نور علي زريق – بين الماضي و الحاضر حكايات لا يعلمها سوى الزمان ، شخصيات تنبض من رحم المعاناة، تصنع المجد بإرادتها و اخرى وُلدت في رغد العيش، تترنح عند أول اختبار ، بين الشخصيات عوالم مشتركة لكنها ممزوجة الخير و الشر ، و من ينتصر يصنع مجده و مستقبله بيده بغض النظر عن الخسائر . تدور احداث مسلسل ” تحت الارض ” بقالب من التشويق و الحماس بحيث يتناول العمل مواجهة دموية داخل سوق التبغ في دمشق، اذ تفرض عائلة “الصافي” سيطرتها المطلقة، رافضة أي تهديد لمكانتها. وسط هذه الهيمنة، يظهر “جودت”، رجل غامض، يسعى لقلب موازين القوى، مستخدمًا ذكائه وحساباته الدقيقة لإضعاف العائلة المتحكمة.
جودت: القادم من المجهول ليغير قواعد اللعبة .
يجسد الممثل مكسيم خليل شخصية “جودت” بإتقان، مقدمًا أداءً يلامس أبعاد الشخصية النفسية والاجتماعية. جودت ليس مجرد تاجر طموح، بل رجل يحمل ماضياً مليئاً بالندوب.ولد مجهول الأب ، عاش طفولة مضطربة تحت قسوة زوج والدته السكير الذي لم تقتصر ممارساته العنيفه على الضرب، بل وصل إلى القتل، قتلت والدته على يد زوجها، فقام جودت بالانتقام لها ، مسطرا اول فصل له بالدم .
هرب باخته واحتمى عند رجل وفر له المأوى وعلمه أسرار تجارة الخشخاش. رغم أن هذه التجارة كانت محرمة اجتماعيًا، إلا أنها منحت جودت أول خطوة نحو القوة. اتجه جودت الى العمل بالتبغ ليغطي على تجارته الاساسية ، وهنا يلتقي بعائلة الصافي و تندلع المشاكل فيها بينهم.
مكسيم خليل قدم أداءً متقنًا يعكس عمق الشخصية. نظراته، حركاته، وطريقة حديثه حملت مزيجًا من الغضب والقوة والانكسار، مما جعل المشاهدين يرون في “جودت” أكثر من مجرد منافس لعائلة “الصافي”. أبدع في إظهار التناقض بين قسوته في ساحة الصراع وعطفه حين يتعلق الأمر بأخته، مما جعل الشخصية أكثر واقعية وتأثيرًا.
عامر: بين المبادئ والإجبار على المواجهة.
يجسد الممثل لجين إسماعيل شخصية “عامر” بحضور قوي وأداء متقن، مقدماً شخصية تحمل مزيجاً من الرقي والصراع الداخلي. عامر هو الابن الأصغر لمحمود بيك، رجل متحضر درس المحاماة في بيروت وتزوج هناك سراً، بعيداً عن صرامة عائلته. لكنه يجد نفسه مضطراً للعودة بعد طعن والده و مقتل وشقيقه، تاركاً خططه في فرنسا خلفه، ليواجه واقعاً لم يكن مستعداً له.
رغم تنحيه عن تجارة التبغ، يُجبر على إدارتها بسبب صفقة وقعها والده قبل طعنه. يجد نفسه وسط مؤامرات التجار، خاصة “جودت”، الذي يحاول افشاله، لكنه يتمكن من فرض وجوده. يشتد الصراع بعد شفاء والده حين يطلب المستثمر منه تولي زمام الأمور ، مما يزيد التوتر فيما بينهم. وسط هذه الفوضى، تفقد زوجته “نازك” حياتها في ظروف غامضة، فيشتعل غضبه، متّهماً “جودت” بالوقوف وراء مقتلها، ليبدأ رحلة البحث عن الحقيقة والانتقام.
لجين إسماعيل قدم أداءً واقعياً نقل تعقيدات الشخصية بمهارة. أظهر صراع عامر بين المبادئ والاضطرار للغوص في عالم لم يختره. بملامحه الهادئة ونظراته العميقة، جسد الحنان والقوة، التردد والحسم، الغضب والانكسار. لحظات انهياره بعد مقتل زوجته كانت من أكثر المشاهد تأثيراً، حيث نقل مشاعر الحزن والانتقام دون مبالغة. أداؤه جعل المشاهد يعيش مع عامر كل خطوة، ويتعاطف مع قراراته رغم صعوبة مواقفه.
