كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: ثمة ثمن إضافي سيدفعه الأجراء فوق كل الخسائر التي تكبّدوها في السنتين الماضيتين لإطفاء خسائر المصارف ولتعويض رساميل التجّار. سيدفعون ثمن تصحيح للأجور لا يستند إلى أي قاعدة علمية، وثمن انحياز قوى السلطة وهياكل النقابات لمصالح أصحاب الرساميل الذي يخوضون معركة قضم تعويضات نهاية الخدمة ومنع احتساب تصحيح الأجور ضمنها. في المحصّلة، خسر العمال قوّتهم الشرائية حاضراً، وسيخسرون تعويضاتهم مستقبلاً. ما يحصل لا يرتقي إلى “معركة”، بل هي سياسة لـ”ترقيع” الأجور
تعقد لجنة المؤشر اليوم اجتماعاً هو الثالث لها. في الاجتماعين السابقين، لم يجر أي نقاش في غلاء المعيشة أو في سياسة الأجور كما ينصّ مرسوم تشكيل اللجنة، بل “بازار” مفتوح من قوى السلطة وأذنابها النقابية للتآمر على حقوق العمال. افتتح البازار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يوم قرّر استقبال رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، يرافقه رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر. الأخيران اتفقا، في اجتماع موسّع عقد في مقرّ الاتحاد العمالي العام، على زيادة الأجور، وقرّرا أن “يزفّا” خبر اتفاقهما إلى رئيس الحكومة ليصبح القطاف السياسي جماعياً. وتضمّن الاتفاق زيادة مقطوعة للأجور ضمن سقف 4 ملايين ليرة لا تدخل في الراتب الذي يحتسب على أساسه تعويض نهاية الخدمة للعمال.
بعدها، دعيت لجنة المؤشّر لتكريس هذا الاتفاق. عملياً، حمل ممثلو أصحاب العمل والعمال إلى اللجنة بازارهم المفتوح على المنظومة السياسية برعاية ميقاتي. “البازار” كان عبارة عن “شَلْف” أرقام في الهواء بلا أي أساس علمي أو تقني. طلب الأسمر أن تكون الزيادة مليوني ليرة، فردّ شقير بأن الزيادة يجب أن تكون مليون ليرة. بعد مفاصلة، كما في أي سوق، اتفق الطرفان على أن تكون الزيادة مليوناً و325 ألف ليرة. إلا أنهما اختلفا على سقف الزيادة. شقير يريدها أن تكون محصورة بالحدّ الأدنى للأجور، فيما أرادها الأسمر أن تصل إلى شطر الـ4 ملايين ليرة. هنا، وقع خلاف يكاد يكون أقرب إلى “السيرك”؛ الطرفان نكثا بما التزما به أمام ميقاتي، على رغم أنهما اتفقا على مخالفة القانون.
في الواقع، النقاش المتّصل باتفاق الأطراف وأهدافها لا يلغي أصل فكرة وجود لجنة المؤشّر. فبحسب المرسوم 4206 الذي أنشأ اللجنة، تُحصر مهامها في درس تطوّر الأسعار وأسباب ارتفاعها، ودرس غلاء المعيشة وإعداد مؤشّر دوري لتقلبات الأسعار، ثم درس سياسة الأجور وتقديم مقترحات لمكافحة الغلاء والحدّ من الأسعار. بهذه المهام المحصورة، يصبح واضحاً أن المسألة الأولى التي يجب أن تُدرس في اللجنة هي نسب تضخّم الأسعار وغلاء المعيشة. تثبيت الأرقام أمر أساسي يسبق السياسات والمقترحات، وحتى المفاوضات المتعلّقة بالأجور وبقدرات كل طرف على التحمّل والمهل وسواها.
خلافاً لهذه المهام، كانت الجلسة الأولى عبارة عن مهزلة. فعندما حاول الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين تجاوز “البازار” لتحرير اللجنة من عملية الخطف التي مارسها شقير والأسمر، مُنع من عرض الأرقام الإحصائية عن نسب التضخّم والنقاش فيها. بل أُجبر على الاستماع إلى مفاصلة بهلوانية في التآمر على حقوق العمّال. وعندما تقرّر الفصل بين ما هو مؤقت وسريع وإنقاذي، وما هو دائم ويتطلب فترة زمنية أطول للتوصل إلى اتفاق حوله، عرض شمس الدين الاتفاق على الحقوق أولاً، ثم تقسيم تطبيقها إلى مراحل تتضمن الزيادة المقطوعة السريعة والزيادة الدائمة. لكن الأطراف المعنية الثلاثة (وزير العمل وأصحاب العمل والعمال) رفضت السير في الاقتراح، وفضلت إبقاء النقاش ضمن مسار الفصل بين ما هو سريع، وما هو مستدام.
