Les actualités les plus importantes et les plus récentes du monde en français

بالدم… ملحمة درامية لبنانية تضيء السباق الرمضاني بأداء وإبداع استثنائي

نور علي زريق – في موسم رمضاني حافل بالأعمال الدرامية، يبرز مسلسل بالدم كرقم صعب يتصدّر المشهد الفني، مثبتًا حضوره كأول عمل درامي لبناني خالص يتربع على عرش المشاهدات عبر منصة شاهد، متفوّقًا على كبرى الإنتاجات العربية المشتركة. هذا الإنجاز ليس مجرّد نجاح عابر، بل هو رسالة واضحة مفادها أن الدراما اللبنانية ما زالت تنبض بالحياة، قادرة على استعادة ريادتها والوقوف شامخة في وجه المنافسة الإقليمية، بفضل أعمال تحمل هوية محلية صادقة وجريئة.

بالدم ليس مجرّد مسلسل، بل هو تجربة إنسانية عميقة تسبر أغوار قضايا شائكة بجرأة ومسؤولية. تدور حبكته حول شخصية غالية، تلك الفتاة التي تنهار حياتها فجأة بعدما تكتشف أن العائلة التي تربّت في كنفها ليست عائلتها الحقيقية، فتبدأ رحلة مضنية للبحث عن جذورها، رحلة محفوفة بالمطبات، والخيانة، والحقائق المؤلمة، ضمن سرد درامي محكم ومتصاعد التوتر.

يطرح العمل قضايا إنسانية واجتماعية بالغة الحساسية، من تجارة الأطفال، إلى شبكات العصابات، مرورًا بمعاناة مرضى السرطان وغسيل الكلى، دون الوقوع في فخ الابتذال أو الاستسهال، بل بطرح ناضج يعكس وجع الإنسان اللبناني والعربي على حد سواء.
الكاتبة نادين جابر، صاحبة الأنامل الذهبية، تنسج النص بحرفية عالية، تربط الأحداث بخيوط مشدودة بإتقان، محافظة على نبض التشويق، فيما يترجم المخرج فيليب أسمر هذا العمق إلى صورة بصرية آسرة، موظّفًا عدسته في التقاط تفاصيل المشهد بلغة إخراجية تجمع بين الجماليات البصرية والرمزية الدلالية، عبر زوايا تصوير مبتكرة وفريمات مشغولة بعناية فائقة

.اداء تمثيلي يتجاوز التوقعات… نجوم “بالدم” في أعلى مراتب الإبداع

إذا كان النص المتقن هو العمود الفقري لمسلسل بالدم، فإن أداء أبطاله هو الروح التي بعثت فيه الحياة. هنا، لا مساحة للأدوار الثانوية أو للحضور العابر، فكل شخصية، مهما بدت بسيطة في ظاهرها، تجسدت بعمق إنساني كبير، ما جعل من العمل سيمفونية تمثيلية متكاملة، اتحد فيها الجميع ليشكلوا بطولة جماعية استثنائية نادرة في الدراما .