نازك: الحضور الطاغي رغم قلة المشاهد .
رغم أن ظهورها لم يكن طويلًا، استطاعت الممثلة داليدا خليل أن تترك أثرًا واضحًا بشخصية “نازك”، محققة حضورًا استثنائيًا يُشبه النسمة التي تمر سريعًا لكنها تُغير الأجواء. عودتها بعد غياب أضافت للعمل لمسة خاصة، حيث قدمت أداءً ناضجًا متوازنًا بين الرقة والقوة، الانكسار والإصرار، الحب والخذلان.
نازك ليست مجرد زوجة داعمة، بل شخصية ذات ملامح واضحة. متعلمة مثقفة تجيد الفرنسية، اختارت الحب عن قناعة، لكنها وجدت نفسها في بيئة ترفضها. اختلافها عن عائلة زوجها لم يكن بيدها، لكن ذلك لم يمنعها من المحاولة، من تقديم التنازلات، من الطاعة التي لم تغير شيئًا في نظرة والدة عامر إليها. لم تكن متمردة، لكنها لم تكن مستسلمة. اختارت الرحيل بكرامتها، لكن القدر قرر لها نهاية أخرى.
داليدا خليل أبدعت بتجسيد شخصية نازك ، قد يعتبر البعض انه دور سهل الا انه يتطلب الكثير من الأدوات التمثيلية ، أداؤها في مشاهد المواجهات مع والدة عامر كان من أكثر اللحظات واقعية، حيث أظهرت ببراعة امرأة تحاول أن تثبت وجودها وسط رفض مستمر. أما لحظة الوداع، فكانت نموذجًا للأداء الصادق، حيث لم يكن هناك مجال للكلمات، بل فقط مشاعر تصل مباشرة إلى قلب المشاهد.
رغم أن نازك غابت سريعًا، إلا أن تأثيرها بقي لم تكن مجرد شخصية ثانوية، بل علامة فارقة في القصة، ورسالة عن الحب الذي قد لا يكون كافيًا أحيانًا للنجاة.
فرغم قلة مشاهدها، تركت داليدا خليل بصمة لا تُمحى في دور “نازك”. بشخصيتها الرقيقة وحضورها الهادئ، استطاعت أن تجسد المرأة المثقفة التي تحلم بحياة مستقرة مع زوجها يملئها الحب.
تحت الأرض : قصة مشوقة بإنتاج متواضع.
رغم أن العمل لم يتمتع بإنتاج ضخم مقارنة بالأعمال المنافسة في السباق الرمضاني، إلا ان القصة المتماسكة والسيناريو المحكم من شادي دويعر وسلطان العودة شكّلا نقطة قوة أساسية. الشخصيات مرسومة بدقة، والصراع الداخلي والخارجي بين الأبطال كان واضحًا، مما أبقى الجمهور متفاعلًا رغم بعض الثغرات البصرية والإخراجية.
الإخراج تحت قيادة مضر إبراهيم كان بسيطًا، ولم يقدم لمسات بصرية استثنائية، لكنه خدم القصة بشكل مقبول. بعض المشاهد كانت بحاجة إلى زوايا تصوير أكثر ابتكارًا وتوظيف أقوى للإضاءة والديكور .
طاقم التمثيل كان ركيزة أساسية في نجاح العمل. تألق مكسيم خليل، لجين إسماعيل، داليدا خليل، أحمد الأحمد، فايز قزق، كارمن لبس، كرم الشعراني وغيرهم في تقديم شخصيات نابضة بالحياة، مما أضفى على المسلسل بعدًا إنسانيًا قويًا.
ختامًا ،رغم التحديات الإنتاجية، استطاع “تحت الأرض” أن يترك بصمته، حيث قدم قصة ممتعة ومليئة بالصراعات والتقلبات. لم يكن مجرد عمل عن تجارة التبغ، بل عن النفوذ، الانتقام، الحب والخيانة، حيث لا شيء يبقى ثابتًا، وكل خطوة تحمل مفاجآت غير متوقعة.
