تشهد العلاقات بين السودان وأثيوبيا توتراً متصاعداً منذ أسابيع على خلفية هجمات مسلحة على حدود البلدين تقول الخرطوم إنها نفذت من قبل مليشيات إثيوبية مدعومة بقوات رسمية على أراض سودانية، فيما تنكر أديس أبابا تلك التهم، قائلة إنها تتابع عن كثب ما حدث على يد إحدى الميليشيات المحلية على الحدود الإثيوبية – السودانية.
أما من ناحية الأبعاد الإقليمية فهذا الصراع لا ينفصل اليوم عن متغيّرات السياسة الدولية تجاه أفريقيا عموماً، وتنافس النفوذ على منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي بين القوى الدولية بصورة خاصة، ما خلق سباقاً بين دول هذه الجغرافيا حول من منها ستفوز بلعب دور الدولة المركزية لشرق أفريقيا.
الصراع الحدودي المتجذّر
الحدود بين إثيوبيا والسودان متنازع عليها منذ أكثر من قرن مع عدد من المحاولات الفاشلة للتفاوض حول رسم حدود واضحة بين البلدين. وكانت المعاهدات التي وضعت في عامي 1902 و1907 بين إثيوبيا وبريطانيا تهدف إلى تحديد الحدود بينهما، لكن إثيوبيا ادّعت منذ فترة طويلة أنّ أجزاء من الأراضي التي أعطيت للسودان تعود إليها بالفعل.
وتنظم “اتفاقية 1902” الحدود بين السودان ومصر وإثيوبيا، والتي تنص على اقتطاع إقليم “بني شنقول” من السودان لصالح إثيوبيا، مقابل عدم إنشاء أيّ سدود على نهر النيل، والذي خالفته أديس أبابا، بإقامتها سدّ النهضة.
وهذا قد يكون معطىً “لإمكانية الانزلاق إلى حرب”، خاصة بعد نشوء مطالبات سودانية بالأحقية فيه على المستوى غير الرسمي.
أما عن منطقة “الفشقة”: فإنه تمّ وضع هذه المسألة على الرف لبعض الوقت، وعلى الرغم من وجود نشاط زراعي إثيوبي في هذه المناطق، إلا أنه يبدو أنّ هناك تفاهماً على أنّ ذلك لا يعني أنها أرض إثيوبية.
وبعد عقود من الاحتكاك والمفاوضات انتهت في عام 2008 عندما تمّ التوصل إلى حلّ وسط “للحدود الناعمة” بين البلدين، ومع ذلك، بدأ هذا الاتفاق في الانهيار بعد إزاحة جبهة تحرير شعب تيغراي عن السلطة في عام 2018.
ومع فشل مؤتمر القمة الإقليمي في كانون الأول 2020 في حل الإشكالية، فإنّ صراع الحدود قد يؤدي إلى مزيد من التوتر.
أزمة ترسيم الحدود
فور اندلاع الأزمة مجدّداً أواخر العام الماضي طالبت إثيوبيا بضرورة قيام البلدين بحلّ خلافاتهما بشأن الحدود سلمياً، وفقاً للاتفاقيات الثنائية، وآليات اللجنة المشتركة للحدود المتشكلة عنها.
وفي تصريحات لرئيس الوزراء آبي أحمد يقول فيها إنّ موقف بلاده لا يعبّر عن ضعف بل عن قوة وصبر، بحسب تعبيره. ويرى رئيس الوزراء الإثيوبي أنّ الدعوة إلى عدم الدخول في حروب وصراعات مع الآخرين ونبذ الكراهية لا تعتبر عجزاً.
ووفقاً للخارجية الإثيوبية، فإنّ اتفاقية الحدود التي أبرمت عام 1902، حددت الحدود على الخرائط فقط، في حين أجرى الترسيم على الأرض الميجر البريطاني «قوين» في عام 1903، دون حضور ممثل إثيوبيا أو تفويض من الحكومة الإثيوبية، ونتيجة لذلك، ظلّ خط «قوين» موضع خلاف ومتنازعاً عليه، خاصة في المناطق الواقعة شمال «جبل دقلش»، بحسب الخارجية الإثيوبية.
وفي هذا السياق تعتبر أثيوبيا أنّ السودان ارتكب “خطأ تاريخياً من خلال التدخل في الأراضي الإثيوبية”، وأن تصرفات الخرطوم “خاطئة من الناحية الأخلاقية والقانونية على حد سواء في ظلّ العلاقات طويلة الأمد والتاريخية مع إثيوبيا” وتتناقض أيضاً مع الاتفاق المبرم بين الطرفين عام 1972.
وتدّعي أيضاً بأنّ هناك أنشطة للجيش السوداني تأتي بتخطيط وتمويل من طرف ثالث (المقصود مصر) يسعى إلى كسب الهيمنة على المنطقة من خلال إضعاف وتقسيم إثيوبيا، مدّعية أنّ أديس أبابا طلبت من العسكريين السودانيين غير مرة العودة إلى الوضع السابق قبل السادس من تشرين الثاني الماضي.
وفي هذا السياق يقول المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية السفير دينا مفتي إنه من أجل حلّ هذا النزاع اتفق البلدان في عام 1972 على الشروع في عملية إعادة الترسيم للمناطق الواقعة شمال “جبل دقلش”، شريطة أن يتمّ قبل الترسيم، دراسة المشكلة الناجمة عن وجود المزارعين من مواطني الدولتين في أراضي الدولة الأخرى، بهدف إيجاد حلّ ودّي لها، بحسب الاتفاقية.
وأشار دينا مفتي في حديثه إلى أنه وبناء على اتفاقية 1972 تم تشكيل عدة لجان، إلا أنها لم تكمل مهامها الموكلة إليها، رغم عقدها عشرات الاجتماعات، وأوضح مفتي أنه وأثناء استمرار المفاوضات وقّع البلدان على تفاهم عام 2005 نصّ على بقاء الوضع الراهن على الحدود كما هو – كحلّ مؤقت – ريثما يتمّ التوصل إلى اتفاق نهائي.
وأكد دينا مفتي، أنّ تفاهم 2005 يعتبر حلاً تكميلياً ومؤقتاً لاتفاقية عام 1972، وليس بديلاً عنها، معتبراً أنّ ما قام به الجيش السوداني يعتبر انتهاكاً لهذه الاتفاقيات، وأنّ الحلّ يتمثل في الالتزام بتفاهم 2005 وإعادة تنشيط اللجان المشتركة المتمخضة عن اتفاقية عام 1972 لعقد اجتماعاتها وإعادة ترسيم النقاط الحدودية، والتي لا ينبغي أن تكون نقاطاً لفصل مواطني البلدين، بقدر أن تكون نقاط اتصال تعزز وتوطد التعاون في ما بينهم، بحسب دينا مفتي.
لماذا التنازع على منطقة الفشقة؟
عُدّت الاشتباكات المسلحة على طول الحدود بين السودان وإثيوبيا أحدث تطور في تاريخ من التنافس المستمر منذ عقود بين البلدين، رغم أنه من النادر أن يقاتل الجيشان الإثيوبي والسوداني بعضهما البعض مباشرة للسيطرة على الأراضي. ويدور النزاع بينهما حالياً حول منطقة تعرف باسم الفشقة حيث يلتقي شمال غرب منطقة أمهرة الإثيوبية بولاية القضارف في السودان.
وعلى الرغم من أن الحدود التقريبية بين البلدين معروفة جيداً، يحب المسافرون أن يقولوا إن إثيوبيا تبدأ عندما تفسح السهول السودانية الطريق للجبال الإثيوبية.
بعد حرب عام 1998، قام السودان وإثيوبيا بإحياء محادثات كانت قد دخلت في سبات منذ أمد طويل ليحدّدا بدقة حدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومتراً.
وفي هذا الإطار، كانت الفشقة هي أصعب منطقة لتسوية الخلاف حولها، فوفقاً لمعاهدات الحقبة الاستعمارية لعامي 1902 و 1907 تمتدّ الحدود الدولية إلى الشرق منها.