ماغي بو غصن… حين يتحوّل الأداء إلى مرآة للروح الإنسانية

لم يكن حضور ماغي بو غصن في بالدم مفاجئًا أو طارئًا، بل كان تتويجًا لمسيرة فنية صاغتها بحرفية عالية وموهبة استثنائية. نجمة أثبتت، مرة بعد أخرى، أنها ممثلة قادرة على تلوين أدوارها بمرونة مذهلة، تتنقل بين الكوميديا والدراما بخفة من يتنفس الفن، لكنها في هذا العمل اختارت أن تغوص إلى أعمق نقطة في الذات البشرية، وتقدّم شخصية غالية بكل ما تحمله من تعقيد وجمال ووجع.
غالية ليست مجرد محامية بارعة في التلاعب بالقوانين لمناصرة المظلومين، بل هي روح ممزقة تبحث عن جذورها، عن حقيقتها الضائعة بين من أنجبتها ومن ربّتها، وبين واقع يفرض عليها أن تعيد ترتيب مفاهيم الانتماء والهوية. ماغي جسّدت هذا الصراع الوجودي بشفافية نادرة، وبتقمّص جعل الشخصية تتجاوز النص لتصبح كائنًا حقيقيًا يعبر الشاشة ويخترق قلوب المشاهدين.
براعتها لم تكن في النطق بالحوار أو في أداء المشاهد الانفعالية الكبرى فقط، بل في تلك التفاصيل الصغيرة التي تتطلب حِرفة ممثل متمكن. نظرات غالية حين تهتز ثقتها بنفسها، رعشة صوتها حين تخونها الكلمات، الصمت الطويل المعبّر حين تعجز عن مواجهة أمها ، كلها لحظات صنعتها ماغي بأداء داخلي متزن، بعيد عن المبالغة، لكنها مفعمة بشحنة إنسانية صادقة وهنا تتجلى عظمة الأداء: أن يتحوّل التمثيل إلى تجربة وجدانية خالصة، تصل بالمشاهد إلى حد نسيان أنه يراقب عملًا دراميًا، ليشعر بأنه يشارك غالية رحلتها، خوفها، وأملها .
بلا شك، ما قدمته ماغي بو غصن في هذا الدور يرسّخ مكانتها كإحدى أكثر نجمات الدراما اللبنانية والعربية إتقانًا وقدرة على الإمساك بتفاصيل الشخصية. هي ممثلة تعرف كيف تسيطر على أدواتها بذكاء، وكيف تحوّل الألم إلى قوة، لتقدّم في بالدم واحدًا من أجمل أدوارها، وأصدقها.

.بديع أبو شقرا … إتقان التناقضات .

قدّم بديع أبو شقرا دورًا من أكثر أدواره تعقيدًا وتركيبًا، بشخصية طارق وهو محامي يتمسك بالقانون بشكل مطلق، ويعتبر أن الالتزام بالقواعد هو الأساس في كل شيء ، لكنه يقع في ثغرات النفس البشرية، فيغدر بمن يحب ليس بدافع رغبة عابرة بل من ضعف اذ لم يمتلك شجاعة الاعتراف بذنبه ، ورغم حبه العميق لزوجته إلا أن علاقتهما مليئة بالتعقيدات، بين فترات انفصال وعودة .
لم يكن بديع ممثلًا يؤدي الدور، بل هو كالنحات الذي يشكل الشخصية من داخلها، ينقل صراعاتها على مرأى من عين المشاهد. من خلال تعابير وجهه المتقلبة، وحركاته التي تفيض بالغموض، أجاد نقل الحزن والندم والحب عبر عينيه التي تحدثت بما لا تستطيع الكلمات قوله. في كل لحظة، كنا نعايش صراع طارق مع نفسه: حبه لغاليه، خيانته لها، الضعف الذي يحاول إخفاءه، والندم الذي يأسره. بديع لم يكتفِ بإظهار التناقض بين هذه المشاعر، بل جعلنا نشعر بها كما لو كانت جزءًا منا. تلك القدرة على جعل المشاهد يتأرجح بين الغضب والتعاطف هي السمة التي جعلت أدائه لا يُنسى .

.باسم مغنية … الصراع العاطفي والتضحية

باسم مغنية، في أدائه لشخصية وليد، لم يكن ممثلًا يعتلي المشهد، بل كان روحًا تتلبسها المأساة، تعيش تفاصيلها بصمت يصرخ في عمق كل مشاهد. وليد الرجل الذي يقف إلى جانب زوجته رغم عقمها، كان في الحقيقة يحترق داخله، ممزقًا بين التضحية وبين رغبة دفينة بالأبوة تزداد ثقلًا مع إلحاح والدته. ومع كل لحظة، كان باسم يغوص بنا إلى أعماق هذا الصراع، دون أن يحتاج إلى كلمة زائدة أو حركة مبتذلة؛ نظراته وحدها كانت نصًا موازيًا للمشهد، لغةً كاملة تنقل مرارة العجز والانكسار.
ومع تصاعد مجريات الاحداث وفشل خطة شراء طفل، لم تكن الهزيمة مجرد حدث، بل كانت هزيمة رجل فقد جزءًا من ذاته، وهو ما جسّده مغنية بملامح لم ترتجف، بل صمت يحاصره الوجع. اما بعد قرار زوجته بتزوجه من صديقتها، حملت عيناه ارتباكًا يشبه الاعتراف الصامت، حين أدرك أنه يقترب من حب قديم ظل دفينًا، لم يملك يومًا شجاعة البوح به.

