ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان خطبة العيد من على منبر مسجد الإمام الحسين في برج البراجنة بعد تأدية صلاة العيد، قال فيها: “”الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ولا إله إلا الله والله أكبر. كل عام وأنتم بخير، والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيراً. أما بعد، ها نحن بصبيحة يوم الله وعيده، بعد شهر من ضيافة الله سبحانه، واعلموا أن الخير والبركة الإلهية مخصوص بالمتقين الصائمين المصلّين، المواظبين على النزاهة والاستقامة والسخاء في جنب الله ومصالح خلقه وبلاده، سيما سخاء الدم الذي يطوّق هذا البلد بأعظم أحزمة السيادة والاستقلال. والحقيقة التي لا بدّ منها أننا لسنا ممن قال لله تعالى: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ} وذلك بسياق اختبارهم لجدّية الربّ وحقيقة النبوة، لأن حالنا وحال هذا البلد مِن محنةِ مَن قال لنبيّه (ع): {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} بخلفية سطوة ظالم جبّار، كان يهدّد أمنهم وبلادهم تماماً كما هي حال واشنطن والأطلسي والصهاينة من واقع هذه المنطقة، التي عاشوا على غزوها ونهب خيراتها، فانتهى الأمر بعد الاختبار بأكثرية نَكَلَت وقلةٍ قليلة تحمّلت وضحّت من أجل بلدها وناسها. وكانت هذه الفئة القليلة كافيةً لإنزال أسوأ هزيمة بعدو الله وعدو الإنسان والأوطان، وهم الذين قال الله فيهم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}”.
وتابع: “اللافت أن هذه الفئة لم تستأثر ولم تحتكر، بل وظّفت كل تضحياتها وإمكاناتها في سبيل بلدها وناسها ودون مِنّة، وخلاصة الآية تقول لنا: عليكم بهذه الصنف الحرّ من الناس، لأنه ضمانة بلدكم وشرفكم وكرامتكم، وهذه هي قصّتنا في هذا البلد وجنوبه، الذي تحمّل أهلُه المذابح الصهيونية وموجات الإرهاب الإسرائيلي منذ العام 1948، ولم يتحمّل عنهم غيرُهم حتى الدولة اللبنانية، ولم يكن في ذلك الوقت حركة أمل ولا حزب الله، ومنذ ذلك الوقت عانى جنوب لبنان وأهلُه من غزوات الإبادة الصهيونية دون رادع، إلا من قِلّة قدّمت نفسها في سبيل هذا البلد وأهله، وللإمام السيد موسى الصدر في هذا المجال صرخةٌ مدوية وتاريخ مفصلي. ومع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 تحوّل الأمر الى كارثة وطنية شاملة، ومعه طارت الدولة ومؤسساتُها ورغم ذلك لم ينهض لبنان بكلّه إلا قليل، وهنا بالذات، لعبت الفئوية والطائفية أسوأ أدوارها، وبدا لبنان لبعض أهلِه وسط بلد ينهشه الاحتلال وتطحنه مذابحٌ من نسخة مذابح صبرا وشاتيلا وشرق صيدا والجبل وغيرها، ولم نتخلّص من الاحتلال الصهيوني إلا بعد تضحيات لا سابق لها، وقد شكّل الثنائي المقاوم فيها عامود المقاومة وبحر قرابينها، حتى تمّ دحر الجيش الصهيوني في العام 2000، كلّ ذلك بعيداً عن وكر مجلس الأمن، وكذبة العدالة الأممية، وقد تخلّى العربُ وغيرهم عن لبنان إلا قلةٌ بادرت لدعم المقاومة وتأسيسها”.
