بين استقدام الوقود والإستقواء بالجنود
في العام ١٩٨٢ اجتاح الجنود الصهاينة لبنان واحتلوا العاصمة بيروت وأشرفوا على انتخاب مجلس النواب رئيساً للجمهورية اللبنانية، والصور تبين بوضوح مشاركة قائد ” القوات اللبنانية ” بشير الجميل إلى جانب وزير الحرب الصهيوني أرييل شارون في غرفة العمليات العسكرية المشتركة والإشراف على مراحل تقدم الجيش الصهيوني الغازي داخل الأراضي اللبنانية، كل هذا حدث والدولة اللبنانية غائبة كلياً، بل كان الترحيب بالمحتل في ثكنة مرجعيون واستضافته بأكواب الشاي والحلوى.
ولما كمل الإجتياح وتم تنصيب رئيس للجمهورية في حمى الدبابة الصهيونية تقرر رسمياً انضمام لبنان إلى قائمة المتحالفين مع ” إسرائيل “، ولما تم اغتيال بشير الجميل وحلّ مكانه أخوه أمين فإنه سار على الدرب وأكمل المهمة وكان اتفاق ١٧ أيار المشؤوم؛ هذا ولم يقل أحد من الحريصين على السيادة اللبنانية شيئاً ولم يتفوّه بكلمة، بل إن رصاص الجيش اللبناني يومذاك مزق صدور جمع من العلماء والمؤمنين المجتمعين في مسجد الإمام الرضا عليه السلام في بئر العبد لإعلان مجرد إعتراض، وسقط شهيد اسمه محمد نجده، وأصيب عدد من الناس رجالاً ونساءً، وتمّ اعتقال العشرات من الشباب وسيقوا إلى معتقل وزارة الدفاع في ” اليرزه “، ومنهم نائب أمين حزب الله الحالي الشيخ نعيم قاسم والذي لم يكن قد دخل السلك العلمائي يومئذ فكان ينادى بالحاج نعيم، ولم يُسمح بإقامة مراسم تشييع لجثمان الشهيد بل أُخذ ليلاً وبالخفاء إلى الجنوب المحتل ليُدفن هناك وعلى وجه السرعة، بل حاول البعض من المتحالفين الشيعة مع السلطة تشويه القضية والقول بأن محمد نجده ذهب إلى مسجد الإمام الرضا عليه السلام من دون قصد المشاركة في الإعتصام وأن قتله جاء عن طريق الخطأ.
كل هذا وحماة استقلال لبنان والحريصون على الديمقراطية فيه لم يُصدروا بيانات التنديد بالإحتلال، بل إن بعضهم استقبل المجرم شارون في منزله بكل ترحاب، ولم يُنكر بعد ذلك أمين الجميل التحالف مع الصهاينة بل أقرّ بكل صراحة بالدعم الصهيوني الكامل والشامل للكتائب والقوات تسليحاً وتمويناً وتمويلاً.
إننا نورد هذه الحقيقة التاريخية التي يتذكرها جيلنا الحالي والموثقة بالصوت والصورة، ولا نريد التطرق إلى الإستنجاد الشمعوني بالقوات الأمريكية عام ١٩٥٨، والإستقواء بالمارينز للبقاء في السلطة رغماً عن إرادة اللبنانيين، ولا نريد كذلك التطرق إلى مطالبة ” الجبهة اللبنانية ” بدخول القوات السورية عام ١٩٧٦ للإستقواء بها على اللبنانيين المتحالفين مع الفلسطينيين، ولم نسمع من جهابذة السياسة المسيحيين يومئذٍ غير الثناء على الخطوة السورية والحضّ التعاون الكامل مع تلك القوات واحتضانها.
أما قدوم عناصر من الحرس الثوري لمعاونة اللبنانيين ومساندتهم في مواجهة الصهاينة الغزاة عقب الإجتياح فإنه عُدّ في ذلك اليوم خرقاً للسيادة اللبنانية ومنافياً لإستقلال البلد، وتقديم بعض المساعدات من قبل مؤسسات إيرانية للفقراء في ذلك الوقت لم يكن يستحق التقدير بل صدرت بيانات إدانة، وقد صار تأمين مؤسسة جهاد البناء مياه الشفة للمواطنين في المناطق الفقيرة موضع استنكار الذين ساهموا في الإجتياح الصهيوني سواء في تحضير الأجواء له أو التصفيق لقوات الإحتلال أثناء غزوهم للأراضي اللبنانية.
ومع الأسف الشديد فإننا نرى اليوم رأس الكنيسة المارونية يقيم قداساً على روح بشير الجميل هذا، ويكيل له الثناء، ويصفه بأنه ” منقذ وطني شامل “، ويجعله ” مثلاً ومثالاً لكل من يرغب في الحكم أكان رئيساً أم سلطة تشريعية أم حكومة “، ويفول أن ” بشير كان يملك القدرة على قلب المعادلات لا الخضوع لها “، وأنه ” هو المثل والمثال في مقاومته التي هدفها حماية لبنان من كلّ إعتداء وتحريره من كلّ ولاء لبلدٍ آخر، وتحرير قراره “، لكنه في نفس الكلمة يعلن معارضته الشديدة لوصول الوقود من الجمهورية الإسلامية في إيران، ويرى في ذلك ” انتهاكاً للحدود اللبنانية ” و ” دوساً لهيبة الدولة وإلغاءً لوجودها في وضح النهار “.