باسم مغنية لا يتقمّص الشخصية فحسب، بل يذوب فيها حتى تصبح جزءًا من كيانه. يقدّم لنا وليد كأنّه كائن حيّ نابض بالتناقض، رجل من لحم ووجع، تنكشف في ملامحه هشاشة الإنسان وقوة احتماله معًا. بحركة خافتة، بنظرة غارقة في الأسى، بصوت ينساب منه الانكسار متى استدعى الموقف، يصوغ باسم صورة الأب الذي لم يتحقق، والزوج الذي يصارع بصمت، والرجل العالق بين ما يشتهيه قلبه وما تمليه عليه القيود.

في هذا العمل، جسّد باسم مغنية أكثر من مجرد دور؛ كان صوت الألم الإنساني، وحضور الحقيقة العارية من كل تكلّف. أظهر قدرة فريدة على الغوص في المشاعر الدفينة، ونقلها بصدق يُلامس الروح، ليترك في وعي المشاهد ندبة لا تُمحى، وأثرًا لا يحتاج إلى ضجيج كي يُقال… بل يكفيه الصمت الصادق ليُخلّد.

.جيسي عبدو … سيدة الأحاسيس.

قدّمت جيسي عبدو في شخصية تمارا أداءً يجسد عمق التناقضات النفسية التي يعايشها الإنسان في لحظات الضعف والتحدي. تمارا، التي تحمل في قلبها جرحًا غائرًا من خيانة تعرضت لها في ليلة زفافها، تجد نفسها في صراع دائم بين الرغبة في الحب والخوف منه. حياتها العاطفية مليئة بالشكوك والآلام التي تراكمت من ماضٍ مرير، ما دفعها لاختيار مسار بديل لتحقيق حلم الأمومة من خلال تجميد البويضات، بعيدًا عن الارتباط العاطفي الذي تخشى أن يعيد إليها أوجاعًا قديمة.

تفوقت جيسى في تجسيد هذه الشخصية الممزقة داخليًا بين حاجتها للحب وعجزها عن الثقة بالآخرين. استطاعت أن تنقل للمشاهد بصدقٍ عمق مشاعر تمارا التي تنبض بالحزن والأمل في آن واحد، مما جعلها تظهر وكأنها امرأة حقيقية تحمل آلام الحياة لكن في ذات الوقت تتطلع إلى مستقبل أفضل. ما قدّمته جيسي لم يكن مجرد تمثيل، بل كان تجسيدًا حيًا لحالة نفسية معقدة تتراوح بين التوق العميق للأمومة، والخوف من أن تكون خطوة جديدة في حياتها سببًا آخر للألم .

اما المشاهد التي جمعتها بماغي بو غصن أظهرت تلاحمًا نفسيًا وجسديًا بين الشخصيتين، حيث نقلت العلاقة بينهما عمقًا أخويًا أصيلًا، يحمل في طياته مشاعر حقيقية من التفاهم والاحتواء. لم تكن اللحظات التي جمعتهما مجرد تمثيل، بل كانت تجسيدًا حقيقيًا لرابطة إنسانية مشبعة بالصدق والألم. بدت تلك العلاقة كأنها تعبير عميق عن التجارب الحياتية المشتركة والأحاسيس الجياشة التي تتجاوز التفاعل البسيط بين شخصيتين على الشاشة. إن قدرة جيسي وماغي على تجسيد هذه العلاقة بكل ما تحمله من أصالة وعاطفة نادرة أضافت للعمل طبقات من الواقعية المؤثرة، ما جعل الجمهور يذوب في تفاصيل هذه الصداقات والأواصر، ويتعاطف معها بصدق، وكأن تلك اللحظات جزءٌ من حياتهم الشخصية.

.توازن الحب والصراع …. ثنائية رفيق علي أحمد وجوليا قصار

من النقاط البارزة التي أضافت للعمل هي المساحة التي أُتيحت للقدير رفيق علي أحمد و القديرة جوليا قصار، حيث قدما أداءً رائعًا جسّد من خلاله جو العائلة بكل تفاصيله. قدما حب الجد والجدة بكل تعقيداته وتحدياته، والمشاكل الزوجية التي يواجهها الأزواج على مر السنين. تميزت شخصياتهما بالانتقال بين لحظات الدفء والرحمة من جهة، ومن جهة أخرى، بين الخيانة والشكوك، والرهانات التي فرضتها عليهما الظروف. هذا التوازن بين الحب والصراعات اليومية جعل هذه الثنائية تترك بصمتها الخاصة في العمل، مما منح المشاهد نكهة فنية مميزة. أسهمت هذه الديناميكية في جذب انتباه الجمهور، إذ قدمت الوجوه المألوفة والناضجة بعدًا عاطفيًا ، بعيدًا عن التركيز الحصري على النجوم الشباب، وهو ما ساعد في خلق تفاعل إنساني صادق مع الشخصيات.

تعتبر بعض الشخصيات التمثيلية أكثر من مجرد أدوار على الشاشة، فهي تجسد الحياة بكل تعقيداتها ومشاعرها الحقيقية.

الممثلون الذين يجسدون هذه الشخصيات بنجاح يستطيعون أن يتركوا بصمة عميقة في نفوس الجمهور، ويميزون أنفسهم بقدرتهم على تقديم أدوار ذات طابع خاص. هؤلاء الفنانين يتقنون فن التعبير، والتفاعل مع المشاهد، ليصلوا إلى عمق الشخصية التي يلعبونها. ومن بين هؤلاء الممثلين الذين أضافوا للعمل لمسة من التميز والإبداع: سنتيا كرم، كارول عبود، وسام فارس، مارلين نعمان، سعيد سرحان، سمارا نهرا، نوال كامل، رولا بقسماتي وفيصل إسطواني .

في الختام ، لا بد من التوقف عند عظمة الدراما اللبنانية التي استطاعت، من خلال مسلسل “بالدم”، أن تبرهن مرة أخرى على قدرتها على مزاحمة أرقى الأعمال العربية، بفضل نصها المحكم، وقضاياها الإنسانية العميقة، وأداء ممثليها الذين جسدوا أدوارهم بمهارة فائقة، حملت كثيرًا من الصدق والعفوية والاحتراف. لقد تجلت براعة نجوم لبنان في هذا العمل، حيث أظهروا قدراتهم في الغوص في أعماق الشخصيات، ونقل مشاعرها بانسيابية لامست قلوب المشاهدين، وأكدوا أن لبنان لا يزال يزخر بمواهب تمثيلية قادرة على إبهار الجمهور.

ولا يمكن أن يكتمل الحديث عن هذا النجاح إلا بذكر شركة إيغل فيلمز، بقيادة المنتج جمال سنان، التي أخذت على عاتقها مهمة النهوض بالدراما اللبنانية وإعادتها إلى الواجهة. برؤية إنتاجية جريئة وجودة عالية، استطاعت الشركة أن تقدم مشروعًا فنيًا متكاملاً، يحترم المشاهد ويثري الساحة العربية. “بالدم” لم يكن مجرد مسلسل، بل كان شهادة على التزام إيغل فيلمز بالتميز والإبداع، وحرصها على رفع اسم لبنان عاليًا في عالم الدراما وعليه، تثبت الدراما اللبنانية مرة أخرى من خلال مسلسل ” بالدم ” قدرتها على المنافسة بجدارة، وترسّخ مكانتها كركيزة أساسية في مسيرة الفن العربي .