحية» وكلامه المعسول في قصر الصنوبر على مسامع النائب محمد رعد، الأمر الذي سيدفع الحزب إلى تسهيل مبادرة ماكرون ببنودها المرئية أو تلك التي تتخفى بين السطور لإرضاء فرنسا والتخفف من ثقل العقوبات وبالتالي الضغط على عين التينة أو عدم مجاراتها والاصطفاف على الحياد، فإما يرفض الحزب فيتحمل مسؤولية تعطيل المبادرة وإما يقف ضد بري وبالتالي توتر علاقة حليفي الثنائية. وهذا هدف أميركي – إسرائيلي قديم، فيبقى بري حينها وحيداً في معركة الدفاع عن «قلعة» المالية وحقوق الطائفة الشيعية ويظهر كمعطل لولادة الحكومة «الفرنسية» ما سيدفعه للتنازل تحت ضغط «الحياء» من «الأم الحنون» وخشية عقوبات ترامب وحسابات التيار الوطني الحر الخائف بدوره من العقوبات وتحت صدمة «غدر» الرئيس سعد الحريري ومكر رؤساء الحكومات السابقين.
إلا أن رئيس حركة أمل المتمرس في العمل السياسي والعالِم بالتوازنات الداخلية والإقليمية والدولية أظهر قدرة فائقة وجرأة كبيرة في الصمود على موقفه أمام شتى أنواع الضغوط السياسية الداخلية والخارجية ونجح في جمع مختلف القوى الشيعية السياسية والدينية تحت عباءته وحوّل الاحتفاظ بالمالية إلى معركة تعني الطائفة الشيعية برمّتها وليس حزباً أو حركة، رافعاً «الكارت» الأحمر بوجه الأطراف التي مدت يدها لتنتزع حقاً من حقوق الشيعة التي كرّسها عرفاً اتفاق الطائف الذي كان رئيس البرلمان شريكاً أساسياً في صناعته، واضعاً معادلة واضحة أمام الجميع: فإما القديم على قدمه وإما إعادة النظر بالنظام الطائفي برمته والانتقال إلى الدولة المدنية وحينها يمكن البحث بطائفية المواقع والمناصب، وخاطب ماكرون بالقول: «شكلوا حكومة بلا الشيعة إذا فيكن». فتسأل مصادر سياسية المنظرين لمبدأ المداورة: هل تقبل الطائفة السنية على سبيل المثال لا الحصر التخلي عن وزارة الداخلية وإسنادها الى مسيحيين أو دروز وهل يقبل المسيحيون التنازل عن مواقع إدارية وقضائية وعسكرية وأمنية من الفئة الأولى للشيعة أو للسنة؟ علماً أن كل هذه المناصب هي أعراف لم تكرّس في الدستور ومنها تخصيص المالية للشيعة في الطائف عرفياً لا نصاً وإلا لماذا أُسنِدت إلى شيعي في أول حكومة بعد الطائف وتحديداً للنائب الراحل علي الخليل؟ فلماذا لم تؤول إلى مسيحي أو سني مثلاً؟ وإذا كان الرئيس بري تنازل عنها في بعض الحكومات لحسابات وضرورات إقليمية – محلية وفي إطار معادلة إقليمية شكلت دمشق ضمانة للمقاومة آنذاك، فلا يعني أن الاستثناء يُسقِط العرف علماً أن المالية عادت إلى الشيعة منذ حكومة تمام سلام حتى حكومة الرئيس دياب، فألا تكفي سبعُ سنوات لكي تصبح عرفاً؟
فالرئيس بري بحسب المطلعين على موقفه يؤكدون أنه توجس شراً جراء العقوبات الأميركية على معاونه السياسي النائب علي حسن خليل ما دفعه للتشدّد وشدّ الأحزمة إيذاناً بانطلاق مواجهة شرسة مع الحرب الجديدة يعرف الرئيس أسبابها ومراميها تبدأ بتطويعه ولا تنتهي بضرب المقاومة عبر حكومة يراد لها أن تلعب الدور الذي لعبته حكومة فؤاد السنيورة عام 2005 لكن بأساليب ناعمة خشية استفزاز حزب الله إلى الشارع.
وبحسب معلومات «البناء» فقد بدأت مفاوضات من نوع جديد مع الرئيس بري فور الإعلان عن العقوبات على النائب خليل فحواها المقايضة بين منح المالية لبري وتجميد العقوبات مقابل تنازله عن ملف ترسيم الحدود إلى رئيس الحكومة المقبل، فكان ردّ رئيس المجلس واضحاً لن نتنازل عن المالية ولا عن قطرة نفط وذرة غاز مهما بلغت العقوبات.
