أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مسجد الإمام الصادق– شاتيلا بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها: “قال أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولديه الإمامين الحسن والحسين (ع): ” أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ، وأَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلاَ تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وَقُولاَ بِالْحَقِّ، وَاعْمَلاَ لِلْأجْرِ، وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً“.
وهذه الوصية في الواقع ليست خاصة بالحسن والحسين (ع)، وإنما أراد سلام الله عليه من خلالهما توجيه الخطاب للمسلمين عامة لبيان القواعد والأطر والمعايير الاسلامية للأمور التي تحكم سلوكهم في الحياة، وانها قائمة على رؤية للكون والحياة والقيم الإنسانية والأخلاقية، وأن وظيفة الدين ليست محصورة بالأمور العبادية وكيفية تأدية المسلم لفرائضه العبادية الخاصة من الصلاة والصوم وغيرها من العبادات، وأنّ العلاقة مع الله هي مجرد علاقة طقوسية تنتهي بأدائها بحدودها الشكلية الضيّقة منفصلة عن سائر النشاطات التي تتصل بحركة الحياة، وأن تنظيمها وظيفة بشرية صرفة تتطور وفق تطور حاجاتها تبعاً لتطور المجتمعات البشرية وتجاربها، فهي ليست ثابتة ولا جامدة وإنما متحركة ومتحوّلة، وبالتالي تنتج وبشكل مستمر مشاكلها الجديدة التي تستدعي إيجاد حلول جديدة لها تتناسب معها، بل على العكس من ذلك إذ لا يمكن الفصل بينها فهي تقوم على رؤية متكاملة وأننا حين نفصل بينها نفقد الغاية منها، فهي في ذاتها نظرة خاطئة من الناحية المنطقية، وثانياً: إن تحقيق ما تتطلع اليه الانسانية من الاستقرار والامن والسلام النفسي والاجتماعي يصبح مستحيلاً وليس بعيد المنال فقط”.
اضاف: “والواقع أن هذا الاتجاه في الفهم والمنطق من (تحييد الله) جرى اللجوء إليه كردة فعل للتخلّص من الممارسة الخاطئة للدين في الغرب، فهو من ناحية يريد التحرّر من سلطة الكنيسة ومن ناحية أخرى لا يريد استفزاز المؤمنين ثانياً، وثالثاً: يريد استجلابهم الى صفه في مواجهة الكنيسة فهو ليس قائماً على أساس منطقي أيديولوجي، وإنما على تفكير مصلحي توفيقي إقتضته هزيمة السلطة الدينية للكنيسة والهروب من تجربة الجدل العقائدي الذي أنتج حروباً دينية دفعت فيها الشعوب الأوروبية أثماناً باهظة وحروباً أهلية.
وكان العجز عن الخروج من هذه الدوامة أحد أهم الاسباب التي دعت الى هذا الاتجاه بحصر العلاقة مع الله في الكنيسة مُبرّرين له بمقولة منسوبة للسيد المسيح (ع) ذكرت في إنجيل مرقس، ونصّها: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ» والتي لم تكن نتائجه السلبية على المجتمع الغربي بأقل مما حاولت التخلّص منه حيث تجذَّر معه الاتجاه المادي وانتهى إلى القضاء على القيم الانسانية والدينية، ولم يقف الامر على حدود الممارسة الكنسية الخاطئة للدين كما لم تقتصر نتائجه الكارثية هذه عند الشعوب الغربية بل تعدتها الى العالم، لأن طغيان الفهم المادي في الغرب وما أنتجه من نظريات فلسفية عزَّزت الاتجاه نحو الصراع بين الحضارات والاندفاع نحو التوسّع والسيطرة، مما خلق حالة من عدم الاستقرار واختلال في موازين القوى الدولية وافتقار للعدالة والأمن والسلام الدوليين”.
وتابع: “إذاً فالاتجاه المُتبنى اتخذ جانباً متطرفاً في معالجته الامراض التي اُبتُليَ بها المجتمع الغربي، فلم يفشل فقط في تحقيق هذا الهدف وإنما عَمَّقَ المشكلة وإن كانت من نوع آخر، فكان دوره دور المُسكّن للألم دون أن يُعالج المرض الذي أفسح المجال لانتشاره في الجسد وجعل الشفاء منه صعباً إن لم يكن مستحيلاً وخارجاً عن القدرة، وثالثاً: إن أضراره لم تعد محصورة في المجتمع الغربي بل تعداه إلى العالم كله كما ذكرنا بفعل الفلسفات المادية التي دفعته نحو تأجيج الصراع الدولي من أجل السيطرة وأضحى العالم كله ضحية له.“
واكد الشيخ الخطيب “انّ العدالة والحق وسائر المفاهيم والقيم المعنوية ليس لها معنى ولا محلَّ إذا لم يظلله الإيمان بالله تعالى، ولذلك فإنّ الذين أنكروا الالوهية أو الذين فصلوا ما بين الإيمان وبين النظام الاجتماعي اضطروا إلى الاستعاضة عنها واستبدالها بما عَبَّروا عنها بالقيم الانسانية إرضاءً للشعور الفطري البشري العام، فكان اللجوء إليها للتمويه والتضليل لتحقيق غاياتهم ومصالحهم إذ لم يُحقّقوا منها شيئاً على أرض الواقع وإنما كانت الممارسة على النقيض من هذه الإدعاءات.
وكان سبب هذا التطرّف في التفكير هو الخلط بين الممارسة للدين الذي هو فعل بشري وبين الدين، وتقييم الدين من خلال الممارسة والتطبيق وهذا خطأ منهجي فادح، فالدين إلهي المنشأ غير قابل للخطأ، والممارسة فعل إنساني يُخطئ ويُصيب، وبالتالي لا يمكن الحكم على الدين من خلال الممارسة وهذا الخطأ المنهجي للحكم بالصواب والخطأ تعدى العالم الغربي إلى العالم الإسلامي لكن هذا التعدى كان بحكم الهيمنة الغربية، فهي ثقافة المستعمر الذي أراد تعميم خطئه في نظرته للدين إلى بلادنا بقصد تعميم هذه الثقافة الذي حمَّل تخلّف العالم الإسلامي بفعل السياسات المتبعة للاسلام، على أن تعميم الثقافة الغربية لبلاد العرب والمسلمين لم يكن بقصد الاصلاح والتطوير وإنما بقصد الإلحاق والتبعية والهيمنة والسيطرة على هذه المنطقة حيث يفتقر الى ما فيها من ثروات وإلى الموقع الاستراتيجي الذي يتحكّم بالممرات وبقصد الإنتقام من الماضي حيث ألحقَ المسلمون به الهزائم المنكرة في عقر داره”.
وقال: “على أن واقع الحال في المنطقة العربية والإسلامية وإن اُبتليت بما ابتليت به الشعوب الغربية من ظلم ارتكبته الانظمة المتعاقبة في عصور متمادية اتخذت الإسلام غطاءً وستاراً لها، غير أن الحروب أُريد لها أن تتخذ طابعاً مذهبياً سنيّاً شيعياً، كان الجميع ضحيةً لها افتعلها النظام واستطاع لأسباب مختلفة أن يعمّي فيها على المسلمين حقيقة الامر، فالمسلمون الشيعة لم يَحدُث أن اتخذوا الاختلاف المذهبي سبباً للخلاف، فهم في الاجتماع السياسي يرون وحدة الأمة وأنهم جزء لا يتجزأ منها ولا يحملون مشروعاً سياسياً خاصاً بهم، ولكن معارضتهم كانت للنظام السياسي وجعله نظاما وراثياً وعدم تطبيقه للعدالة الاجتماعية والممارسات الخاطئة والظلم الذي مارسه بحق الناس، فالمسلمون الشيعة هم في الموضوع الاجتماعي السياسي يتعاطون كمسلمين ولم يكن للعامل المذهبي أي تأثير فيه، ولذلك لم يعتبروا أنفسهم غير معنيين