الكلب الأمريكي والإنسان الأفغاني
لا أريد هنا مناقشة القضية الافغانية مفصّلاً، وكيف أخلى الأمريكيون قواعدهم وسلّموها بكامل العتاد المتطور إلى طالبان، وكيف فرّ الرئيس الأفغاني حامل الجنسية الأمريكية، والمقيم في مدينة نيويورك سابقاً، والمتزوج من لبنانية مسيحية، من العاصمة الأفغانية دون أن يُبدي أدنى مقاومة حاملاً معه مئات ملايين الدولارات قاصداً محل إقامته السابقة، لكنه مُنع من الوصول إليه فاضطر إلى الهبوط في الإمارات العربية طالباً اللجوء، وكثير من الأمور يمكن أن أخصص مقالاً خاصاً لمناقشة لقضية الأفغانية.
لكن ما أثارني واقشعرّ له بدني هو الصور التي تناقلتها المواقع العالمية عن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الأفغانيين المذعورين من طالبان، والذين كانوا يعتقدون أنهم في أمن وأمان تحت المظلة الأمريكية، وكانوا واثقين من عدم قدرة طالبان على التواجد الرسمي في أية بقعة من أرض أفغانستان، وأن القوة العسكرية الأمريكية تقف لهم بالمرصاد، وتسحقهم بكل سهولة بالاسلحة المتطورة التي تملكها، لكنهم شهدوا الإندحار بل الهزيمة الأمريكية من جهة، ومن جهة أخرى تفاجأوا بالزحف الطالباني بسرعة الريح ووصولهم إلى مشارف القصر الرئاسي الأفغاني في العاصمة كابل، بل والدخول اليه واستقبال الرئيس الأفغاني لقادة المجموعة بالأحضان، ومغادرة البلاد بسرعة وتسليم البلاد على طبق من ذهب للمجموعة التي كان الأمريكيون يسمّونها إرهابية، وبذريعة المقابلة لها ولأجل هزيمتها كان الغزو الأمريكي لأفغانستان في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن أواخر عام ٢٠٠١، وصرفت الولايات المتحدة أكثر من ٢ تريليون دولار هناك طوال ٢٠ عاماً، واستعملت أحدث أنواع سلاحها وأكثرها فتكاً وتدميراً لقطع جذور هذه الجماعة، لكن لم ينتج من هذا إلاّ الإنسحاب المفاجئ وغير المنظم، بل أعطى إشارة إلى جماعة طالبان أنهم يقدرون بكل سهولة أن يكتسحوا المدن واحدة تلو أخرى من دون اي عائق أو مقاومة.
وهكذا كان، لكن المراهنين على الولايات المتحدة والمصدّقين لوعودها قد شاهدوا مناظر لم يتصوروها، إذ أعادت إلى ذاكراتهم صور الإنسحاب من فيتنام عام ١٩٧٣، إذ تنكّر الأمريكيون لحلفائهم المخلصين والعملاء لهم في حرب إخوانهم لسنين، حيث لم يعبأوا بالذين خدموهم طوال ٢٠ عاماً، ولم يحترموا بالحد الأدنى شعاراتهم باحترام حقوق الإنسان بالنسبة للمواطنين الأفغانيين، فطائرة النقل الأمريكية التي بدا أنها تحمل حشداً من الأفغانيين كقطعان غنم، بل أسوأ من ذلك، خُصص مقدّمها ليجلس كلب على المقعد في قسم الدرجة الاولى، في حين كل الكراسي من حوله فارغة، ولم يُسمح لأحد من الأفغانيين الجلوس عليها، وهذا المشهد يكفي ليعرف العالم معنى حقوق الإنسان لدى النظام الأمريكي حيث الكلب الأمريكي له منزلة كبيرة يتمّ له تخصيص مقعد في الصف الأول من الكراسي في الدرجة الأولى، فيما المواطنون الأفغان يضيق بهم المكان ويُحملون كما تُحمل الأغنام، علماً أن هؤلاء ليسوا من أعداء أمريكا ولا هم من خصومها المعتقلين، بل هم قد خدموا القوات الأمريكية بإخلاص، وهددوا حياتهم وحياة عوائلهم في سبيل تسهيل مهمة القوات الأمريكية، لكن آخر أمرهم يكون بحشرهم بهذه الطريقة المُذلّة في الطائرة وهم مع ذلك يمنّون عليهم بأن قاموا بنقلهم من منطقة الخطر إلى برّ الأمان.
