Les actualités les plus importantes et les plus récentes du monde en français

نعم إن العزم وقوة إرادة الحياة تصنع المعجزات

نعم إن العزم وقوة إرادة الحياة تصنع المعجزات..

هي كلمات فيها الكثير من المعاني والعِبر للأجيال القادمة وتحكي عن درب الكفاح الطويل بعد مرور سبع وثلاثين سنة على سفري الأول إلى فرنسا.
فقد شاءت الظروف وأراد القدر أن أسافر إلى فرنسا في الحادي والثّلاثين من شهر آب سنة 1984، وأن يكون ذلك هو السّفر الأوّل في حياتي، والمرّة الأولى الّتي أصعد فيها إلى الطّائرة، ويغيب وطني وأهلي وذكرياتي خلف الغيوم المتبعثرة في الفضاء.
وها أنا اليوم وفي التاريخ ذاته، وبعد مرور سبع وثلاثين سنة من عمري، ومن مكان إقامتي في وسط غرب فرنسا قرب مدينة بوردو الشهيرة، أقف متأمّلًا الشّمس وهي تغوص في سريرِ الغروبِ، وأستعيد تلك الأيّام الحلوة والمرّة في آنٍ معًا، مسترجعًا ذكرى وصولي الأولى إلى تلك البلاد، الّتي لم أكن أتقن لغتها بشكل جيّدٍ حتّى، فقد كنتُ خرّيج المدارس الرّسميّة الّتي انهار مستواها التّعليمي مع الحرب الأهليّة، وكنت من ذلك الجيل الّذي ثقب الصّخر ليصطاد معلوماته معتمدًا على اجتهاده الشّخصيّ، وإرادته وما يملكه من العزم والقوة والشجاعة ليثبت حضوره بين المتفوّقين، فتمكّنت من استغلال الوقت في تحصيل مافاتني في لبنان، لأحجز لنفسي موقعها بين المتفوّقين الفرنسيّين من أبناء جيلي في الدّولة المضيفة، لأنّني وبكل تواضع، كنت من المُتفوقين عند دراستي الثّانويّة، وقد حصلت بسهولة، بسبب تفوّقي في الثّانويّة العامّة القسم الثّاني، على منحة من مؤسسة ” رفيق الحريري” لاستكمال الدّراسة في فرنسا ( أوجيه فرنسا)، ومازلت أتذكّر كيف سكنت في غرفة بحجم “الصّندوق الصّغير” أو “علبة السردين” بلا تدفئة ولا تبريد، حيث تقاسمت ذلك المسكن المتواضع مع مجموعة من العمال الجزائريين، وتشاطرنا آمالنا وآلامنا، وأنا أعاني ما أعانيه من أعباء ومعوّقات حتى تمّ قبول تسجيلي في الجامعة، لأنني وصلت متأخرًا أسبوعًا كاملًا عن بدء العام الدّراسيّ، وهناك عرفتُ الغربة لأوّل مرّة، وجلد البرد لحمي بسوطه القارس، وأنا أكافح ضدّ الصّقيع، تحيط بي أصعب الظّروف الطّبيعية والاجتماعية والمعيشية والنّفسية لشابّ يعرف الغربة لأوّل مرّة، حملته الحياة غضًّا طريَّ العود من قريته الصّغيرة البسيطة إلى حيث الحرية المطلقة إلى حدّ الفلتان، حيث لا رادع ولا موجّه ولا مرشد يقود خطواتي لولا تلك التّربية البيتية الّتي نهلتها عن والديّ، والّتي أسّست في عقلي المكابح الدينية والأخلاقية، وغرست في وجداني القيم والاستقامة التي ما زلت قابضًا على جمرها حتّى اليوم.
ولأنّني كنت أحمل إرادة صلبة نابعة عن شغف والدي بالعلم، وهو شغف الفلاح أو المُزارع البسيط الذي ارتسم على آفاقه المجد على صورة أبنائه وهم يحملون الشّهادات العليا، ويصعدون في الحياة نجومًا تخلّد عمله وتربيته وذرّيّته، من أجل ذلك استسهل والدي أن يقطع من قلبه، ويقدّم لي ولإخوتي كلّ ما يملكه كي ننجح في دراستنا ونحقّق أحلامه المضيئة تلك.
هذا الشّغف انتقل من أبي ليستوطن روحي، فالفرحة الّتي سيقتطفها يوم أزفّ إليه شهاداتي باتت حلمي أنا الآخر، لتتحوّل إلى المُحرّك الأساسي الذي أثار قدراتي الكامنة، وحوّلني إلى كتلة من المثابرة، وبات الكتاب رفيقي ليلًا نهارًا، وأضحى صديقي الأثير في أيّام العطل والأعياد، فجاءت ثمرة جهودي الأولى بحيث حللت في المرتبة الثالثة على ٧٨٠ طالبًا فرنسيًّا وأجنبيًّا في السنة الأولى، الّتي دخلتُها مُعيدًا، فأصررتُ على إعادة الدّراسة لرسوبي وتأخّري لعدّة مقاعد معدودة في تجربتي الأولى، ولأنّ المنافسة كانت ولا تزال شديدة لدخول كليات الطّبّ في فرنسا.
ومازلت أذكر حين دخلْتُ الجامعة وعرفت أنّي حللتُ في المرتبة الثالثة، فلم اُصدّق الخبر، وأُصبت بما يشبه الشلل لبعض دقائق، وكان عمي المرحوم أبو علي حمود يومها معي، وقلت له: تأكّد هل هو اسمي فعلًا في المرتبة الثالثة؟ فأكّد لي ذلك، وعدت إلى سكني وأنا أكاد أطير من شدة الفرح: أجنبيّ لا يُتقن اللغة الفرنسية جيدًا، عانى من ظروف قاهرة في وطنه، وفي غربته، وحلّ في المرتبة الثالثة في واحدة من أصعب كلّيات الطّبّ في فرنسا والعالم! وتذكّرت يومها قول الشاعر التّونسي الشهير أبو القاسم الشابي:
إذا الشّعب يومًا أرادَ الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر..
ومن يتهيّب صعود الجبال يعشْ أبدَ الدّهر بين الحفر
والحمدلله لقد مرّت الأيام والسنون، وها أنا اليوم في أحسن حال، لأنني وطوال سنين عمري، لم ولن أتهيّب صعود الجبال، ولم ولن أقبل بالعيش بين الحفر..
ولعلّ في تجربتي هذه درسًا لأولادنا الذين نُقدّم لهم اليوم كل وسائل الراحة والرفاهية، ومع ذلك يعتبرون السّهر للتّحصيل العلمي عملًا شاقًّا، ويؤثرون الاختصاصات السّهلة، والدّراسات السّريعة.
فالطّبّ في رأيهم اختصاص قاسٍ، وحياة الطّبيب حياة قاسية ومنهكة، دون أن يعرفوا لذّة تقديم راحتك لتنقذ حياة مخلوق، أو تساعد مريضًا، أو ملهوفًا أو محتاجًا.
وهكذا أحكي بعضًا من مشاهد حياتي، لمن يحتاج إلى هذه العبرِ، ولأهمس بها في آذانِ أبنائي من أجيالِ زمن السّرعة والاستسهال والقطوف الدّانية.
فهل تكون حكايتي حافزًا لتغيير بعضٍ مِن خُطط المستقبل، وإختيار أهدافٍ أكثر جدّيّة وملاءمة لإستحقاقات الوطن والحياة؟؟!

د. طلال حمود
طبيب قلب وشرايين ومنسق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود