طبيب يداوي الناس وهو عليل
جاء في الأخبار أنه وفق تقرير لوازرة الخزانة في الولايات المتحدة فقد بلغ عجز الميزانية الأمريكية في الأشهر الـ ١١ الماضية ٢٬٧ تريليون دولار، وأن ذلك العجز سيرتفع إلى ٣ تريليون دولار حتى نهاية العام الحالي
إن الكثير من شعوب العالم ودوله يعتقدون أن الولايات المتحدة هي الأحسن حالاً في الإقتصاد، والأكثر رغداً في العيش، والأفضل أمناً من كافة بقاع العالم، والأدقّ بين حكومات الأرض في رعاية حقوق الإنسان.
لكن المواجهات العنصرية التي عمت كافة المدن الأمريكية وروح كراهية البيض لمواطنيهم من ذوي البشرة السوداء بانت في أوضح صورها طوال أشهر في العام الماضي، وهذه الظاهرة لم تكن من فعل شراذم معدودين، بل كان يشجع على ذلك ويؤمّن التغطية لها رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب.
وهذا ما يعطي المثال على مدى الإهتمام بحقوق الإنسان في داخل الولايات المتحده، فكيف يمكن أن نصدّق دعواها بالإهتمام بحقوق الإنسان في باقي بلاد العالم ؟!.
أما حالة الأمن، فيكفي الإستماع إلى نشرات الأخبار اليومية لنعلم كم عدد القتلى والمصابين كل ٢٤ ساعة في المدن الأمريكية نتيجة إطلاق النار في محتلف الأماكن من مدارس إلى جامعات إلى مراكز التسوق إلى الملاهي وغيرها.
أما رغد العيش، فالتقارير تؤكد على أن نسبة الضرائب على الأمريكيين في ازدياد، وأن معدل البطالة يرتفع يوماً بعد يوم، والأزمة المعيشية في ظل تفشي فيروس كورونا تلقي بثقلها على كاهل ذوي الدخل المحدود في بلد النظام الرأسمالي الذي يهم أصحاب العمل فيه كسب مزيد من الأرباح ولا يعنيهم أبداً مصلحة العمال، وكيف سيكون حالهم بعد تعثر دورة الإنتاج وتوقف المصانع والمعامل عن العمل لفترة ما دفع بأصحابها إلى صرف مئات الألوف من العمال وقطع رواتبهم.
إن وسائل الأعلام الأمريكية تبذل جهوداً كبيرة لتلميع صورة الولايات المتحدة والتستر على الأوضاع المتردية في الحقول المختلفة، فهي تنشر أخبار المواجهات العنصرية بصورة مختصرة لا تثير انتباه عامة الناس، ولولا الأجواء الإنتخابية والمنافسات والمناكفات لما شاهد العالم النزعة العنصرية المتفشية في المجتمع الأمريكي، كما أن الحملة الإنتخابية الماضية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب والإتهامات المتبادلة بينهما فضحت الدور الأمريكي في تأسيس طالبان والقاعدة والمجموعات التكفيرية الأخرى في أفغانستان والعراق وسوريا بالأسماء المختلفة وحيث تدعو الحاجة.
واليوم لا ندري لعل الولايات المتحدة تركت العدد الكبير من الطوافات والطائرات الحربية والكميات الضخمة من السلاح المتطور والعتاد في أفغانستان وذلك لكي تستخدمها جماعة طالبان في مهام توكلها إليها المخابرات المركزية الأمريكية في الأيام المقبلة ؟.
إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني من مختلف المشاكل توحي إلى عملائها وأبواقها الإعلامية أن يصوروا أمام البسطاء من الرأي العام العالمي بأن تلك المشاكل لا تساوي شيئاً أمام التقدم العلمي الأمريكي، والقوة القاهرة الأمريكية، والإقتصاد القوي الأمريكي، والحضارة المتقدمة الأمريكية، والسياسة الناجحة الأمريكية، وهؤلاء المرتزقة يخوفون الدول من قدرة أمريكا على فرض الحصار وإقرار عقوبات وإسقاط حكومات وإبدالها بحكومات، والغاية المطلوبة هي الخنوع من دون تردد، والإستسلام من غير مقاومة، والقبول بالذل والعبودية لمن يقول: ( ما علمت لكم من إله غيري )، والذي يهدد بالقول: ( لئن اتخذت إلهاً عيري لأجعلنك من المسجونين )، والذي يتوعد الخارجين عن طاعته والمؤمنين بربٍ غيره بالقول: ( آمنتم به قبل أن آذن لكم … لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلّبنكم في جذوع النخل ولتعلمُنّ أيّنا أشد عذاباً وأبقى ).