وهذا يعني أنّ الأرض ملك للسودان، لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة حيث مارسوا الزراعة وهم يدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية.
إدانة الاتفاق بوصفه صفقة سرية
وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط في عام 2008 حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، لكن السودان سمح للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك دون عائق.
لقد كانت حالة كلاسيكية لـ «الحدود الناعمة» التي تمت إدارتها بطريقة لا تسمح لموقع «الحدود الصلبة» بتعطيل سبل عيش الناس في المنطقة الحدودية حيث ساد تعايش لعقود حتى طالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي.
وترأس الوفد الإثيوبي إلى المحادثات التي أدت إلى تسوية عام 2008 آبي تسيهاي، المسؤول الكبير في جبهة تحرير شعب تيغراي.
وبعد الإطاحة بجبهة تحرير شعب تيغراي من السلطة في إثيوبيا في 2018، أدان زعماء عرقية الأمهرة الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وقالوا إنه لم تتمّ استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق.
ولكلّ جانب قصته الخاصة حول ما أشعل الاشتباك في الفشقة، لكن ما حدث بعد ذلك ليس محلّ خلاف، فقد طرد الجيش السوداني الإثيوبيين وأجبر القرويين على إخلاء أماكنهم.
وفي قمة إقليمية عقدت في جيبوتي في 20 كانون الأول الماضي، أثار رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك الأمر مع نظيره الإثيوبي آبي أحمد.
وقد اتفقا على التفاوض، لكن لكلّ منهما شروط مسبقة مختلفة، فإثيوبيا تريد من السودانيين تعويض المتضررين، فيما يريد السودان العودة إلى الوضع السابق.
وبينما كان المندوبون يتحدثون، وقع اشتباك ثان ألقى السودانيون باللوم فيه على القوات الإثيوبية.
وكما هي الحال مع معظم النزاعات الحدودية، لدى كل طرف تحليل مختلف للتاريخ والقانون وكيفية تفسير المعاهدات القديمة، كما أن هذا النزاع يعد أيضاً أحد أعراض مشكلتين أكبر أثارتهما التغييرات السياسية التي قام بها آبي أحمد. ما يحدث الآن من حالة الحشد العسكري والاستنفار ونشر التعزيزات على الحدود الإثيوبية السودانية لا ينفصل عن تشعّبات هذا الصراع بأبعاده القديمة الحديثة ولا عن الظروف الراهنة، فكلاهما يتماثلان في أوضاعهما الداخلية وطموحاتهما الإقليمية وواقعهما السياسي الهش.
السودان مثلاً يمر بمنعطف سياسي وتاريخي دقيق للغاية تداخلت فيه الأوضاع الاقتصادية المتداعية مع أحلام الدولة المدنية المنشودة والتي تتعثر بواقع تعقد الأوضاع من انهيار العملة وتراجع ضعف المؤسسات والحالة الأمنية الهشة والنظام الصحي المتداعي حدّ اللامنطق، الشاهد أنّ لقمة العيش اليومية أصبحت هدفاً صعب المنال ما يجعل حكومة المرحلة بشقيها تحت نيران السخط والانتقاد.
إثيوبيا كذلك لا تختلف عن السودان بشيء: أوضاع اجتماعية واقتصادية سيئة تقترن بصراع محتدم بين قومياتها الرئيسية من الأرومو والأمهرا والتيغراي، ولكلّ منها طموحات تاريخية لفرض واقع جديد، التيغراي مثلا تقاتل لإنهاء سيطرة الأمهرا والتي أصبحت سيطرةً اجتماعية وثقافية طالت كلّ مفاصل إثيوبيا، ما يُفسّر بأنّ مواجهات هذه القوميات تقود نحو انهيار السلم الاجتماعي لبلد متعدّد القوميات والأعراق، وبحسب التيغراي وبعض القوميات الأخرى لا قدرة لرئيس وزرائهم آبي أحمد على إدارة هذه الصراعات لعدة اعتبارات من وجهة نظرهم، أهمّها شرعيته السياسية مثار الجدل.
