رعى البطريرك يوحنا العاشر بطريرك إنطاكية وسائر المشرق ممثلًا بالبطريرك سلوان موسى إطلاق ورشة دعت اليها حركة الشبيبة الارثوذكسية تتناول فكر كبير مؤسسيها وتأثيراته المحلية المطران جورج خضر ولمناسبة الذكرى المئوية لولادته.
عقد اللقاء في مقر جامعة الحكمة وبحضور مطران جبل لبنان سلوان موسى ممثلًا البطريرك يوحنا العاشر اليازجي ،متروبوليت بيروت للروم الارثوذكس المطران إلياس عودة ،متروبوليت الشمال المطران افرام كرياكوس وزير العدل هنري خوري ،وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وحشد من الفاعليات والشخصيات السياسية والروحية والاجتماعية والثقافية .
والقيت كلمات لكل من المتروبوليت سلوان موسى ،والوزير السابق رشيد درباس ،ووزير الثقافة الذي قال :” من جوار بوابة الحدادين في طرابلس العتيقة، إلى بوابات الروح المطلّةِ على مفرداتِ السماء، مِئةٌ من ضوءٍ وكلمات عاشَها المطران جورج خضر من أجل الكنيسة والحقِّ والإنسان، نورانيَّ البشارةِ، إنجيليَّ الخدمةِ، مستقيمَ الفكرِ والطويَّةِ والعزيمة، مؤكِّدًا في كلِّ ما قالَ وفعل أن ربَّه “اختارَه على وَفقِ قلبِه ليرعى شعبَه بمعرفةٍ وفهم”. (إرمياء3: 15)
أَهي قِصَّةُ عمرٍ نحتفلُ بها اليومَ إذن أم قصةُ حياة؟ ذلك أن العمرَ عدٌّ والحياةَ عديد، فكيف بمن ضمَّهما كليهما إلى واحدٍ فيه، منذ “مسرى طفولتِه” حتى اكتمالِ مئتِه، تجسيدًا لمعنى اسمِه الجامع: “جورج” القديسِ البطلِ قاهرِ التنين على شاطئ بيروت، بحسب الرواية المسيحية، و”الخِضرِ” الشخصيةِ نفسِها في الرواية الإسلامية؟ كأنَّما كُتِبَ لصاحب السيادة منذ ولادته أن يكون “أسقفَ التلاقي”، العابرَ من ذاتِه إليها… في الآخر، تمامًا كما كانت طفولتُه تعبرُ به أحياءَ المسلمين من حي النصارى وصولًا إلى مدرسة “الفرير” المجاورة أربعَ مراتٍ في اليوم.
ومن آياتِ كونِه أسقفَ التلاقي، أنْ:
لا هتافُ الصبية المسلمين في ساحة الدفتردار بالفيحاء: “جاء النصراني… جاء النصراني”، منعَه من أن ينتهى إلى تعليم الحضارة الإسلامية في الجامعة اللبنانية وفي معهد اللاهوت البلمندي.
ولا تَعَرُّفُهُ الأولُ بوجه يسوع في المؤسسات التعليمية الكاثوليكية حال بينه وبين تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية، أكثرِ النهضاتِ فعلًا وأوسعِها أثرًا في تاريخ أنطاكيةَ الحديث.
ولا إيمانُه المسيحيُّ الواعي حَجَزَهُ عن التماسِ حضورِ الناصريِّ ووالدته مريم في آياتِ القرآنِ الكريم وسُوَرِه، فكان ذلك بابَه إلى فهم حقيقةِ الإسلام، ووسيلته الى جعل العديد من المسلمين، ونحن منهم، يفهمون اسلامهم فهماً اوفى.
ولا بذلتُه الكهنوتيَّةُ عوَّقَتْه عن رؤية النورِ في عباءاتِ إخوته في الإنسانيةِ والوطنية: المفتي الشهيد حسن خالد، والشيخ الشهيد الدكتور صبحي الصالح، والإمام المغيب السيد موسى الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد أبو شقرا والمطران غريغوار حداد وأدونيس وسواهم من أهل الدين والسياسة والثقافة.
