كتبت صحيفة “النهار”: بدا لبنان في الساعات الأخيرة تحت وطأة العدّ العكسي المحموم لضربة إسرائيلية كبيرة ضد “حزب الله” باتت شبه حتمية من دون أي قدرة على تقدير حجمها ومدتها وموقعها سلفاً، ولا على اطلاق أي تطمينات سابقة بأنها لن تؤدي إلى إشعال حرب واسعة. فمن زاوية المشهد اللبناني السائد بعد اكثر من 24 ساعة على سقوط صاروخ في ملعب رياضي في قرية مجدل شمس في الجولان، لم يكن ممكناً تجاوز بلوغ المخاوف ذروة غير مسبوقة من حرب شاملة تجتاح لبنان وتدمّره في أسوأ ظروفه وأزماته وأحواله، وذلك للمرة الأولى بهذه الجدية منذ اندلاع المواجهات بين “حزب الله” وإسرائيل في 8 تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي.
ولعل اللافت في الواقع الذي نشأ بعد حادث سقوط الصاروخ في مجدل شمس أن نفي “حزب الله” مسؤوليته في الحادث لم يؤد الى خفض المخاوف من ضربة إسرائيلية كبيرة، ولا كذلك بيان الاستنكار لاستهداف المدنيين الذي أصدرته الحكومة اللبنانية، ولا بيان إسناد “حزب الله” الذي أصدره رئيس مجلس النواب نبيه بري في تبرئته من قصف مجدل شمس. ذلك أن المخاوف تجاوزت كل الأطر اللبنانية حين بدا واضحاً أن تسعة اشهر من المواجهات أدت بالوضع الميداني على الجبهة الجنوبية اللبنانية مع شمال إسرائيل إلى وضع يُعتبر الأخطر اطلاقاً في التأهل لانفجار حرب كبيرة.
فما سبق حادث سقوط الصاروخ الذي وُجّه الاتهام فيه إلى “حزب الله” بوقت قليل السبت الماضي، اتّسم أيضاً بخطورة استثنائية مع اسقاط إسرائيل مسيّرتين للحزب كانتا تتجهان نحو حقل كاريش الإسرائيلي للغاز، بما ينذر بإدخال القطاع النفطي في الحرب. ثم جاء حادث صاروخ مجدل شمس ليطلق عاصفة ضخمة من الالتباس حول ظروف سقوط الصاروخ والجهة التي تقف وراءه، إذ، بصرف النظر عن سيل التصريحات الإسرائيلية العسكرية والسياسية التي تؤكد أن “حزب الله” أطلقه من شبعا وأنه من نوع “فلق” الإيراني، مالت أحاديث وتقديرات بعض الخبراء إلى استبعاد “تورّط متعمد” لدى الحزب إذا ثبت أن الصاروخ أُطلق من موقع لديه وعدم استبعاد أن يكون “خطأ” حصل ويتصل بقصر المسافة بين هدف عسكري إسرائيلي استهدفه الصاروخ وقرية مجدل شمس.
مع ذلك، بدت الأوساط اللبنانية المعنية مساء أمس على خشية كبيرة من أن الساعات المقبلة قد تحمل نذر الرد الإسرائيلي على لبنان من دون أن تجزم بما إذا كان مرجحاً أن تكون عملية قوية، ولكن محدودة الحجم والمكان لتجنب جرّ “حزب الله” إلى رد كبير، كما شاعت الانطباعات بكثافة. إذ أن هذه الأوساط غلب عليها الحذر الكبير في التعامل مع طبيعة التهديدات الإسرائيلية كما مع بعض المواقف الدولية لا سيما منها الأميركية خشية أن تكون بمثابة تغطية لرد عنيف يُخشى الا تبقى مفاعيله محصورة ومحدودة.
استنفاران ميداني وديبلوماسي
في أي حال، فان استنفاراً واسعاً طبع الواقع الميداني جنوباً وفي مناطق عدة، ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين أمنيين، أن “حزب الله” كان في حالة تأهب قصوى وأخلى بعض المواقع الرئيسية في شرق وجنوب لبنان تحسباً لأي تصعيد إسرائيلي. وبدأت دول بتوجيه الدعوات إلى رعاياها لتجنب السفر إلى لبنان كانت أبرزها فرنسا التي دعت مواطنيها إلى تجنّب السفر إلى لبنان وإسرائيل، كما أصدرت وزارة الخارجية النروجية بياناً دعت فيه المواطنين النروجيين إلى مغادرة لبنان. وأفيد أن السلطات الدنماركية تواصلت مع مواطنيها، مشيرة إلى أن مغادرتهم أو بقائهم سيكون على مسؤوليتهم الشخصية. كما أن شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية أعلنت تأخير عودة عدد من رحلاتها من مساء أمس الى اليوم في اجراء احترازي.
وعلم في هذا السياق أن الاتصالات الأساسية لمحاولة تجنب انزلاق الوضع إلى تدهور واسع جرت بين الموفد الأميركي آموس هوكشتاين وكل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ولكن أي معطيات مطمئنة لم تبرز عبرها.
