رسالة نفق ” جلبوع ”
الكيان الصهيوني منذ تأسيسه ركز جهوده على إثبات تفوقه على غيره في مختلف المجالات، وروّج عبر أبواقه أنه قادر على التغلب على خصومه في مجالات التجسس والأمن والخطط العسكرية والصناعة والتكنولوجيا وغيرها، وأنها لا تستثني حتى الولايات المتحدة الأمريكية من التغلغل في أجهزتها واستخدام الجواسيس الأمريكيين للحصول على المعلومات المهمة وتسريب الخطط العسكرية الأمريكية إليها، والمثال على ذلك هو جوناثان بولارد الذي تمُ اعتقاله عام ١٩٨٥ بتهمة التجسس لصالح الكيان الصهيوني وأُطلق سراحه أواخر العام الماضي بإذن خاص من دونالد ترامب، والقائمة طويلة للجواسيس الصهاينة في أجهزة مختلف الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية والذين تمّ الكشف عن بعضهم ولا يزال الكثيرون منهم طي الكتمان.
إن الإعلام الصهيوني قد استطاع أن يؤكد تفوق الكيان هذا حتى اقتنع العرب أن جيشه لن يُقهر أبداً، وأن مخابراته موجودة في كل مكان في العالم، وأن أجهزة الأمن الصهيونية هي الأقدر على حماية الأنظمة والعروش ومجابهة التهديدات لحكام الدول، وأن الكيان الغاصب هو القادر على فتح قنوات الإتصال مع مختلف الدول وتعبيد الطريق أمام كل من يتعاون معه لتكون له أفضل العلاقات مع دول العالم لما يملك من مفاتيح وما له من نفوذ على كافة قادة العالم من صغيرهم حتى كبيرهم.
ونتيجة لهذه السياسة الإعلامية الصهيونية تخلى كثير من الأنظمة والدول في المتطقة عن كل الثوابت وتجاوز تراكمات التاريخ القديم والحديث، وتنكر للقضية الفلسطينية التي طالما تباهوا بالدفاع عنها والمشاركة في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ضد المحتلين الغزاة بالمال والسلاح والجنود في بعض الأحيان، كل ذلك لأجل أن يبقى الحاكم على كرسيه وعرش الملك يظلّ دون اهتزاز.
لكن هيبة ” الميركافا ” فخر الصناعة العسكرية الصهيونية والتي لا تؤثر فيها الصواريخ المضادة قد سقطت في مواجهة المقاومين في لبنان، والجيش الذي ” لا يُقهر ” انهزم أمام ثلة من المجاهدين الذين أعاروا لله جماجمهم، والوحدة الخاصة الصهيونية إيجوز التابعة للواء جولاني المتخصصة في مواجهة مختلف التهديدات قضى عليها عدد قليل من اللبنانيين لما حاولت التغلغل خلسة إلى لبنان، والجندي الصهيوني المتبختر سابقاً صار يهاب النخبة المؤمنة وأخلى موقعه خوفاً من أن يقع أسيراً بيد الأبطال المجاهدين، وترك مكانه دمية لعل أحداً ينخدع بها، وهذا ما لم يحصل، والتفوق الجوي الذي كان يتحدى به الصهاينة الجيوش العربية مجتمعة قذ صار في خبر كان بعدما أصبح المجال الجوي الصهيوني كله مفتوحاً أمام المسيّرات المنطلقة من لبنان وغزة والجولان متجاوزة ‘ القبة الحديدية ” وأنظمة ” البانريوت ” لتحقق أهدافها في الحصول على الصور والمعلومات الدقيقة وتوجيه صواريخها الذكية إلى المواقع العسكرية الصهيونية، أما في حقل الصواريخ البالستية فالواضح أن كل الكيان الصهيوني وحتى مفاعله النووي هو اليوم تحت مرمى نيران المقاومة في لبنان وفلسطين، وأن مئات آلاف الصواريخ المدمرة والذكية تنتظر الإشارة لتصب حممها على جميع أجزاء الكيان الغاصب.