ثم في الصورة الأخرى شاهدنا كيف قذفت الطائرة الذين تمسكوا بعجلاتها بعد أن مُنعوا من الركوب، والمتعلقون لم يكونوا من الناس العاديين، حيث كان أحدهم طبيباً لامعاً والآخر لاعب كرة شهير، وكلنا نعلم أن قبطان الطائرة يرى كل أقسام الطائرة من خلال الكاميرات والمستشعرات المثبتة في مختلف أقسام الطائرة الحديثةً جداً، وكيف أنه قد تم قذفهم بعد أن ارتفعت الطائرة في السماء كثيراً، علماً بأنه كان من الممكن الاستمرار في الطيران من دون رفع الإطارات طوال الرحلة القصيرة من أفغانستان إلى القاعدة العسكرية في قطر، وأيضاً خفض إرتفاع الطائرة ليتمكن المتمسكون بالإطارات من البقاء على قيد الحياة، لكن العقلية العنصرية البغيضة تتحكم بالنظام الأمريكي سواء في الداخل من خلال التعامل مع ذوي البشرة السوداء من المواطنين الأمريكيين، ما دفع إخوانه للنزول إلى شوارع المدن مطالبين بحق الحياة، وفي الخارج أيضاً شاهد العالم كيف يُخصص للكلب مقعد محترم في الصف الأول فيما يتمّ قذف اثنين من النخبة الأفغانيين وشخص آخر لم يتمّ التعرف عليه حتى الآن من الطائرة وينزلون أشلاء متناثرة على أسطح المباني، والمعيب أن الرئيس الأمريكي لم ” يعذّب ” نفسه ليُبدي أسفاً على الأقل لما أصاب الضحايا، أو يُصدر توبيخاً للقبطان الذي ارتكب هذه الجريمة النكراء، وتصوروا لو أن هذا المشهد كان من فعل دولة أخرى غير كيان العم سام، حيث كان العالم كله سيُصدر إدانات متلاحقة، ولعل الذي فعل هذا كان يُقدم كمجرم إلى محكمة الجنايات الدولية، ويتم إبداء التعاطف مع ذوي الضحايا على أعلى مستوى في الدول الغربية، لكن جميع المؤسسات الدولية تخرس كلياً و ” تبلع لسانها ” عندما يكون مرتكب الجريمة الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن السلطات الأمريكية تعطي الوسام الرفيع لمرتكب الجريمة كما كان الأمر مع من أسقط الطائرة المدنية الإيرانية المتجهة من بندر عباس إلى دبي العام ١٩٨٨ وقتل جميع ركابها البلغ عددهم ٢٩٠ شخصاً بينهم النساء والأطفال.
إن المنبهرين بالحضارة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص والسائرين في خدمة سفاراتها في بلادنا وبشكل خاص في لبنان يجب أن يأخذوا الدرس مما حدث في أفغانستان، ويعرفوا أن الأمريكي ومن معه من الدول الغربية لا يفكرون إلاّ بمصلحتهم الخاصة ولا يهمهم ما يحدث للآخرين حتى لو خدموهم عقوداً وضحوا بحياتهم في سبيل الدفاع عنهم عشرات السنين، وإنهم في ليلة ظلماء يفرّون عندما يرون أن بقاءهم في مكان لم يعُد له فائدة بحسب تقييم الخبراء لديهم، ثم إنهم إن أرادوا أن يأخذوا معهم بعض من أخلصوا في خدمتهم فإنهم يتعاملون معهم كقطعان غنم، وأن قيمة أكبر شخصية من هؤلاء عندهم هي أقل من قيمة الكلب، حيث يخصصون له مقعداً في الصف الأمامي من الطائرة وتُترك بقية المقاعد فارغة، ويتم حشر أكثر من ٦٥٠ شخصاً في القسم الخلفي من دون أية إجراءات وقائية ضرورية حين إقلاع الطائرة وهبوطها، والذين لا يُسمح لهم الدخول إلى داخل الطائرة، والمصرين على التمسك بالنموذج الأمريكي حتى المخاطرة بحياتهم والتشبث بإطارات الطائرة، هؤلاء أيضاً لا يُعبأ بهم أصلاً بل يتم رميهم من على ارتفاع مئات الأمتار ليصلوا إلى الأرض أشلاء وليكونوا عبرة للآخرين ودرساً لمن يعشق النموذج الأمريكي في الفكر والثقافة والعيش.
