ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “سمعنا الأحد الماضي عن العشار الذي تبرر بتواضعه، على عكس الفريسي المتعاظم الذي عاد غير مبرر. أما اليوم، فنسمع من الرب مثل الإبن الشاطر، الذي شطر أو قسم ميراث أبيه. في القسم الأول من مثل اليوم وصف لحالة الأب المحب جدا. فقد أتى إليه ابنه طالبا نصيبه من الميراث، ونحن نعرف أن تقسيم الميراث يكون بعد الموت. اللافت أن الأب لم يجادل ابنه، ومن شدة تواضعه، سمح لابنه بأن يعتبره ميتا وقسم معيشته بين ولديه، مع أن الأكبر لم يطلب شيئا”.
أضاف: “الله، المرموز إليه بالأب، يظن بعض الناس أنه غير موجود. هو يسمح لنا، بسبب تواضعه الأقصى، بأن نتساءل عن وجوده وسط مصاعب الحياة، كما يسمح بوجود الملحدين الذين ينكرون وجوده. هو يحب كل خليقته، و«يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (1تي 2: 4)، لكنه لا يفرض هذه المحبة ولا يتدخل في حرية أبنائه. بعدما أخذ الإبن الأصغر نصيبه جمع أغراضه وسافر بعيدا. هذا ما يحصل معنا. نطلب عطايا الله، فيمنحنا مواهب لا تحصى، وفجأة نقرر الإبتعاد عنه بسبب خطايانا، واعتباره غير موجود، ونتصرف بالعطايا والمواهب بأنانية تؤدي بنا إما إلى الندم أو الهلاك”.
وتابع: “عندما يبتعد الإنسان عن الله تتدهور حاله بسرعة. لقد بدأ الإبن الأصغر خطأه بخطوة صغيرة، لكن خطوته الثانية، أي قراره الإبتعاد عن والده، وسعت الهوة بينهما. لقد انتقل الإبن، بسبب خطيئته، من البنوة، إلى رتبة أدنى من الخنازير التي «كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله». الخنازير سيئة ونجسة عند اليهود الذين يحرمون تربيتها أو لمسها وأكلها. لذا، اهتمام الإبن بالخنازير يدل على الذل الأقصى. أما ابتعاده عن أبيه فيرمز إلى ابتعاد كل إنسان عن الله بسبب الخطيئة، إذ يتحول من إبن لله إلى إنسان ذليل، لدرجة فقدان كل الخيرات واشتهاء الحصول على أي نعمة إلهية. عندما أدرك الإبن حالته الناتجة عن خطيئته «رجع إلى نفسه». أفاق من غيبوبته، وتذكر حاله في بيت أبيه فقال: «كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا!». لم يقارن نفسه بأخيه الأكبر الذي ما زال يتمتع بخيرات أبيه، بل بالأجراء الذين يتمتعون بالخيرات، ولكثرتها يفضل عنهم ، فقرر أن يعود إلى أبيه ويعترف بخطئه”.
وقال: “عندما يقرر الخاطئ العودة إلى الله يخجل، وإن كان تائبا حقا يعرف خطيئته ويقر بها طالبا الرحمة. نحن نخاطب الله وندعوه «أبانا»، لكن عندما نعي حجم خطايانا نخجل من أنفسنا فتصبح هذه العبارة صعبة اللفظ. لذلك، يعلن الكاهن في القداس الإلهي، قبل الصلاة الربية: «وأهلنا أيها السيد أن نجسر بدالة وبلا دينونة أن ندعوك أبا». عندما عاد الإبن، كان يريد أن يقبله أبوه كأجير، لكن أباه لم ينتظره بل بادر نحوه. لم يترك له مجالا للتفوه بما فكر به، بل قبله قبل أن يعبر عن توبته. لكن الإبن قال: «يا أبت، أخطأت إلى السماء وأمامك، ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا». هنا إشارة إلى أهمية الإعتراف بالخطيئة، الأمر المقترن بالتوبة. لهذا، تجمع الكنيسة بين التوبة والإعتراف في سر واحد، لأن التوبة مهمة، إنما يجب إقرانها بالتواضع المؤدي إلى الإعتراف بالخطأ. لقد قبل الأب ابنه بسبب توبته وتواضعه، و«القلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله».
أضاف: “عندما علم الإبن الأكبر بعودة أخيه، رفض دخول البيت والإحتفال مع الآخرين. كثيرا ما نشبه الأخ الأكبر ونرفض الإحتفال مع إخوتنا، مبعدين أنفسنا عنهم بسبب حسدنا وغيرتنا أو أنانيتنا ونقص محبتنا. عندما سمع الأب أن ابنه الأكبر غاضب، ترك الإحتفال وخرج للقائه تماما كما لاقى ابنه الأصغر، ليس لتبرير ذاته أو ابنه، بل ليدعوه إلى الفرح «لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد».
وتابع: “الوطن شبيه بالبيت الأبوي، لا راحة ولا طمأنينة إلا فيه. كثيرا ما يخطئ المواطنون تجاه وطنهم ويقدمون مصالحهم على مصلحته، وما حالنا المزرية التي نعيشها إلا نتيجة انفصال بعض الزعماء والسياسيين والحكام وبعض المواطنين عن وطنهم، كما فعل الإبن الشاطر أو الضال، ولم يدركوا سواد المصير الذي يتربص بهم، تماما مثل الإبن الأصغر في مثل اليوم، الذي قسم ثروة أبيه وغادر البيت الأبوي ظانا أنه سيعيش في حرية ستجلب له السعادة، فعاش حياة سهلة ملأى بالخطايا، مبذرا مال أبيه، حتى أصبح يشتهي الخرنوب الذي يأكله الخنازير. لقد قال أحد إخوتنا، الشيخ الراحل عبدالله العلايلي، عندما كان مفتيا في جبل لبنان: «لبنان والقداسة صنوان. هكذا وسمته الكتب السماوية، فكرمته ديانة وسمت به ديانة. وكان لنا منها جمعاء ما يشبه التتويج بأكاليل الغار. فما ظنك في جبل هو في وعي السماء، قداسة موصولة بقداسة».
وقال: “ليتنا جميعا ندرك أهمية وطننا وضرورة الحفاظ عليه. لبنان بحاجة إلى اتحاد جميع المسؤولين والزعماء وكل أبنائه حول مصلحته التي هي مصلحة الجميع. إنه بحاجة إلى تضافر الجهود من أجل إنقاذه، وأول عمل على المسؤولين القيام به هو انتخاب رئيس يقود عملية الإنقاذ. إن التأخر في انتخاب الرئيس أو تعطيل الإنتخاب هو عمل مدان لأنه يمنع الإنقاذ، ويساهم في القضاء على ما تبقى من مقومات البلد ومن تبقى من أبنائه المتشبثين به. هنا لا بد من الإشارة إلى خطورة اتساع الحرب على لبنان. كلنا نعرف أننا أمام عدو شرس مجرم لا يردعه ضمير ولا إنسانية، فهل نضع أنفسنا في فم التنين؟ إذا كنا نعرف أن لبناننا لا يحتمل نتائج وحشية هذا العدو، وقد شهدنا ما حل بغزة مما أدمى القلوب، أليس من الحكمة منع انزلاق لبنان إلى ما يشبه ما حل هناك؟ «كل شيء مباح لي ولكن ليس كل شيء يوافق» يقول بولس الرسول. فكروا بمصلحة لبنان وببقائه. مصلحة لبنان وأبنائه تعلو على كل المصالح. فهل يجوز لفئة من اللبنانيين أن تقرر عن الجميع وتتفرد باتخاذ قرارات لم يتوافق عليها جميع اللبنانيين، ولا تناسب مصلحتهم؟ وهل تقبل هذه الفئة أن تبادر فئة أخرى من الشعب إلى اتخاذ مواقف أو القيام بأعمال تزج الجميع في أتون صراعات يدفع الجميع ثمنها؟ أين الدولة من كل هذا؟ على جميع اللبنانيين التأمل مليا في الوضع الذي وصلنا إليه والعودة سريعا إلى كنف لبنان كما عاد الإبن الضال إلى حضن أبيه، والعمل الحثيث على إنقاذه كي لا نبكي بلدا وهبنا إياه الله ولم نحافظ عليه، بل عبثنا به ومزقناه كما يمزق الطفل لعبته، عن جهل.
وختم: “الله أب حنون ورحوم، ينتظر عودة كل خاطئ. لذلك، دعوتنا اليوم، قبل الدخول في الصوم الكبير، أن نتوب ونرجع بقلب منسحق ومتواضع إلى الله الذي سيقبلنا، ونسمع صوته الحسن قائلا: «أدخلوا إلى فرح ربكم”.