لقد عمل الصهاينة على تحطيم إرادة الفلسطينيين من خلال فرض أنواع الحصار الخانق عليهم، ومنع وصول أوليات الحاجيات الحياتية إليهم، وحظرهم الصيد في البحر ليحصلوا على ما يتقوتون به، وقطع المياه الصالحة للشرب وأيضاً الكهرباء والغاز الضروريين لتسيير أمورهم الضرورية، وإن أبدى أحد اعتراضاً أو مقاومة تمّ اعتقاله وسجنه لمدد طويلة وتعذيبه بوحشية كي يرضخ لإرادة المحتلين ويتخلى عن اعتراضه ومقاومته.
لقد بنى الكيان الصهيوني السجون العديدة وحصن المعتقلات، وأحاطها بالأسلاك الشائكة والمكهربة والإلكترونية، ووضع أحدث الكاميرات لمراقبة السجناء في كل حركاتهم في زنزاناتهم على مدى ٢٤ ساعة، وفرض أشد الإجراءات الإحترازية، واختار أفضل الحراس من جلاوزته وأكثرهم تدريباً وتسليحاً لحماية تلك السجون والمعتقلات وشحن نفوسهم بالحقد والبغضاء كي لا يتأثروا بتاتاً بالعواطف الإنسانية ولا يرحموا في أي حال السجناء، وخصّ سجن ” جلبوع ” المخصص للسجناء ” الخطرين جداً ” لكن تمكن ٦ من السجناء الفرار من هذا المعتقل الأشد تحصيناً وذلك من خلال حفر نفق بواسطة ملعقة الطعام من دون أن ينكشف أمرهم.
إن الفلسطيني الذي بادر في البداية إلى حفر الأنفاق بين رفح المصرية وقطاع غزة ليأتي ببعض الضروريات الحياتية لأهله وأسرته، ثم طور الأمر فحفر الأنفاق بين قطاع غزة والمناطق المحتلة لتجاوز الأسلاك الشائكة والجدار الفاصل والوصول إلى المستوطنات في أثناء المعارك، وكلتا الحالتين يمكن للفلسطيني فيها أن يأمن طرف النفق الموجود في المناطق الخاضعة لسلطته، لكن أن يقوم فلسطينيون بحفر نفق في سجن محصّن بأحدث أجهزة الرصد والمراقبة وفي عمق الأرض المحتلة من دون أن يشعر بذلك الحراس الذين يتجولون ليلاً نهاراً ويتفحصون الزنازين واحدة واحدة، إضافة إلى كاميرات المراقبة الملونة والحديثة جداً، وأن تكلل خطوتهم بنجاح دون أن يتسرب الخبر بواسطة مدسوسين بين المعتقلين، وأن يتمكنوا من التخلص من الكميات الكبيرة للأتربة التي نتجت عن عملية الحفر من دون أن يحسّ بهم أحد، وأن لا يصطدموا بأية موانع، وأن لا يرتكبوا أية أخطاء، وأن تكون دراستهم للمكان دقيقة جداً ليكون طرف النفق الآخر خارج كل التحصينات والموانع، ثم إن أقل خطأ في الحسابات سيؤدي حتماً إلى انكشاف أمرهم وفشل خطتهم وتشديد الإجراءات الأمنية أكثر من ذي قبل.
لقد كان مجرد التفكير بحفر النفق في معتقل ” جلبوع ” أمراً غريباً جداً، لكنه بعد مشاورات ومداولات صار ذلك موضع اتفاق بين ٦ معتقلين فيهم واحد من حركة فتح التي تختلف جذرياً مع حركة الجهاد الإسلامي التي ينتمي إليها الآخرون، ثم تشاركوا جميعاً في عملية الحفر بملعقة يأكلون بها طعامهم، ومعلوم كم من الوقت يحتاج لنجاح خطتهم هذه، وإنهم بعد إنجاز الحفر تمكنوا من الفرار من النفق مع أمتعتهم وحاجياتهم، ثم نجحوا في تجاوز المتطقة المحيطة بالسجن بأمان، وأن يستقلوا السيارات من غير أن يشك في أمرهم أحد، ولم تعثر حتى هذه اللحظة الكلاب المدربة وفرق التمشيط من العثور على أي أثر لهم.
