(الجمهورية)
إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من كارثة بيروت، فهو أنّ النظام اللبناني بشكله الحالي بات منتهي الصلاحية بعد مئة عام على تكريسه فرنسياً، ضمن مجموعة الترتيبات التي تلت هزيمة العثمانيين أمام الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
كثيرة هي المحاولات التي جرت طوال القرن الماضي لإعادة تشكيل النظام على النحو الذي يضمن بقاء لبنان على الخريطة، إن بالشكل الذي فرضه الخارج المنتصِر، أو بالصيغة التوافقية التي تكرّست منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1943، أو ما عرف حينها بالميثاق الوطني، الذي كرّس نمط المحاصصة الطائفية، التي جرّت على لبنان ويلات تلو أخرى.
تأخّر اللبنانيون كثيراً ليدركوا أنّ الدولة المدنية هي السبيل الوحيد لجعل لبنان وطناً يمكن لأبنائه العيش فيه من دون خوف على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ودفعوا ثمن هذا التأخّر أغلى ما يمتلكونه وهو الدم.
من «ثورة» العام 1958، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى حقبة السلم الأهلي الهَش في فترة ما بعد الطائف، بكل ما شهدته من زلازل داخلية وارتدادات لزلازل إقليمية ودولية، يبدو النظام اللبناني اليوم على مفترق طرق، بين حافة الجحيم، وبين الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والنهوض مجدداً.
هذا ما بات يقرّ به الجميع، وامام هذا الاقرار، تبرز دعوة الرئيس نبيه بري المتكررة إلى الدولة المدنية بوصفها اكثر من جدية، ومعبّرة عن أماني اللبنانيين، ومطالبهم المحقة، والاكثر منهجية في مقاربة المعطيات الواقعية للخروج من الأزمة باتجاه بناء الدولة الجديدة.
لبّ ما ورد في ما قال رئيس مجلس النواب في خطاب ذكرى تغييب الامام موسى الصدر، كان التوصيف الدقيق لما جرى في لبنان خلال الشهر الماضي، بما يتجاوز بكائيات الوقوف على الأطلال، لا سيما حينما أشار إلى أنّ «أخطر ما كشفته كارثة مرفأ بيروت، عدا عناصر الدولة الفاشلة، هو سقوط هيكل النظام السياسي والإقتصادي بالكامل ولا بد من تغيير في هذا النظام الطائفي فهو علّة العلل.. هو الفساد.. هو الحرمان.. بل كان السبب والمسبّب لعدم تطبيق أكثر من 54 قانوناً، بل ولمخالفات دستورية لا تعد ولا تحصى.. هو اللاعدالة بل هو اللاإنتماء للبنان الواحد الموحد، ولا بد للخلاص منه».
تبعاً لذلك، جاء التوصيف الصريح للواقع، كمدخل لخريطة طريق اقترحها الرئيس بري، ضمن مستويين:
– المستوى الأول، بات ملحّاً في ظل استنفاد الوقت المتبقّي للدخول في كوّة الانقاذ الضيقة والتي حددها بنقطتين أساسيتين:
اولاً: وقف الحملات الإعلامية والتراشق الكلامي بين مختلف الاطراف والقوى والشخصيات السياسية وتهذيب الخطاب السياسي والإعلامي الذي انحدر الى مستوى بات يُسيء الى سمعة لبنان في الداخل والخارج، وبالتالي يسهم في تعميق الإنقسام السياسي والوطني، وكأننا دولة غير قابلة للحياة وغير قابلة للموت.
ثانياً: من دون شروط مسبقة، الإسراع في تشكيل حكومة قوية جامعة للكفاءات تمتلك برنامجاً إنقاذياً إصلاحياً محدداً بفترة زمنية ورؤية واضحة حول كيفية إعادة إعمار ما تهدم من بيروت. وبالتوازي، المباشرة بالإصلاحات الضرورية على المستويات كافة بدءاً من الكهرباء الى المالية العامة ومكافحة الهدر والفساد واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة.
