ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان خطبة في مكتبه في دار الافتاء الجعفري، لمناسبة رأس السنة الهجرية لهذا العام، قال فيها: “لانَّ روحَ الفضيلةِ السماوية تهبطُ من عالي الأفق المكوَّرِ بملكوت الله، ولأنّ الذاتَ البشرية مفطورةٌ على حبّ النفوس العظيمة، التي تتفانى بجنب قضايا الإنسان وأنّاتِ آماله وأوجاعِ أحلامه، ولأنّ الإمام الحسين نُسخةٌ ربّانية وذاتٌ عظيمة، بالجوهر والدور ومجامع القلب المحمدي، لذا قال الله تعالى فيه وفي أهل بيته: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وشعائرُ الله أعلامُ دينِه، وأدلةُ مشيئتهِ بخلقه، وقد دلَّ اللهُ على شعيرته بنحرٍ تهيَّبته السماوات، ووجهٍ تنسَّكته الأرض، وقيامةِ حقٍ احتضتنها جنةُ كربلاء. وهو الذي سمّاهُ النبي الأعظم بالآية المذخورة والكلمةِ المجموعة بمواثيق الربّ، وقد أذِنَ اللهُ لوريده إغاثةَ الخلقِ والكلمة، فسمّاه الحسين، ثمّ رفع فوق عِمادة المواثيق العظمى قولَ نبيّه المتواتر بالخلائق: “حسينٌ مني وأنا من حسين أحبَّ اللهُ من أحب حسيناً”.
وتابع: “لقد طافَ الحسينُ كعبةَ سواقي الأنبياء، ثم جمع بها دمَه، ليروي هذه الأرضَ العطشى ماءَ وريدهم، وكانت عينه على الإنسان، كعنوانٍ مركزي للحدث الإلهي من تاريخ الأرض، ولذا لم يترك مقاماً إلا وحذّر فيه من اغتيال هوية الإنسان، وجوهر حقيقته، لأن حقيقة الانسان تبدأ بسرّ الله وإليه تعود. ولأنّ الحقَّ ابنُ الحقيقة، فقد قدّم الامام الحسين نفسَه وعيالَه وأصحابه قرابينَ فوق طريق الأبدية، ليكون الانسانُ إنساناً بالله، لا عبداً للقوى المجنونة الجبّارة، ولا للسلطات الفاسدة، أو الأسواق الفاسدة، أو الكارتيلات المجرمة. وتحت هذا العنوان ذكَّر الامامُ الحسين يومَ عاشوراء الخليقةَ بيومها الأول من عالم النور، حين شافهت الأرواحُ ربَّها، وتألقت بين أبراج آياته، وعانقت حقائقَ ملكوتِه، وسرحت طويلاً قبل أن تلبِس جسدها الثقيل وترابَها الخانق وتهبط الى الأرض. وبسياق هدم الظلم، أصرّ الامام الحسين على ضرورة هدم الأوثان الفكرية وهياكلها، بما في ذلك وثن الأنا والرغبة ونزعة السلطة ونَزَق الثروة وشهوةُ العائلة والكيانات الضيقة التي تضع السيفَ بجوهر الانسان السماوي، وبسياق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} أكّد أن تعدد الأديان والعقول لا يمنع من رحمة الله الواسعة التي يجب أن تتكرّسَ وفقَ قواعد تلاقي وتواصل تضمن واجبَ المحبة والتعاون وقبول الآخر والاحترام بين الأمم والخلائق. وكان للإمام الحسين مع المسيحية مواقف طويلة، وهو الذي عانق روح المسيح، ودلّ على جوهر كلمته بجوهر كلمة جدّه المصطفى محمد، ثمّ سقى الكلمتين دمَ وريدِه لتحيا كلمةُ الله. وفي ذلك اليوم الذي فُجعت به السماوات والأرض خاطب الامام الحسين من كان ومن يكون الى يوم القيامة، مشيراً أن من يتشيّع للحسين وأبيه وأمه وأخيه وجده لا يغتاله جهل، ولا تتصيّده نقمة، ولا يقتله حقد، ولا تبتلعه غريزة، ولا يستريح عن طلب القيامة، ولا ينحرف عن جادة الحقيقة، ولا يسكت عن طغيان، ولا يخلعنّ حقاً، ولا يستبدُ بهواه، ولا ينكل، ولا يترك ساحات القتال الفكري والسياسي والعسكري، لأنّ الانسانَ إنما يعيش بالكلمة العظمى وعليها يموت”.