إن من نراهم يتسابقون في تقديم الولاء للسفيرة الأمريكية في بيروت دوروثي شيّا من خلال إطلاق تنديدات بالمساعدة الإيرانية الآتية لتخفيف الأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون جراء الحصار الأمريكي الظالم، فإنهم يكشفون عن حقيقة عمالتهم وفقدان وطنيتهم، حيث يرتضون لشعبهم الفقر والذل ولا يقبلون لغير أسيادهم أن يمدّوا يد المساعدة لتخفيف الأزمة وإراحة الناس قليلاً، فإذا قدمت أمريكا يوماً دولاراً واحداً أو وزعت سفيرتها عدداً من الاقنعة على المارة فإنهم يهلهلون ويرقصون ويشكرون ويخصصون لها ” ريبوتاجات ” على قنوات التلفاز، أما إذا جاءت ناقلة عملاقة من الجمهورية الإسلامية تحمل ملايين الأطنان من الوقود تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات فإنهم يولولون وينددون وينادون بالويل والثبور.
والعجيب أن جمهورهم المكتوي مثل غيره بنار الأزمة الخانقة حتى الموت لا يزال يتعصب لهؤلاء الأشخاص الفاقدين لأدنى حسّ للوطنية ولأقل شعور بهموم الأمة، وهو على أتمّ الإستعداد لتحمل مزيد من البؤس وقبول الفقر المدقع كرمى لعيون السارقين، وطلباً لرضى الناهبين، ودفاعاً عن كيان الفاسدين، لكنه ليس على استعداد أبداً لتصحيح فكرته وتعديل رؤيته وكشف حقيقة من نصّبتهم أمريكا زعماء لهم وعيّنتهم الأنظمة الرجعية ممثلين لطوائفهم.
إنني إذ أدعو غير الشيعة إلى التدقيق في حال زعمائهم وعدم التعصب لمن يبيعونهم في أسواق النخاسة الإقليمية والدولية، أدعو أيضاً إخواني الشيعة الأعزاء إلى نفس الأمر وأن يكون عندهم البصيرة ليعرفوا الحق فيعرفوا أهله كما يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام، فالذين يريدونهم دمى يحرّكونهم ساعة يشاؤون وفي أي اتجاه يريدون؛ فإذا تحالفوا مع مجرم معروف طلبوا من أتباعهم التصفيق له وتبرير جرائمه واختراع فضائل له حتى يكاد يكون من القديسين، أما إذا لم يُعجبهم رجل سبقهم في المسيرة الجهادية عقوداً، بل هو من ساق من يتزعمون وبشقّ الأنفس إلى المسار الذي به اليوم يفتخرون، فإنهم يقذفون معلميهم بشتى التهم ويكيلون لهم أنواع السُباب، ويمنعون أتباعهم حتى من التواصل معهم والإستماع إلى نصائحهم، بل يصوّرون أنفسهم في أبواقهم وإعلامهم وعلى منابرهم أنهم في خط الجهاد منذ ما قبل ولادتهم بسنين، أو أنهم خرجوا من بطون أمهاتهم وبيدهم بندقية المقاومة، ويُنكرون كل فضل عليهم من الآخرين الذين سبقوهم بالإيمان كما جاء في القرآن الكريم.
والعجيب أن البسطاء من الناس، وما أكثرهم، يلحقون هؤلاء المتزعمين إلى حيث يذهبون، ويرددون ما يوحى إليهم ويسمعون، ويبررون كل فعلاتهم من دون تفكير وتدبر، فتكون النتيجة تقوية أعداء الدين يوماً بعد يوم، وبسط سلطة الكافرين بالإسلام والقيم عهداً بعد عهد، والتغطية على الفساد المستشري في كافة جنبات النظام الطائفي البغيض، والتشبث بقطع القارب المتفسخ والمُشرف على الغرق، متوهمين ان تلك القطع البالية هي سفن النجاة، وأن الدفاع عن المجرمين هو سبيل البقاء على قيد الحياة، لكن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد نهى بشدة في عهده إلى مالك الأشتر لما ولاّه مصر عن الإستعانة بالأشرار والتقوّي بالمجرمين والتزلف إلى الفاسدين، وذلك بقوله: ” إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بِطانة، فإنهم أعوان الأَثَمَة وإخوان الظَلَمَة “، بل إن الله سبحانه قد أكد قبل ذلك في كتابه المجيد من قول موسى الكليم على نبينا وآله وعليه السلام: ( قال ربَّ بما أنعمتَ عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ) صدق الله العلي العظيم.
السيد صادق الموسوي