وبالأمس القريب شاهدنا تكرار المعزوفة القديمة، حيث انتهكت الطائرة العسكرية الأمريكية سيادة لبنان وهبطت في ” عوكر ” وأخذت عميلاً صهيونياً إلى خارج لبنان، ولم يدِن الأمر أيٌ من الحريصين على السيادة اللبنانية، ولم يرَ غبطة البطريرك في ذلك دوساً لهيبة الدولة وإلغاءً لوجودها في وضح النهار، ولم يتدخل الجيش اللبناني لاعتراض الطائرة ومنعها من خرق الأجواء اللبنانية والحؤول دون تهريب أحد أكبر المجرمين على متنها، بل إن الجميع سكتوا سكوت أصحاب القبور، ورفع العميل المجرم عامر فاخوري شاره النصر وهو داخل السفارة الأمريكية وذلك في تحدٍّ صريح للدولة اللبنانية، واستخفاف واضح بسيادة السلطة، لكن القضية مرّت مرور الكرام وطُوي الملف وكأن شيئاً لم يكن.
أما أن تُعطى للشعب اللبناني الغارق حتى رأسه في الأزمات نفحة أمل ويتم إنقاذ المرضى في المستشفيات والمسنّين في دور العجزة، وتُضيء مشاعل الأفران في المناطق، وتعود المولّدات في مختلف الأحياء إلى تغذية البيوت بالنور، وتتنعم الأسر والعائلات في كافة المناطق على اختلاف طوائفها وتوجهاتها بالضياء فهذا هو التحدي للدولة الغائبة كلياً وانتهاك للسيادة المفقودة أصلاً، وموضع إدانة من الذين سيستفيدون قبل غيرهم من آثار الأزمات الخانقة، فتمتلئ خزانات سياراتهم بسهولة وسرعة ولا يضطرون للوقوف ساعات في صفوف الذل أمام محطات الوقود، وتستأنف الأفران في مناطق سيطرتهم نشاطها وتقدم الخبر لهم ليأكلوا هم ويُطعموا أسرهم وعائلاتهم، وتعود المولدات للكهرباء عندهم لتغذية المواطنين دون تمييز، لكن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فهم لا يرون الخير إلاّ في الفتات الذي يُلقيه الأمريكيون، ولا يهنأون إلاّ بالخبز الذي يُرسله إليهم الإسرائيليون، ولا يحسون بالدفئ إلاّ من خلال المازوت الذي يقدمه إليهم الصهاينة المجرمون.
وبالخلاصة فهناك في لبنان طبقة تفضل الإنبطاح ذليلة أمام المحتل للأرض اللبنانية ومرتكب أبشع أنواع الإجرام بحق الشعب اللبناني، ويأبون الصداقة مع إيران التي وبعد أيام قليلة من إنتصار ثورتها، وفي خضم الأزمات العديده التي كانت تواجهها، فإنها أبدت إهتماماً خاصاً بلبنان، وبادرت إلى تقديم المساعدة للبنان بأشكال مختلفة، فبعد تخصيص مجلس قيادة الثورة الإسلامية مبلغ ٢٬٥٠٠٬٠٠٠ دولار كخطوة أولى جاء دور صندوق القرض الحسن، ولجنة إمداد الإمام الخميني، ومؤسسة الشهيد، وجهاد البناء، ومؤسسات أخرى للتخفيف من آلام الشعب اللبناني، ورفع الغبن اللاحق بالكثيرين من المواطنين، وإعطاء جرعات من الأمل للمحرومين من اهتمام وعناية دولتهم، والذين يدفعهم الفقر والعوز إلى البحث عن الهجرة إلى أبعد مكان في الكرة الأرضية طلباً لعيش رغيد وحياة كريمة.
ومَثَل هؤلاء الرافضين للعيش بالعزة والكرامة، والراضين بحياة الذل، والمنبطحين أمام المستعمرين، كمثل بني إسرائيل في عهد موسى الكليم عليه السلام الذين أكرمهم الله بأنواع النعم، وأهلك فرعون وجنوده أمام أعينهم، وأورثهم حليّ وزينة مستعبِديهم طوال قرون، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، لكنهم وبعد الخلاص من الأسر والتحرر من سلطة من قال: ( أنا ربكم الأعلى )، طلبوا من نبيّهم قائلين: ( إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة )، وعادوا نحو الحنين إلى الخضوع للأصنام، وأخيراً فضّلوا عبادة العجل الذي صنعه السامري بيديه على عبادة الله رب العالمين الذي أنجاهم ( من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب يُذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم )، وكانت النتيجة أن ( باؤوا بغضب من الله )، وتاهوا في الصحراء أربعين سنة، و ( ضُربت عليهم الذلّة والمسكنة )، وتكون عاقبة أمرهم أن تسوء وجوه الصهاينة المجرمين وتنتهي سطوتهم، ويقضي المجاهدون المتوكلون على الله والناصرون لدين الله على كيانهم الغاصب، ويدخلون ( المسجد كما دخلوه أول مرة )، ويتحقق بعد ذلك وعد الله سبحانه: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يَرثُها عبادي الصالحون ) صدق الله العلي العظيم.