والواضح أن مسار العقوبات تهديداً وفرضاً لن يتوقف، فأصبح سيفاً مسلطاً على رقاب المعارضين للسياسة الأميركية يشبه إلى حدٍ كبير المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري التي أعيد استحضارها غب الطلب الأميركي، فالاستحقاقات التي تلي ولادة الحكومة – البيان الوزاري والثقة النيابية وعمل المجلس النيابي ستواكبها «سِللٌ» من العقوبات كما حصل في استحقاقي التكليف والتأليف ثم يبدأ تنفيذ الخطة: إصلاحات مالية اقتصادية تحمل شروطاً سياسية وإلا فالعقوبات جاهزة، فالسياق المتبع في عملية التأليف وموقف بري «النبيه» أيقظ حزب الله الذي حسم موقفه بالوقوف خلف قصر الرئاسة الثانية، وبأنه لن يسمح بكشف ظهره في الحكومة التي قد تمتدّ إلى نهاية العهد الرئاسي.
فالرئيس بري يدرك أن تنازله عن المالية هذه المرة ستسقط صفة العرف عنها وعن ميثاقيتها إلى الأبد وستُكرَس لطوائف أخرى ستحتفظ بمواقعها الطائفية كاملة ويخسر الشيعة موقعاً أساسياً في السلطة التنفيذية سيضعف حضورهم في الدولة وفي النظام السياسي الطائفي القائم، وحينها ستكسر إرادة أركان الطائفة الشيعية ويعود بهم الزمن إلى ما قبل اتفاق الطائف وتكُر سُبحة تقديم التنازلات بالإكراه ويسيلُ لعاب «الماكرين» الداخليين والخارجيين وما أكثرهم على اقتناص الفرص لتجريد فريق المقاومة مواقع قوة أخرى، وفي إحدى «الليالي الظلماء» المنتظرة فقد يأتي فريق «الحياد والتكنوقراط والإصلاح» ليقول إن رئاسة المجلس النيابي ليست منصباً شيعياً وليست ميثاقاً ودستوراً بل عرف أو ليس ضرورة أن يكون رئيس المجلس الأقوى شيعياً بل صاحب اختصاص ومستقل ومحايد لضرورة الانسجام مع الحكومة «التكنوقراطية» ولمرة واحدة فقط وهذا يستتبعه ضغط لمنح الحكومة العتيدة صلاحيات استثنائية لتسهيل عملها الإصلاحي وما يخفيه من شروط دولية بالجملة تبدأ بالنفط وبيع أصول الدولة ولا تنتهي بفتح ملف سلاح المقاومة على مصراعيه ووضعه على المشرحة الدولية ولا بالتوطين والتطبيع وليس على شاكلة التطبيع القائم بل «تطبيع تسوية» لملفات النزاع الحدودي البحري والبري والنفطي لمصلحة إسرائيل طبعاً ووصولاً إلى بحث دور لبنان في الصرع العربي الإسرائيلي.
والأخطر هو محاولة المسّ بالتوازنات الطائفية وتولد شعور قوي لدى الثنائي والطائفة الشيعية عموماً بأننا أمام انقلاب على الطائف وعلى الميثاق ما يخفي مشروعاً خارجياً لإحداث صراع طائفي قد يؤدي إلى توتر أمني – طائفي يكون مقدمة لتقسيم أو فدرالية!
ثمة قناعة لدى «الثنائي» بأن انتزاع المالية حلقة ضمن خطة لإضعاف الرئيس بري كمكون يمثل الطائفة الشيعية في الدولة حتى الوصول إلى الانتخابات النيابية ورئاسة المجلس فيجري العمل على إقصائه من رئاسة المجلس بتجميع بلوك نيابي رافض لانتخابه وبالتالي ضرب الحليف الأول للمقاومة. أما بقية حلفاء المقاومة فمن سيتجرأ حينها على المطالبة بحقيبة إذا كان رئيس المجلس أُجبر على التنازل عن المالية! وهكذا يتم إقصاء حلفاء المقاومة من الحزب السوري القومي الاجتماعي والمردة والديموقراطي واللقاء التشاوري للسنة المستقلين وبالتالي إسقاط الأكثرية النيابية بخدعة حكومية قاصمة. فيما الوزراء الآخرون الذي اختارهم نادي رؤساء الحكومات ينتسبون إلى فريق الحياد و14 آذار والأميركيين مموهين بصبغة و»قناع» الاختصاص وإن لم ينتسبوا إلى حزب سياسي.
كما تدرك عين التينة ومعها «حارة حريك» أن تجريد الثنائي من تمثيله الحكومي سيجعله خارج الحكم وبالتالي تمرير المشاريع والقرارات من دون علمهما، فكل إشراقة صباح و»ليلة ظلماء» سيستفيقان على «مؤامرة ناعمة» وقرارات جائرة على غرار قرارات 5 أيار 2008 ويكون قد فات الأوان ولا حول ولا قوة لهما إلا اللجوء إلى الشارع المحفوف بالمخاطر.