بقضايا المسلمين الذين لا ينتمون لهم مذهبياً، وإنما كانوا على الدوام يعتبرونها قضيّتهم ويبذلون الدماء في سبيلها أسوة بسائر إخوانهم من المسلمين الآخرين والامثلة كثيرة من التاريخ سواءً في الحروب الصليبية حيث تجنّدوا تحت قيادة الايوبيين وكانوا شركاء في تحرير القدس، وكذلك في الزمن المعاصر في ما خصَّ القضية الفلسطينية فآووا ونصروا وتحمَّلوا في سبيلها ما لم يتحمّله أحد من العدو الصهيوني ودفعوا أثماناً غالية من التآمر عليهم داخلياً وخارجياً، وهم اليوم على نفس الطريق حيث يقفون إلى جانب إخوانهم في حرب غزة لا يعتبرون ذلك مِنّة وإنما تأدية لواجب الأخوة الاسلامية والعربية والانسانية، ولا نريد أن نتحدث عن الاثمان الباهظة التي دُفعت سابقاً ولاحقاً، وما زالت مع حرب تشويهٍ وتلفيقٍ إعلاميةٍ داخليةٍ وخارجية مدفوعة الثمن ومن الاقربين للأسف الشديد.“
وتابع: “ومع اتضاح حقيقة العدو الصهيوني الهمجية والوحشية وأطماعه في أرضنا ومياهنا ومع التهديدات التي يُطلقها قادته السياسيين والعسكريين بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، أليس ذلك كافياً لأن يدعونا للوقوف صفاً واحداً حمايةً لبلدنا وشعبنا من هذا الوحش الكاسر، وأن نقف خلف مقاومتنا التي تقف بكل جرأةٍ وصلابةٍ تدافع عن لبنان وتحمي شعبه من هذا الوحش الفاجر، فاغِراً فاهُ تعطشاً للدماء.
أليس هذا كافياً للقيام بالمسؤولية الوطنية لنجلس على طاولة الحوار لانتخاب رئيس للجمهورية للابقاء على لبنان ليتمكَّن من مواجهة تبعات العدوان الاسرائيلي ولتعليق ما نختلف عليه موقتاً حمايةً لبلدنا”.
واكد انه “مهما كانت الخلافات بيننا فنحن مجبرون على العيش معاً، وأن نتعاطى مع بعضنا بروح الوحدة والاخوّة، فليس أحد منا بغنى عن أخيه في الوطن مهما بلغ الاختلاف في وجهات النظر، ولا يصحّ على الإطلاق ونحن ندفع الشهداء ودماؤهم ما زالت طرية بل ما زالوا يرتقون على مذبح الوطن إلا أن نُحيّي أرواحهم ونبلهم ونُقدّر لهم عطاءاتهم”.
وقال: “ونحن نتحدث عن الشهداء في مواجهة العدوان والغدر والوحشية وعدم الوفاء نتذكّر سيّد الشهداء (ع) مُلهِم هذه المدرسة مدرسة الشهادة والإباء الذي أورثنا (هيهات منا الذلة)، (يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ) وأننا على مقربة من شهر محرم وواقعة كربلاء فلنؤد لهذه المناسبة حقّها، وأن نكون على مستوى الرسالة التي حملناها بأن نحقق أهدافها التي هي رسالة الاصلاح للأمة والمحبة والتضحية”.
وختم: “رسالتي إلى إخوتي قرّاء العزاء والذين يؤدون هذه المهمة أن يعطوها حقّها من الدعوة إلى الوحدة والصلاح وعدم الفرقة والتشتت وإثارة ما يوجب الوقوع في الفتنة لا سمح الله، لأن هذا هو مضمون شهادته (ع) والحثّ على الوقوف معاً دعماً للمقاومة والدعاء للمجاهدين بالنصر العاجل، والحثّ على دعم إخواننا الذين اضطرهم العدو للنزوح عن ديارهم وأرضهم بشتى السبل. أسأل الله العظيم أن يحفظكم جميعاً وأن يُثبّتنا على ولاية أهل البيت (ع)، وأن يرزقنا شفاعة الحسين وأمه وأبيه وأخيه والتسعة المعصومين من ذريّته وبنيه، وأن يُعجّل الفرج لقائم آل محمد (ع)”.