لكن الذين صبروا على البلاء، واتبعوا نهج رسول السماء، واستقاموا على الطريقه الحقة، استطاعوا النجاة من ريق العبودية، وأزال الله سبحانه من أمامهم أهم العوائق، بل إن الذي ظل يقول متبختراً: ( أنا ربكم الأعلى ) قد غرق هو وجنوده أجمعون، وورث المستعبَدون بالأمس الزينة والحلي للطاغية فرعون وحاشيته وجنوده المرافقين له وتنعموا بها، بل تكفل الله لهم برزقهم بأن أنزل عليهم المنّ والسلوى.
إننا أمام أربع وقائع لها دلالات مهمة يجب التعمق فيها:
١ـ الخروج الأمريكي من أفغانستان وسيطرة جماعة طالبان على البلاد باسم الإسلام، لكن ما شرعت فيه هذه الجماعة ليس له علاقة بالإسلام المحمدي لا من قريب ولا من بعيد، والأيام القادمة تكشف المزيد من الحقائق للرأي العام الإسلامي والعالمي.
٢ـ الخروج المعجزة للاسرى الـ ٦ من سجن ” جلبوع ” الصهيوني، والذي يّعدّ من أهم السجون لدى الكيان الغاصب وأكثرها تحصيناً، والذي تسبب في تضعضع موقعية هذه الدولة التي تريد تصوير نفسها بأنها الرائدة في الإجراءات الأمنية والقادرة على اعتقال وأسر من تريد وزجهم في المعتقلات غيو مبالية بالرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان، وغير مهتمة بالدعوات لفك الأسر عن أصحاب الأرض الذين يقاومون المحتلين الذين يريدون طردهم بالقوة من أرضهم وديارهم والحلول مكانهم، لكن الإرادة الفلسطينية لم تنتظر الضغوط الدولية الكاذبة والقرارات الأممية الفارغة، بل حفر الاسرى الأبطال بملعقة الطعام نفقاً، وشقوا طريقهم نحو الحرية، ووجهوا أقوى صفعة للمؤسسات الأمنية والعسكرية الصهيونية، والضربة الأقوى من صفعة حفر النفق والهروب منه هو عجز كل الكلاب البولسية المدربة وألوية الجيش وقوات حرس الحدود وجهاز الشاباك من العثور على الأسرى المحررين حتى اليوم.
٣ـ موضوع المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامي في إيران، حيث تتوسل الدول العظمى إيران كي تستأنف الإجتماعات في العاصمة النمساوية فيننا، فمرة يتصل رئيس جمهورية فرنسا بالرئيس الإيراني، ومرة تحض المستشارة الألمانية الإيرانيين على الإسراع في تحديد موعد لمشاركتهم في المفاوضات النووية، وأخيراً رأينا ممثل الرئيس الأمريكي في المفاوضات النووية يطير إلى العاصمة الروسية، لعل الرئيس بوتين يُقنع السلطات الإيرانية ليوافقوا على الحضور إلى طاولة المفاوضات، والإيرانيون على عادتهم في طول البال يحوكون السجادة قطبة قطبة دون ملل، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني الراحل لا يمكن لأحد أن يفرض أجندته عليهم، ولا تخيفهم التهديدات الأمريكية الفارغة والتصريحات البهلوانية، بعد أن فوتوا هم على أنفسهم الفرصة طوال مدة رئاسة الشيخ روحاني، وتلكؤوا وترددوا ولم يبادروا إلى إلغاء العقوبات الظالمة التي فرضها الرئيس المعتوه ترامب، واليوم لا يعرف الأمريكيون متى سيقرر الإيرانيون بدأ المفاوضات، وكيف يمكنهم استئناف تلك المفاوضات، ومع أي فريق إيراني سيجرون المفاوضات، وبأية لغة ستبدأ المفاوضات، ومن أية نقطة ستكون المفاوضات، وهل سيستأنف المفاوضون من حيث انتهى أسلافهم، أو أنهم سيعترضون على بعض ما قبل به السابقون وهم سيطالبون بإعادة النظر فيه وتعديله ؟.
٤ّـ التراجع الأمريكي أمام الجمهورية الإسلامية في لبنان، فبعد أن فرضت الولايات المتحدة العقوبات على لبنان، وسحبت الدول العربية عقب ذلك أيديها من لبنان، وأعانهما على ذلك العملاء المندسون في الداخل من خلال تهريب الأموال إلى الخارج، والتلاعب بسعر العملة الوطنية، وخلق أزمات معيشية خانقة، وذلك لأجل أن يرفع اللبنانيون أيديهم مستسلمين وينضموا إلى ركب المطبّعين العرب مع العدو الصهيوني، لكن دخول الجمهورية الإسلامية على الخط وإرسالها سفناً تحمل البنزين والمازوت إلى لبنان أجبر الولايات المتحده على المسارعة إلى تغيير سياستها، ورفع الحظر عن التواصل الحكومي الرسمي بين لبنان وسوريا، وتعليق قانون ” قيصر ” لمعاقبة الدولة السورية القائمة، ودفع الأردن ومصر على المسارعة في تأمين الكهرباء للبنان واستجراره عبر الشبكة السورية، وكذلك مدّ لبنان بالنفط العراقي على وجه السرعة، كل ذلك قبل أن تصل السفينة الإيرانية، لأن مجرد وصول الوقود الإيراني بعد معاناة اللبنانيين نتيجة انقطاع البنزين والشحّ الشديد للمازوت سيكون السهم القاتل إلى صدر الإدارة الأمريكية، ولذلك رأينا جميعاً كيف تسابق أبواق أمريكا للتهجم يومياً على المبادرة الإيرانية، والسكوت على التواصل الرسمي مع الحكومة السورية والتطبيل للمساعدة الخجولة التي قدمتها أمريكا للجيش اللبناني، كل ذلك لتبييض وجوههم امام سيدهم الأمريكي.
إن أحد أسباب المسارعة في فكفكة العقد المستعصية منذ أكثر من عام خلال الأيام القليلة الماضية والتعجيل بتأليف الحكومة اللبنانية وتخلي رئيس الجمهورية عن الثلث المعطل لهو من أجل خلق جهة حكومية رسمية ترسم سياسة رسمية لبنانية تعرقل خطوات حزب الله التي كان يخطوها في فترة حكومة حسان دياب القائمة والمستقيلة، على أساس أنها حكومة كانت ضعيفة ورئيسها فاقد للغطاء السني، والحكومة كانت متهمة بأنها دمية لدى رئيس الجمهورية، ووزراؤها هم من الشخصيات الضعيفة، لكن نجيب ميقاتي له من الطائفة السنية الغطاء اللازم سياسياً وطائفياً، وهو من أصحاب المليارات من الدولارات والشركات الكبرى، وله مصالح عديدة في الدول العربية، وعلاقات وطيدة يحرص عليها مع القوى العالمية، وبالنتيجة فهو سيعمل على الحد من تحركات حزب الله ويمنع كثيراً من تصرفاته بناء على خصوصية نجيب ميقاتي الذاتية وحفاظاً على مصالحه الشخصية.
لكن الحقيقة أن الرهان اللبناني على ” روشتة ” الولايات المتحدة لمعالجة الأوضاع المتردية والآزمات الخانقة، والتي هي اليوم تقع تحت وطأة العجز الكبير في ميزانيها، وتعاني من التفكك المجتمعي نتيجة تفشي الروح العنصرية لدى ذوي العرق الأبيض تجاه مواطنيهم من ذوي البشرة السوداء، والتي تواجه الهجمات بالسلاح في أنحاء البلاد ووقوع مئات القتلى والجرحى جرّاءها، إضافة إلى علاقاتها الوثيقة والإستراتيجية مع أنظمة وحكام لا يحترمون أبداً أولى مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت تعادي الدول الخارجة عن طاعتها والتي تجري فيها الإنتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية بصورة ديمقراطية، وهي تقف مع حق الشعوب المستضعفة في تقرير مصيرها وترفض التدخل الخارجي في شؤونها.
إن الأمل بأن يكون شفاء الأمراض والأزمات في لبنان هو باستعمال توصيات الخارجية الأمريكية ومراعاة خاطر السفيرة الأمريكية في بيروت لهو أمل بالسراب لأنه ينطبق عليه المثل القديم ” طبيب يداوي الناس وهو عليل، والله سبحانه يقول: ( إن الذين تدعون من الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي