ألقى بطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر كلمة في اليوبيل الماسي لمدرسة الكلية الوطنية في اللاذقية جاء فيها: “منذ خمسةٍ وسبعين عاماً شاءت اللاذقية أن تكون لها منارةٌ للعلم فكانت هذه الدار. ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا وهذا الصرح يشعُّ على الجميع حاملاً إرث كنيسة أنطاكية وتراث الروم الأرثوذكس الروحي والتعليمي والحضاري في تبنّي العلم والمعرفة سبيلاً للنهوض بالمجتمع بكل مكوناته وألوانه الطائفية وذلك عبر التركيز دائماً على العملية التربوية وعلى دور المدرسة في تشذيب شخصية الإنسان وبنائها لا بتقديم المعرفة والعلم فحسب”.
أضاف: “في سالف الأيام، كانت وزارة التربية الحالية تسمى وزارة المعارف أو دائرة المعارف. ومن الملاحظ أن تغيير الاسم يحمل في طياته رسالةً، ورسالةً جوهريةً وهامةً وهي أن تقديم المعرفة والعلم شيءٌ هامٌّ. لكن الأهم والأسمى والأكمل هو تقديم هذا العلم وهذه المعرفة ضمن عمليةٍ تربويةٍ هدفها الأول والأخير بناء الإنسان وتربيته على القيم الأسمى وعدم الاكتفاء بالمعارف النظرية بل توسّلُ هذه للوصول إلى تلك. وبناء الإنسان هو اللبنة الأولى لبناء المجتمع والوطن”.
تابع:”في الزمن الفصحي نادت المجدلية مخلصها وقالت: رابوني أي يا معلم. والمسيح له المجد أراد الرسلَ تلاميذ. وهذا أمرٌ في بالغ الأهمية وهو التلمذة. هي قوام التعليم. والتلمذة هي التي تبني جيل المستقبل وهي التي تضع المعلم أمام عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه وتضع التلميذ أمام حقيقة أنَّ من لا يستطيع أن يكون تلميذاً يستحيل عليه أن يكون معلماً. أصبحنا في زمنٍ كثرَ فيه التعليم وقلت فيه التلمذة. أصبحنا في زمنٍ تُمتطى فيه الحرية المقدسة لضرب أسس الحياة كلها. أصبحنا في زمنٍ تُضرب فيه المؤسسة التعليمية بما يسمي زيفاً “الذكاء الاصطناعي”. وهو الأبعد عن الذكاء والأقرب إلى “التخدير المبرمج للعقل” والاتكال على ذكاء مزيف والاكتفاء به. أصبحنا في زمنٍ فقد فيه الشعر وفقدت فيه العلوم الأدبية قيمتها. أصبحنا في زمنٍ تُضربُ فيه العائلة في أساسها وتُنسف فيه القيم والبديهيات تحت ستار الحرية المتسترة بالرغبة والشهوة. ومن هنا تنبع ضرورة سهرِنا على قيمٍ ومبادئَ من حقنا لا بل من واجبنا ككنيسة وكمجتمع وكمدرسة أن نسهر على غرسها في أبنائنا. قيمٍ نتقاسمها مع سائر الأديان ونتقاسمها مع الفطرة الإنسانية التي زرعها الله في كل منا. نقول هذا، لنضع نصب أعيننا عظم المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسة التعليمية عمومًا. فكيف إذا كانت هذه المؤسسة تستقي تعليمها من إنجيل المسيح”.
وقال:”من خبرة كنيسة أنطاكية مع التعليم، يحلو لنا أن نطل اليوم في عيد الكلية الخامس والسبعين. نطل لنقول إن كنيسة أنطاكية استشعرت منذ البدء أهمية العملية التربوية التعليمية فأسست مدارسها التي استظلت بالأديار والكنائس. تقول أبيات إحدى المسرحيات التي استضافتها مدرسة دير مار جرجس الحميراء التي افتتحت لفترة وجيزة بعد الحرب العالمية الأولى ولعلها للياس عبيد: فقراء لا دراهمَ عندنا أغنياءُ بالمبادي والضمير هذا رأسمالنا، نحن الروم الأرثوذكس. وهذا ما يلخص دور كنيسة أنطاكية وجهدها في تلك الأزمنة التي بحثت فيها عن العلم بالسراج وبالقنديل. لقد تحسست كنيسة أنطاكية أهمية التعليم فكانت آسية دمشق وغسانية حمص وغيرها من المطرانيات. وكانت مدرسة البلمند وكانت مدرسة مار جرجس الحميراء في عشرينيات القرن الماضي. وكانت أيضاً المدارس الموسكوبية على عهد روسيا القيصرية. كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على إرادةٍ مستميتةٍ للاغتذاء بالحرف يوم كان الاغتذاء بالطعام تحدياً”.
وقال:”بوركت جهودكم أيها الإخوة القائمون على هذه الكلية وبورك هذا الصرح منارةً نريدها دائماً أن تبقى مشتعلة، مستنيرةً ومنيرةً، مستنيرةً من تعليم إنجيلنا ومنيرةً من هذا التعليم كل نفسٍ تائقةٍ إلى العلم. رحم الله كل من سبق من رعاة هذه الأبرشية الذين أرادوا أن تبقى الكلية منارةَ هذه الطائفة المشعة على النسيج اللاذقي كله. رحم الله كل من علم في هذا الصرح وكل من درس فيه. بوركت جهودكم صاحب السيادة المطران أثناسيوس وبوركت جهود المشرفين على هذا الصرح وأخص بالذكر نائب الصاحب الأستاذ الياس فياض مدير الثانوية وسائر الكادر التعليمي والإداري مع جميع العاملين فيها”.
ختم:” بارك الله طلابنا الأعزاء وأجزل عليهم من عطاياه السماوية ليكونوا مستنيرين قلباً وعقلاً بنور سَناه له المجد إلى الأبد، آمين”.