واضاف: “اليوم البلد والمنطقة في مخاض أخطر من الماضي وسط مشروع أميركي يعمل على صهينة المنطقة عبر التطبيع، وضرب ميزان الدول وإمكاناتها للإجهاز على المنطقة كلها، ولبنان ضمن هذا المشروع الخطير بقلب العاصفة، وأي خطأ بالتقديرات سينتهي بالبلد كمستعمرة صهيونية، وهذا ما لا يريد البعض أن يفهمه، وهذا ما لا يمكننا التنازل عنه، لأن القضية قضية بلد وإنسان، وعقيدة وطنية وأخلاقية، لا يمكن تجاوزها على الإطلاق. ولأن البعض مصرٌّ على قراءة لبنان بعين 1920 أقول: دعونا من قصة مجد لبنان ومقولة التأسيس التاريخية، لأن تأسيس لبنان وكيانات المنطقة تمّ وفقاً لخرائط المصالح الفرنسية والبريطانية الاستعمارية، ومع ذلك لسنا ممن ينكر جهود البطريرك حويّك من جهة، سوى أن تأسيس لبنان والدولة صبَّ لصالح فئة أخذت ولم تُعطِ، وشاركت بالغُنم ولم تشارك بالغُرم إلا قليل، وحتى اليوم يعاني لبنان وأهلُه من الظلم السياسي والأساس الفئوي والإرث الطائفي، الذي حوّل الدولة والبلد الى “علبة سردين”، وطيَّر القيمة الحقوقية للوطن والمواطن، ورغم ذلك سكتنا لأهمية الشراكة الوطنية وسط عالم يتصيّد بالخصومة والخلافات، إلا أن التنكّر لمن استعاد لبنان وما زال يقود جهود التضحيات السيادية أمرٌ غير مقبول أبداً. والتهديد بالكانتونات ومنع أيِّ حلول سياسية وسيادية، والإصرار على مربعات طائفية ذات صلاحيات مالية وإدارية واسعة أمرٌ خطير، لأنه النسخةُ الناعمة للتقسيم، ولبنان كالذرّة إذا انقسم انفجر. وللتذكير والعبرة أقول: البلد لولا انتفاضة 6 شباط لم يبقَ منه إلا مستعمرة صهيونية، وتاريخ 6 شباط ولادة وجودية للبنان، ولذلك، ولمن يهمه الأمر، أقول: البلد شراكة ميثاقية، وموضوع رئاسة الجمهورية يمرّ بهذه الميثاقية التكوينية، ونبيه بري اليوم أكبر ضرورة دستورية وسيادية، وهو يقوم بأهم وظيفة وطنية فضلاً عن منعه البعض من أن يأخذ لبنان نحو فتنة لا سابق لها على الإطلاق.”.
وقال: “كموقف ثابت حذار الشحن الطائفي فإنه ألدُّ أعداء لبنان، وأخذ البلد نحو فتنة شوارع وطوائف وإدبارة اتهامات وحقد أمرٌ دونه كوارث، ولا بد هنا من أن نشكر الجيش اللبناني لأنه حمى البلد من فتنة كاد البعض يُشعل نارَها، ومع ذلك الوقت ينفد والبلد ما زال مصلوباً على خشبة القطيعة السياسية التي يمارسها البعض على قاعدة “إما نحن أو الخراب”. ولذلك نحن لن نقبل بأي تسوية رئاسية تتعارض مع الملحمة الوطنية التي تقودها المقاومة على الجبهة الجنوبية، وأي خطأ في هذا المجال سيضع البلد في قعر القعر، لأن خرائط البعض خطيرة، ولعبة الشوارع تضعنا بكفّ عفريت، وهنا علينا جميعاً (كمؤسسات عامة، عسكرية، أمنية وقضائية) بالأمن الاستباقي، وذلك كأكبر ضرورة لحفظ لبنان، ودون الأمن الاستباقي سنكون أمام كوارث وجودية. وللحكومة نذكّرها بوظيفتها، لأنه بدّ من حلٍ للملفات الأساسية كالفوضى والفلتان والتسيّب الأمني والتقصير القضائي ومالية البلديات والاستشفاء والنزوح غير اللبناني واليد العاملة غير اللبنانية، فلا بدّ من حسم هذه الملفات بشكل ضروري وأساسي، لأن استقرار البلد يدور مدارها، ولا شيء أسوأ على هذا البلد من نفوذ واشنطن وأوروبا على حساب المصلحة الوطنية، ولا شيء أقدس في هذا البلد من الشراكة الإسلامية المسيحية، وسنحمي هذه الشراكة بأشفار العيون”.
وختم قبلان: “أما على مستوى الجبهة الجنوبية، أقول: من هزم تل أبيب يتوثّب الآن لإلحاق أكبر هزيمة تاريخية بها، وما يجري بغزة شديد الارتباط بواقع المنطقة ومصالحها، ولن نفرّط بمصالح لبنان والمنطقة، ونتنياهو ومجلس حربه يرتكبون أسوأ حماقة، ولسنا ممن ينهزم، وتاريخنا من تاريخ الامام الحسين (ع)، وما تقوم به المقاومة على الجبهة مذلٌ جداً للصهاينة، والمطلوب من شركاء الداخل ملاقاة الثنائي الوطني بتسوية رئاسية تليق بتضحيات أعظم مقاومة سيادية على الاطلاق، ولا تقسيم، ولا مركزيات طائفية، ولا تمزيق مالي وإداري للبلد، ولا نسف لمشروع الدولة، ودفاعنا عن الدولة والشراكة الوطنية ليس له حدود، والشراكة الإسلامية المسيحية ضمان وطني للبنان، ولا قيام للبنان إلا بالتوافق والشراكة، وعلى الفريق المعارض أن يقرأ بعيون التضحيات السيادية على الجبهة الجنوبية، وبقاء لبنان من بقاء وحدته الوطنية، ومقاومته وجيشه وعائلته الإسلامية المسيحية. وكل عام ولبنان وشعبُه ومقاومته وجيشه بألف خير إن شاء الله”.