في الجلسة الثانية للجنة، عُرضت بعض الأرقام، لكن أحداً لم يناقش فيها جديّاً. فالأرقام الواردة من إدارة الإحصاء المركزي، تشير إلى أن تضخّم الأسعار بلغ بين مطلع 2019 وأيلول 2021 نحو 220 في المئة. وهي مستخلصة من عاملين أساسيين:
– حساب المعدل الشهري لأرقام التضخّم ومعدلها الوسطي السنوي. أي يحتسب التضخّم من خلال قياس مؤشّر الأسعار في كل شهر من أشهر السنة مقارنة مع تطوّره في الشهر نفسه من السنة السابقة، ثم يحسب المعدل الوسطي بينهما. وهذه الطريقة تفيد في احتساب معدلات تضخّم الأسعار خلال وقت محدود، وليس على فترة كبيرة كالتي يجب أن تدرسها لجنة المؤشّر. إذ أن هناك طريقة أكثر وضوحاً وأكثر تعبيراً عن الواقع وتختزل ضمناً كل الارتفاعات في الأسعار على مدى كامل الفترة قيد الدرس انطلاقاً من مؤشّر الإحصاء المركزي الذي سجّل في كانون الثاني 2019 ما مجموعه 107.23 نقاط، فيما سجّل في نهاية أيلول 2021 ما مجموعه 613.96 نقاط. الفرق بينهما هو الزيادة في الأسعار خلال الفترة، ونسبتها 472.5 في المئة.
– العامل الثاني لاحتساب تضخّم الأسعار في الإحصاء المركزي، يتعلق بأوزان بنود الاستهلاك في ميزانيات الأسر. هذه الميزانيات بعد أزمة هائلة، تغيّرت كثيراً ولم تعد تعبّر عن الواقع. فالميزانية التي على أساسها يصدر الرقم القياسي للأسعار، تشير إلى أن الأسر تستهلك 20.6 في المئة من ميزانياتها على الغذاء والمشروبات غير الروحية، و28.5 في المئة على بنود السكن والكهرباء والماء والغاز والتدفئة وسواها، و7.8 في المئة على الصحّة، و13.1 في المئة على النقل، و5.9 في المئة على التعليم… هل يصدّق أحدٌ أن هذه الأوزان تعبّر عن واقع اليوم؟ النقل وحده صار يكلّف الأسر نسبة مهمّة من مداخيلها، والغذاء صار يفوق نصف ميزانياتها… تعديل ميزانية الأسر وأوزان بنود الاستهلاك فيها ضروري لإظهار تضخّم الأسعار بشكل عادل وغير ظالم للأسر.
في هذين البندين يكمن نقاش واسع يفترض أن تقوم به لجنة المؤشّر بعيداً من بهلوانيات الأسمر وشقير (حلّ محلّه في الجلسة الثانية التاجر والمصرفي نقولا شماس المعروف بـ”أبو رخوصة”). النقاش هنا لا يتعلق بالأفكار التي يمكن تقديمها انطلاقاً من المادة السادسة الواردة في القانون رقم 36/76 التي تنصّ على الآتي: “للحكومة أن تحدّد بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، عند الاقتضاء وكلما دعت الحاجة، الحدّ الأدنى الرسمي للأجور ونسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها بناء على الدراسات وجداول تقلبات أسعار كلفة المعيشة…”. فعلى اللجنة أن تقوم بواجباتها في درس غلاء المعيشة وأسبابه، ثم تقترح سياسة للأجور يمكن مجلس الوزراء الأخذ بها أو إهمالها أو تعديلها. وانتقال النقاش من المستوى التقني إلى المستوى السياسي لا يجب أن يلغي الوقائع العلمية التي تعكس حقيقة ما يصيب المجتمع اليوم. والتآمر على حقوق العمّال لا يجب أن يكرّس في لجنة علمية كهذه.
ليس بهذه الخلفية القانونية والعلمية وحدها، يصبح اتفاق ممثلي أصحاب العمال والعمال في ما بينهم وأمام ميقاتي باطلاً فحسب. بل هو باطل لأن تصحيح الأجور عبارة عن معركة بين قوى اجتماعية غير متكافئة. فالتجار والمصرفيون ومن لفّ لفيفهم، يعبّرون عن الوجه الفعلي للسلطة التي يمثّلها ميقاتي وزملاؤه في عين التينة وشارع الحمرا (مصرف لبنان) وقصر بعبدا، وسائر قصور زعماء الطوائف، بينما العمّال لا صوت فعلياً لهم في هذه المعركة، لأن الأسمر وأشباهه هم أيضاً أحد أوجه سلطة القصور هذه. العمّال مسلوبو الإرادة لأن مصلحتهم لا تتحقق عبر هؤلاء جميعاً. وفي معركة 2012 لزيادة الأجور، هناك نصّ معبّر فعلاً عن عملية الاستلاب هذه. ففي 17/11/2011، وجّه “السلف الصالح” للأسمر، غسان غصن، والأمين العام للاتحاد سعد الدين حميدي صقر، كتاباً إلى وزير العمل شربل نحاس يعترضون فيه على “الأجر الاجتماعي”، ويعدونه تجاوزاً من الوزير، على رغم إقرارهم بأن الأجر الاجتماعي هو مجموعة حقوق تتناول التعليم والصحة والنقل والسكن والرعاية الاجتماعية… يومها اعتبروا أن هذه الحقوق غير ضرورية ولا أولوية لها على تصحيح الأجور النقدي.
هؤلاء، وهم من يدّعون تمثيل العمال، ورعاتهم السياسيون، منعوا مشروع التغطية الصحية الشاملة عن كل المواطنين بذريعة الأجر النقدي. فعلى ماذا يفاوضون اليوم؟ على زيادة مقطوعة لا تحتسب في تعويض نهاية الخدمة! القصّة لا تتعلق بزيادة الأجر النقدي. غالبية المؤسسات صحّحت أوضاعها وتأقلمت مع تطوّرات الأزمة النقدية والاقتصادية من خلال تحويل أعمالها إلى “الكاش” والتسديد النقدي عند التسليم، والبيع بسعر صرف كان 3900 ليرة، ثم تطوّر ليصبح أعلى من سعر صرف السوق الحرّة. بهذا المعنى، أصحاب الرساميل حافظوا على قيمة رساميلهم وأصولهم وأرباحهم أيضاً، بينما ممثلوهم في لجنة المؤشّر وجّهوا رسالة إلى وزير العمل يطلبون فيها اقتراح قانون لإعفائهم من تضمين الزيادات على الأجور، سواء المقطوعة أو النظامية، من احتسابها في تعويضات نهاية الخدمة. ويقدّمون مثالاً عن هذا الأمر على الشكل الآتي:
– من كان يتقاضى تعويضاً بقيمة 48 مليون ليرة سيصبح تعويضه 170 مليون ليرة، وهذا أمر مرفوض.
يريد أصحاب العمل وشركاؤهم في السلطة، قضم تعويضات نهاية خدمة العمال المستحقة. لا يكفي أن العمال دفعوا ثمن التضخّم الذي أفلته حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نيابة عن السلطة وباسمها حتى تضخّمت الأسعار 472 في المئة، ولا يكفي انهيار القطاع الاستشفائي والتعليمي وهجرة أكثر من مليون مواطن، ولا يكفي ارتفاع كلفة النقل مرات عدة، ولا يكفي انقطاع الأدوية… بل يريدون أن يقتصّوا من مستقبل العمّال أيضاً. هؤلاء دفعوا ثمن الانهيار وإدارته، وسيدفعون أيضاً ثمن التصحيح الاقتصادي الأشمل عندما تبدأ العلاقة بين صندوق النقد الدولي والسلطة. إنه ثمن باهظ يدفعه طرف واحد بعنوان: سياسة ترقيع الأجور.
موازين لجنة المؤشر لمصلحة من تميل؟
يرأس وزير العمل مصطفى بيرم لجنة المؤشّر، وتضم ممثلين عن هيئات أصحاب العمل والاتحاد العمالي العام، خبيراً متخصّصاً وممثلين اثنين عن الجامعة اللبنانية وممثلاً عن إدارة الإحصاء المركزي، وأي خبراء آخرين يرى وزير العمل أن وجودهم مفيد للجنة ونقاشاتها ضمن المهام المرسومة لها قانوناً. في اللجنة الحالية، الصوت الغالب هو صوت أصحاب العمل. رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد شقير حضر في الاجتماع الأول لكنه سرعان ما تخلّى عن مقعده لرئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس. في مقابلهما يجلس رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر ونائبه حسن فقيه، وهما لا يعلمان شيئاً عن غلاء المعيشة وسياسة الأجور بمقدار ما يدافعان عن مصالح سياسية تتقاطع مع مصالح شقير وشماس. أما بقية الموجودين فغالبيتهم لزوم ما لا يلزم. الخبراء لا لزوم لهم طالما النقاش التقني غائب لمصلحة المفاصلة السوقية، بينما وجود أساتذة الجامعة مرتبط بضرورة اكتمال وجود الطوائف في اللجنة. بمعنى أوضح، موازين القوى في اللجنة تميل لمصلحة قوى السلطة وحلفائها، فلم هم خائفون من عرض أرقام غلاء المعيشة وتثبيتها في محضر اللجنة؟
موقف الصناعيين سطحي – سياسي
البيان الصادر أخيراً عن جمعية الصناعيين يشير إلى أن عدد المنتسبين إلى الضمان الاجتماعي تناقص من 1.3 مليون إلى 800 ألف. هذا الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الجمعية يدلّ على حجم السطحية الذي تتعامل به مع قضية تصحيح الأجور المحقّة. فالمنتسبون إلى الضمان عددهم تناقص من 524 ألف مضمون في 2018 إلى 465 ألفاً في منتصف 2021، لكن على عاتق هؤلاء زوجات وأولاد بمعدل نحو 4 تقريباً لكل مضمون، بالتالي فإن عدد المستفيدين كان يصل إلى 1.3 مليون، وليس عدد المضمونين. انطلاقاً من هنا يمكن القول إن موقف جمعية الصناعيين الرافض لزيادة الأجور بحجّة أن دول الخليج أوقفت استقبال صادرات لبنان إليها، موقف سياسي كلاسيكي من موقع الجمعية داخل نموذج الاقتصاد السياسي للبنان، والذي يحاول محاباة دول الخليج بدلاً من التعامل معها من موقع المصالح المشتركة.