ولا رعايتُه الأسقفية ضيَّقَتْهُ على رعيّته، فكان واسعَ الرؤية والخطاب، يصدحُ في العظات: أنا رئيس الكنيسة الأرثوذكسية بهذه المنطقة… أقول لكم: أنتم المسيحيين برهنوا أنكم واحد مع الإسلام والدروز. هذا يتطلب أن تعيشوه، لا مجرَّدَ خطابٍ ديني، بل يوميًّا في الحياة الاجتماعية وفي علاقات العائلات، وفي الصداقةِ وفي المحبّات. إن لم تفعلوا هكذا لا أعترفُ بكم”.
هو أسقفُ التلاقي إذن، فكرًا ومنهجًا وخطابًا، مع رسوخٍ في الرأيِ المستقيم، صيَّر حياتَه كلَّها موعظةً حسنةً بأن المعرفة اللاهوتية إن لم يزيِّنْها عيشُ الإيمان لا تساوي في الخلاصِ شيئاً. ذلك أن الإنسانَ عنده كان موضعَ التلاقي وغايتَه، يقينًا منه بأن التنوُّعَ ليس سوى سبيلٍ إلى اكتناهِ الواحدِ في كلِّ شيء، وتلك نعمةُ الله تباركَ وتعالى، جاعلِ الإنسان على صورتِه ومثالِه، وخالقِه من أجلِ عِمارةِ الأرضِ حتى تصيرَ على شبه الملكوتِ الآتي.
وما مواقف صاحب المئوية من مجمل تفاصيل القضية اللبنانية، بتشعّباتِها الطائفية والحزبية، وامتداداتِها الداخلية والإقليمية والدولية، وارتداداتِها العسكرية خلال الحروب التي وقعت على أرضِ لبنان، إلا صرخةً في براري المسامع أن التلاقي فرضُ عين، وأن الانفصال مغامرةٌ لا تُعرَفُ عُقباها، (وهنا أقتبسُ منه) “لأن اعتزالَ المسيحيين قد يعرِّضُهم إلى خبرةٍ أصولية، ولأن عزلتَهم في محيط مسلم كامل، غالبًا ما تسلخهم عن المساعي العصرية الحضارية التي قاموا والمسلمينَ بها”. مؤكّدًا أن عبارةَ “لبنان وطن نهائيٌّ لأبنائه” قالها المسلمون أولًا، وتحديدًا سماحةُ الإمام المغيب السيد موسى الصدر. علمًا أنه في مواجهة خطر النزوح السوري صارت هذه العبارة على لسان الرئيس تمام سلام في مؤتمر القمة العربية في نواكشوط: “لبنان وطن نهائي لأبنائه، ولأبنائه فقط”.
وفي معنى التلاقي يقولُ المطران خضر بخصوص علاقات الطوائف المسيحية، بعضِها ببعض: “شعوري أن الأرثوذكسية هي مضمون المسيحية أعطاني خبرةً غريبةً، عظيمةً جدًّا، أنني لا أقدر أن أعيش بدون الكاثوليك، لأنهم إخوتي في المسيح، ولأننا جسدٌ واحدٌ في رؤيةِ المسيحِ لنا”. (انتهى الاقتباس). فانظروا كيف أن فكرةَ التلاقي تغلبُ عندهُ في جميع ميادين الحياة من أجل أن يكون لبنانُ فعلًا وطنَ الإنسان.