وتابع: “بهذا السياق أكّد الامام الحسين أن المتشيّع له يعيش بوعي الحقيقة، ويتنفّس عناء الخلق وقضايا المعذّبين، ووصفَ شيعته بخَدَمة الخلق وحملة هموم الناس وكهفِ ملاذهم وضمانة العدل والانصاف وأهل الوعي والتضحية الذين لا يتركون ميادين رفع مظلومية الإنسان، وهو ما نحتاجه اليوم بشدة، لأننا أمام طغيانٍ أمريكي عالمي يعتاش على الدماء وعلى الخراب، وعلى استعباد الشعوب، وسط إرهابٍ صهيوني يمارس جنونَ طغيانه على الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء، وما يجري الآن في قطاع غزة وجبهة لبنان وباب المندب هي حربٌ تاريخيةٌ بين الحقّ والباطل، والحقُّ حسين ومن ينتمي لقيم الامام الحسين، والباطل أمريكا وإسرائيل ومن ينتمي لهذا الطغيان الشيطاني في الأرض. واليوم الحربُ تطال بنية الميزان الإقليمي، وتضربُ صميمَ أعمدة نظام القوة في الشرق الأوسط، وإسرائيلُ في هذه الحرب مكشوفة وعاجزة ولا تملك مفاتيح الانتصار، وهي بحقيقة الحال قوةٌ تعيش على المصل الأميركي الأطلسي، وسط عالمٍ متغيّر وقوة أمريكية عاجزة عن مواجهة صواريخ صنعاء. وإسرائيل اليوم وإمكاناتُ بقائها أصبحت ضعيفة، وطبيعة التوازنات في المنطقة تتسارع نحو حرب النهاية، وسيرى العالم بأمّ العين هزيمة إسرائيل التاريخية، وهذه اللحظة التاريخية ليست بعيدة، ولندخلنّ المسجد الأقصى ونتبّرُ ما علوا تتبيراً. وكموقفٍ للتاريخ أقول: مقاومة لبنان تملك من الإمكانات القتالية والخطط الصادمة ما تدخل معه الى قلب فلسطين المحتلة مع أي حرب مفتوحة، وأيّ خطأ إسرائيلي في هذا المجال سيكشف إسرائيل عن دمارٍ لا سابق له. وكلّ التحية والمجد للمقاومة في غزة ولبنان والعراق وسوريا واليمن العظيم، ومركز محور المقاومة الحرّ طهران، وكل التحية للشعب اللبناني المساند وللقوى السياسية والشعبية والإعلامية والثقافية والمالية والدينية الشريكة في أهم قتال أخلاقي وسيادي على الإطلاق، والقضية قضية مصالح سيادية إقليمية، ولن نتخلى عن مصالح لبنان الاستراتيجية”.
وقال: “أما على مستوى الداخلي اللبناني أقول للإخوة المسيحيين الأحبة: نحن عائلةٌ لبنانية خبزُها محبةُ المسيح ورحمةُ محمد، والكنيسةُ جارة المسجد، ووهب المسيحي عنوانُ المثال التاريخي للفداء الممزوج بدماء الامام الحسين، ولن نفرّط بالمسيحية وثقلِ وجودها وشراكة العمر التاريخية بيننا، قناعتُنا أن لبنان لا يقوم إلا بالمسلم والمسيحي، والتراث الديني والأخلاقي أكبر ثروةٍ للتلاقي الإسلامي المسيحي، وصلاةُ المسيح ومحمد عنوانُ قداستِنا، والقنديل الممسوك بيد السيدة الزهراء والسيدة مريم صراطُ طريقنا، وكذا شراكتنا الوطنية، ولذا كرّسنا القيمة الوطنية للعائلة اللبنانية، وقلنا لا بدّ من تسوية رئاسية تعكس شراكَتَنا التوافقية، بعيداً عن منطق “غالب ومغلوب”، “وأكثرية وأقلية”، لأن هذا البلد يعيش بالمحبة والإلفة لا بالغَلَبة والاستئثار، والحذر الحذر من كمائن واشنطن وأبواق فتنتها التي تتربّص بالسياسة والمال والإعلام ومراكز النفوذ في هذا البلد، وتاريخ واشنطن في هذا البلد مرّ وعلقم، وأصابع نيرانها بالحرب الأهلية وما تلاها واضحة للعيان، والأمل معقودٌ على تطهير ما أمكن في هذا البلد من نفوذ واشنطن، وما نريده الآن تسوية رئاسية بحجم عائلتنا اللبنانية فقط، ومجلس النواب يمثّل كل القوى السياسية، والرئيس نبيه بري في هذا المجال فرصة تاريخية في التسويات، فهو الشخصية القادرة على ابتكار حلولٍ بحجم مصالح العائلة اللبنانية، وما يطلبه الثنائي الوطني في هذا المجال عينُ المصلحة الوطنية، وكما تمرّ المصلحة الوطنية بالثنائي الوطني أيضاً تمرّ بباقي القوى اللبنانية، بل يجب أخذ التضحيات السيادية التاريخية للثنائي المقاوم بعين الاعتبار لأنه القوة الوطنية التي ما زالت تقود عقوداً من المقاومة والتضحيات التي هزمت إسرائيل واستردت البلد، ودون أن ننتقص من تضحيات الآخرين، ولا يمكن فصل المصالح الوطنية السيادية عن المصالح السياسية السيادية، وحماية القرار السياسي من حماية السيادة الوطنية، لأن العالم غابة تعيش على القوة لا على المبادئ، والحل هنا وليس في الخارج، وتنسيق الجهود وعدم حرق الجسور والجلوس معاً والانتهاء من تسوية رئاسية بحجم مصالح العائلة اللبنانية ضرورة وطنية كبرى، والمواقف الانتقامية عديمة الفائدة، والخلافات الطائفية تزيد من الحريق الوطني، ولا سيادة وطنية بلا ماء وغذاء وطبابة ونفط وكرامة وطنية وأخلاقية”.
وختم قبلان: “أخيراً، الشراكة الوطنية ليست صفقة زِواج، والبلد ليس للبيع، والحياد بالمصالح السيادية تضييع للبنان، والمسجد والكنيسة أكبر ضمانات استقرار لبنان ووجوده. عظّم الله أجوركم.. وكل عام ولبنان وأنتم بخير”.