سدّ النهضة أيضاً زاد على عبثية المشهد الإثيوبي ما أضاف مع تمترس كلّ طرف من الأطراف الثلاثة (مصر وإثيوبيا والسودان) خلف مطالبه التي يراها حقاً شرعياً في حصته المائية وأمنه القومي ويرونه حقا لا نقاش فيه.
ضغوط من الأمهرة
يقول محللون ودبلوماسيون إقليميون إن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد يتعرض لضغوط من سياسيين أقوياء في حكومته، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ديميكي ميكونين، بعدم التراجع في النزاع الحدودي.
وتدّعي ولاية الأمهرة التي دعم مقاتلوها توغل الجيش الفيدرالي الإثيوبي في إقليم تيغراي، ملكيتها لأجزاء من الفشقة بما في ذلك مناطق داخل الأراضي السودانية.
وتضيف أن هناك جنرالات من التيغراي يسعون لتنظيم صفوفهم بدعم من السودان، لإسقاط نظام أبي أحمد، ودفعت التوترات الأمنية على الحدود إلى تفعيل عمل اللجنة المشتركة للحدود، ليعود بذلك ملف النزاع الحدودي المتجدد بين السودان وإثيوبيا إلى الواجهة مرة أخرى، بعد إعلان الجيش السوداني أن قواته تصدت لاعتداء «من مليشيات إثيوبية» في منطقة الفشقة.
الحرب المستبعدة
السبب القوي الذي سيمنع إثيوبيا من إشعال حرب شاملة هو عدم إعطاء فرصة لمصر للتدخل والوقوف إلى جانب السودان، بموجب اتفاقات ثنائية، هذا قد يقضي على طموح أديس بإنشاء سد النهضة.
ومن غير المتوقع اندلاع حرب واسعة لأنها ليست في صالح البلدين ولا قدرة لهما على ذلك، ما يحدث هو محاولة إثيوبية لتوحيد جبهتها الداخلية المتصدعة خصوصا بعد حرب تيغراي، وتعثر مفاوضات سد النهضة.
يتحمّل الجيش السوداني كما أثيوبيا جزءاً من مسؤولية ما يحدث من توتر بين السودان وإثيوبيا، فجنرالات السودان يسعون للفت الانتباه وحشد الدعم لغرض خاص بهم، لكن وعي الشعب بطموحاتهم غير المشروعة سيحول دون اندلاع حرب شاملة بين السودان وإثيوبيا.
ولا يخفى أن المكون العسكري في السودان يعاني صعوبات إدارة الشراكة مع المكون المدني ويواجه حملات تخوين كبيرة، ومنذ سقوط البشير قد تكون هذه هي أول فرصة للمؤسسة العسكرية السودانية لتستعيد صورتها الوطنية التي تدحض ما يروّج له منتقدوها أنها لا توجه سلاحها إلا لصدور الداخل، لكن ذلك لا يبتعد كثيراً عن حقيقة تمكنها في السنوات الأخيرة من بناء جيش بمقدرات كبيرة من خلال تحالفات إقليمية مكنتها من تلقي دعم عسكري كبير وقد لا تميل لاستنزاف هذه المقدرات بمواجهة عسكرية شاملة قد يطول أمدها.
أخيراً… يبقى السؤال الآن هل المنظومة السياسية لكل طرف تبحث عن حرب خارجية تعيد لها التماسك الداخلي؟ وكيف لها ذلك مع اقتصاديات لا تسمح بهكذا مواجهة ولو كانت مواجهة محدودة، وما هو انعكاس ذلك على استقرار الأمن الداخلي في البلدين؟ وكل طرف قادر اليوم على دعم جماعات داخل عمق الآخر (إثيوبيا قد تشعل السودان والسودان قادر على إشعال إثيوبيا).
المؤكد أنّ التعويل الأهمّ في هذه اللحظات الحرجة للبلدين الجارين هو على الأدوار الإقليمية، فهذه الدول هل ستدفع الوضع إلى التهدئة والتسوية أم التصعيد لتحقيق (مصالح أبعد)؟