أما المستوى الثاني، فلا يقل آنيّة، وإن كان المستوى الأول هو الشرط الأساسي له، وهو يتعلق بالإصلاح الشامل للنظام اللبناني، على النحو الذي يمكن معه إعادة تشكيل النظام على النحو الذي لا يجعل اللبنانيين مضطرين مرّة تلو الأخرى لإسالة الدماء النفيسة، على النحو الذي حدث في الكثير من المحطات المفصلية في تاريخ لبنان الحديث، ولا سيما الحرب الأهلية، التي عاد كثيرون إلى استحضار أشباحها، سواء في الداخل، حيث يحاول البعض طرح خطط مدمّرة كالفدرالية وما شابَه، أو في الخارج، حيث باتت عواصم القرار تلوّح، وإن تحذيراً، باحتمالات الحرب الاهلية في حال لم يتم إصلاح النظام السياسي.
ضمن هذا الإطار، قد يمثّل طرح الرئيس نبيه بري الفرصة الأخيرة للخروج من مأزق تكوّن عَفَنُه على مدار مئة عام، وقد عجز اللبنانيون، سواء لأسباب داخلية أو خارجية، عن تجاوزه ضمن الإصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف.
هي خريطة طريق تعيد الاعتبار إلى الطائف ولا تنسفه، وإنما تسرّع في تطبيق بنوده الاصلاحية، بنسخة منقّحة تراعي الفرص الضائعة بين العامين 1990 و2020، لا سيما في النقاط الخمس، التي حددها الرئيس بري بوضوح:
– إقامة الدولة المدنية.
– صياغة قانون انتخابي خارج القيد الطائفي على قاعدة لبنان دائرة إنتخابية واحدة أو المحافظات الكبرى، والإقتراع في اماكن السكن.
– إنشاء مجلس للشيوخ تمثّل فيه كافة الطوائف وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية.
– تعزيز استقلالية القضاء وتطويره وتحصينه.
– إقرار ضمان إجتماعي وصحي للجميع، وصياغة نظام ضرائبي موحد تكون فيه الضرائب تصاعدية.
هي عناوين أساسية يمكن البناء عليها، خصوصاً أنها يفترض أن تحظى بإجماع وطني، على نقيض الكثير من الأفكار التي طُرحت منذ قيام دولة لبنان الكبير، ولا زالت تُطرح تحت عناوين إصلاحية، في حين أنها تمثّل في الواقع مشروع تناقضات متجددة، وربما تمثّل حروباً أهلية جديدة.
بصرف النظر عمّا اذا كانت الحسابات الداخلية والمعادلات الاقليمية تتيح الفرصة لجعل خريطة الطريق التي طرحها رئيس مجلس النواب قادرة على أن تسلك طريقها، خصوصاً أنّ دونها الكثير من الألغام والطموحات والمقامرات الداخلية والخارجية، إلا أنها تمثّل حتى اليوم الطرح الأكثر جدية في مقاربة أزمة النظام الذي هَشّمه زلزال مرفأ بيروت، وربما يمكن أن تتقاطع مع الاندفاعة الفرنسية الجديدة تجاه لبنان، والتي بلغت مرحلة متقدمة للغاية في زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وما رافقها من انفراجات، ولو محدودة، تمثّلت بشكل خاص في توافق بات نادراً منذ فترة، على من يتولى التكليف الحكومي.
وبانتظار أن تتكشّف ملامح الحلول التي يمكن أن تتمَخّض عن زيارة الرئيس الفرنسي، لا سيما أنّ ما تسرّب من رسائل فرنسية على هامشها يوحي ببعض الإيجابيات، خصوصاً لجهة التمايز عن الموقف الأميركي في ما يتعلق بـ»حزب الله»، أو في الحديث عن «أسابيع حاسمة»، فإنّ الاختبار الأول الذي يمكن أن يشكّل الفرصة الأخيرة للانقاذ يتمثّل حالياً في التشكيلة الحكومية المرتقبة من جهة، وتحديد آلية للانتقال من دولة المحاصصة الطائفية إلى الدولة المدنية، من المؤكد أنّ خريطة الطريق التي طرحها الرئيس نبيه بري ستمثّل حجر الزاوية فيها، طالما أن لا طرح جدّياً حتى اللحظة سواها.