جورج خضر أسقفُ الجراح أيضًا، وأشدُّها نغرًا في قلبِه ومدادِه جرحُ فلسطين. قولتُه الراديكاليةُ في الكيان المغتصب، أنه “دولة حُبِل بها بالإثم ووُلِدت في الخطيئة” ما زال توالي الأيام يثبتُ صحتَها. ومن دون أن نعرِضَ لما ارتكبَه قتلةُ الأنبياءِ وبنوهم، من ممالك ِكنعان إلى ممالكِ أوروبا، يبقى أن المطران جورج وجَدَ وجهَ يسوع في جراح الفلسطينيين وتشردِهم ودموعِهم على عتبات المنافي فوق مفاتيح البيوت. جراحٌ وتشرّد ودموع ما برحت تتكرّر من دير ياسين إلى غزّة، ومن النهر إلى البحر، في جلجلةٍ لا تنتهي، فاليومُ في القتلِ صِنوُ البارحة، وبيلاطسُ دائمًا يغسلُ يديه، ويُسْلِمُ الطهر إلى السفَّاحين ليصلبوه. لكننا نحن أولادَ العزيمةِ والرجاء، سنبقى على إيمانٍ وثيق بأن فلسطينَ مستعادةٌ كلُّها عمّا قريب، وبأننا في غدٍ سندخلُ القدسَ حجيجًا من غير أن يختمَ على جوازات سفرِنا ضابطٌ إسرائيلي، كما أراد لنفسِه ولنا المطران خضر.
والسيدُ المطرانُ أخيرًا أسقف العربية. وأعني هنا اللغةَ لا الجغرافيا. فلا أحدَ سواه كما أظنُّ استحقَّ أن يقامَ على كرسيِّ اللغةِ مثلَما هو مقامٌ على أبرشيةٍ بعينِها، بحسب التنظيمِ الكنسي. مردُّ ذلك إلى أنه ينطقُ بالروح، ويكتبُ بضوءِ المحبة. لغتُه العميقةُ الغَورِ الضّاجَّةُ بالفصاحةِ، الزاخرةُ بكلِّ لؤلؤٍ ثمين، جعلت من المطران المثخَنِ بمشرقيتِه، أو بأنطاكيتِه، أو بعروبتِه، سمّوها ما شئتم، قمةً شاهقةً من سلسلة أولئك الأحبار العُلى الذين حفِظوا العربية وطوروها، وأجرَوْها في أرضِ الزمن الجديبِ سلسبيلَ ألسنةٍ وحروف، فدحضوا المقولةَ المعروفةَ: “أبَتِ العربيةُ أن تتنصَّر”، وهي أصلًا لم تتغرب عن النصرانية في جاهلية قومها، ثمَّ عادت فتنصَّرَت في نهضتَيْها العباسية والحديثة، نظرًا لما أسدى لها المسيحيون من خدماتٍ تضارع ما قدم المسلمون في النهضتين وبعدهما. ولعلَّ التراثَ الضخمَ الذي خلفه صاحبُ المئوية، في المقالات والعظات والمحاضرات والندوات، والتعليم الجامعي والكتب والمؤلفات على اختلافِها، جديرٌ بأن يكون له محلٌّ خاصٌّ في المكتبة الوطنية، في قاعة تحمل اسم المطران جورج خضر؛ وهذا ما كنت اقترحتُه على صاحب السيادة المطران سلوان موسي منذ مدة من الزمن.
صاحبُ المئوية الأسقفُ السيّد الواحدُ المثلثُ الأبعاد، من التلاقي إلى الجراح فاللغة، على صورةِ إيمانِه بالواحد المثلث الأقانيم، ما برح على سُدَّةِ العمرِ صاعدًا إلى فوق، إلى مُتَجَلَّى النور الذي انسكبَ عليه منذ يفاعتُه. كان ضوءًا على الكنيسة والشبيبةِ ولبنان، وعلى هذا الإرث المشرقيِّ المتضوِّعِ ِكأرزِ المكمِلِ وياسمينِ دمشق وعَرارِ نجدٍ ونخيل بغداد… وبرتقالِ يافا وزيتون بيت المقدِس، وصولًا إلى بخور روسيا وروما وعطور باريس. وهو في هذا كلِّه الإنسانُ المؤمنُ بابنِ الإنسان، والمردِّدُ في صمتِه كلَّ صباح، أنَّ ألفَ سنةٍ في عينِك يا ربُّ مثلُ أمسِ الذي عبر… فإلى سنين عديدةٍ يا سيد… عديدةٍ بمقدارِ ما نستحقُّ نحنُ فيك.