وفي موقف لافت، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن وقف إطلاق النار في غزة سيكون فرصة لجلب الهدوء الدائم إلى الخط الأزرق بين إسرائيل ولبنان. ولكنه أكد أن “المؤشرات كلها” تدل على أن “حزب الله” أطلق الصاروخ على الجولان. وقال بلينكن: “لا يوجد مبرر للإرهاب”. وأضاف:” نؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها من الهجمات الإرهابية”. وقال بلينكن إنه لا يريد أن يرى تصعيداً للصراع بعد أن اتهمت إسرائيل “حزب الله” بقتل 12 طفلاً ومراهقاً في هجوم صاروخي بمرتفعات الجولان المحتلة. وأوضح أن الولايات المتحدة تجري محادثات مع إسرائيل بشأن الحادث، وتابع: “نحن في محادثات مع إسرائيل، ولا نريد أن نرى تصاعد الصراع”.
وكان الوضع الناشئ اكتسب طابعاً بالغ الخطورة إلى حدود محاولة الحكومة استدراك اشتعال الحرب، فأصدرت بياناً ليل السبت الماضي أعلنت فيه “ادانتها كل اعمال العنف والاعتداءات ضد جميع المدنيين ودعوتها الى الوقف الفوري للأعمال العدائية على كل الجبهات”. وشددت على أن استهداف المدنيين يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ويتعارض مع مبادئ الإنسانية”.
وأُعلن أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اجرى سلسلة إتصالات ديبلوماسية وسياسية، في اطار متابعة الاوضاع الطارئة المستجدة والتهديدات الإسرائيلية المتكررة ضد لبنان. وشدد خلال الاتصالات على “أن الحل يبقى في التوصل الى وقف شامل لاطلاق النار والتطبيق الكامل للقرار الدولي الرقم 1701، للتخلص من دورة العنف التي لا جدوى منها وعدم الانجرار الى التصعيد الذي يزيد الاوضاع تعقيداً ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه”.
كما جدد التشديد على موقف الحكومة بإدانة كل أشكال العنف ضد المدنيين، وأن وقفاً مستداماً لاطلاق النار على كل الجبهات هو الحل الوحيد الممكن لمنع حدوث مزيد من الخسائر البشرية، ولتجنب المزيد من تفاقم الاوضاع ميدانيا”. وأكد “أن الموقف اللبناني يلقى تفهماً لدى جميع اصدقاء لبنان، وأن الاتصالات مستمرة في أكثر من اتجاه دولي وأوروبي وعربي لحماية لبنان ودرء الاخطار عنه”.
كما أن رئيس مجلس النواب نبيه بري أكد في اتصال مع المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جينين هينيس بلاسخارت “أن لبنان الذي تتعرض قراه الجنوبية لا سيما الحدودية منها منذ ما يزيد عن 9 اشهر لعدوان إسرائيلي متواصل لم توفّر فيه الآلة العسكرية الإسرائيلية بإسلحتها المحرمة دولياً وبالرغم من هذه الإنتهاكات الإسرائيلية الفاضحة والصريحة لمندرجات القرار 1701 إلا أن لبنان ومقاومته ملتزمان بهذا القرار وبقواعد الإشتباك بعدم استهداف المدنيين، ونفي المقاومة لما جرى في بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل يؤكد بشكل قاطع هذا الإلتزام وعدم مسؤوليتها ومسؤولية لبنان عما حصل”.
بدوره اعتبر الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أن “الادّعاء الإسرائيلي بأن “حزب الله” أطلق الصاروخ على مجدل شمس كاذب”. وقال: “حان الوقت لأن تفهم إسرائيل أنها لن تستطيع القضاء على روح المقاومة”. وأضاف أنّه “ما من أحد يعطي دروساً لمجدل شمس، فهذه البلدة عربية وأغلب سكانها رفضوا الجنسية الإسرائيلية”.
وأكّد أن “إسرائيل تهاجم وتقتل وتدمّر في كل لحظة في لبنان”، لافتاً إلى أن “حزب الله يحترم قواعد الاشتباك في العمليات التي ينفذها والحزب يرد عندما تخرقها إسرائيل”. وقال: “نعوّل على جهود الرئيس بري في التوصل مع المبعوث الأميركي لوقف إطلاق نار جدي في جنوب لبنان”. ولفت جنبلاط إلى أن “المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين قال إن إسرائيل ستقوم بعملية واسعة وأذكره بأنه وسيط وليس ناقلاً لتهديدات إسرائيل”.
وحذر وزير الخارجية عبد الله بو حبيب من “أن أي حرب على بلاده ستتحوّل إلى حرب إقليمية”، وذكر أن “الحرب ستكون مدمّرة للجميع، وليس فقط للبنان كما يعتقد البعض. إسرائيل تدّعي البطولة، لكن كل الدول تُقهر، لذلك من الأفضل ضبط النفس”. وأضاف، “يجب تشكيل لجنة دولية للتحقيق في مصدر الهجوم على مجدل شمس في الجولان المحتل، ويمكن التعاون مع اليونيفيل”. وتابع: “نجري اتصالات واسعة لمنع التصعيد. وحكومة لبنان تدعو دائماً إلى ضبط النفس”، مشيراً إلى أنه تم التواصل مع حزب الله “وهو ينفي مسؤوليته عن الهجوم”.
واستبعد فرضية أن يكون “حزب الله” قد نفذ الهجوم على قرية مجدل شمس كونه منذ بدء النزاع في الجنوب لم يستهدف مواقع مدنية بل عسكرية فقط. وتوقّع أن تكون ضربة مجدل شمس “من تنفيذ منظمات أخرى أو خطأ إسرائيلي أو خطأ من حزب الله” داعياً إلى إجراء تحقيق دولي أو عقد اجتماع للجنة الثلاثية عبر اليونيفيل لمعرفة حقيقة الأمر.