إن نجاح هذه الخطوة قد طعنت الكيان الصهيوني في الصميم، وهزّ ثقة جمهوره العنصري المتعجرف بالأجهزة الأمنية والعسكرية، فلا يمكنه بعد اليوم التفاخر بقدرته الإستخبارية أمام المستوطنين، ولا يستطيع بعد اليوم أن يثق بنخبة جنوده الذين وضعهم حراساً على أهم معتقلاته، ولا يأمن من أن يقوم سجناء آخرون بخطوات مشابهة متحدين الإجراءات المشددة بعيداً عن أعين الحراس وخارج نطاق كاميرات المراقبة.
إن هذا الإخفاق الصهيوني بل الفضيحة الإستخبارية سيترك أثره لا محالة أيضاً في نفوس المنبهرين بالتقدم الإسرائيلي في منطقتنا، والذين سلموا مفاتيح بلادهم للموساد كي يضمنوا بقاءهم على كراسيهم، واثقين من قدرة المخابرات الصهيونية على إحباط أية مؤامرة للإطاحة بهم أو تهديد لسلامتهم وإلحاق أذى بأصحاب الجلالة والسمو؛ فالذي لم يتمكن من مراقبة أهم سجونه، ولم تفلح قدراته التقنية المتطورة في مراقبة السجن والسجناء لديه، واستطاع المعتقلون الـ ٦ خلال شهور بل سنوات الحفر في طبقات الباطون المسلح لأرضية السجن، والتخلص من الكمية الكبيرة من الأتربة، والوصول إلى خارج المنطقة المحصنة، والخروج من النفق مع أمتعتهم من دون أن يحسّ بهم الحراس في أبراج المراقبة متسلحين بأحدث النواظير الليلية، والسير في المنطقة دون أن يلتفت إليهم أحد، وأن يستقلوا السيارات من غير أن يثيروا الشبهة لدى السائقين والركاب، ويخرجوا من المتطقة قبل أن يتبه الحراس لعملية الفرار، وأن لا يتركوا أي أثر لهم لتتعقبهم الكلاب البوليسية المدربة جيداً والفرقة العسكرية التابعة للواء جولاني التي تمشط المنطقة منذ ثلاثة أيام ومجموعات المستعربين المكلفين باختراق صفوف الفلسطينيين، فهل تتمكن الأجهزة الأمنية الفاشلة هذه من درء الأخطار عن الذين اعتمدوا بالكامل على خبراتها، ووضعوا ثقتهم المطلقة في قدراتها، وأخضعوا مؤسساتهم العسكرية والأمنية كلها لإرادة الصهاينة اعتقاداً منهم أنها تعرف وتتحكم بكل صغيرة وكبيرة في هذا العالم ؟!.
إن هذا الحدث العظيم والخرق الكبير للمؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية يجب أن ينبّه المراهنين على الصهاينة بأن إرادة الشعوب تغلب في آخر المطاف إجراءات الأنظمة مهما تطورت وتوسعت، وأن التحرر مضمون للمقاومين مهما الإجراءات التعسفية اشتدت، وأن الصمود الفلسطيني لا بد أن يُنهي الإحتلال الصهيوني الغاشم، وأن إرادة المجاهدين في الأرض المقدسة ستنتصر من دون شك وستطرد بلا ريب قطعان المستوطنين وتعود البلاد إلى أصحابها الحقيقيين، وأن وعد الله آتٍ حتماً، إذ قال مخاطباً المحتلين: ( فإذا جاء وعد الآخرة ليَسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي