ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه النائب البطريركي المطران انطوان عوكر ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور النائب راجي السعد ، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو، الامينة العامة للمؤسسة المارونية للانتشار هيام البستاني، السفير رومانس رعد، نجل الشهيدين صبحي ونديمة الفخري باتريك ، رئيس مؤسسة البطريرك صفير الاجتماعية الدكتور الياس صفير، وحشد من الفاعليات والمؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان: “وفيما كان بعيدًا، رآه أبوه، فتحنّن عليه” (لو 15: 20)”، وقال: “ما إن ندم الإبن الأصغر، وعاد إلى أبيه بتوبة كاملة على ما فعل، حتى لاقته محبّة والده ورحمته التي هي أكبر من جميع خطاياه. وبالفعل لـمّا عاد الإبن إلى نفسه، تذكّر حالة البحبوحة التي كانت له في بيت أبيه، ورأى حالة البؤس التي بلغها بسبب ابتعاده عن شركة الحياة مع والده وأهل بيته، فقرّر العودة والإقرار بخطيئته والإستعداد للتعويض عنها. “فنهض ومضى إلى أبيه، وفيما كان بعيدًا، رآه أبوه، فتحنّن عليه، وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله” (لو 15: 20). بهذا المثل تكلّم الربّ يسوع عن مفهوم الخطيئة والتوبة والمصالحة وثمارها. الخطيئة والتوبة هما عمل الإنسان، فيما المصالحة وثمارها هما من رحمة الله. فنستطيع القول إنّ هذا المثل يحمل عنوان: الرحمة الإلهيّة. فيسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي تشكّل ذروة رحمة الله الذي بذبيحة الإبن على الصليب افتدى خطايا البشر أجمعين، وفيها أعطانا وليمة جسده ودمه كدواء للعيش في حالة النعمة، ولعدم الموت الروحيّ بخطايانا”.
وتابع: “الخطيئة في جوهرها هي الإبتعاد عن الله، ودائرة العيش معه التي هي الكنيسة، والتعلّق بعطاياه، بدءًا بالذات وصولًا إلى خيرات الأرض كبيرة كانت أم صغيرة نتعلّق بالعطيّة وننسى معطيها. هذا ما فعله الإبن الأصغر بأخذ حصّته من ثروة أبيه وسافر إلى بلدٍ بعيد، كاسرًا شركة البنوّة معه وأهل البيت. وظهرت في المثل نتيجة حالة العيش في الخطيئة، وهي فقدان كرامة البنوّة، والإنحطاط الروحيّ والأخلاقيّ والإجتماعيّ، المعبّر عنها بالجوع ورعاية الخنازير والأكل من خرنوبهم. أمّا التوبة فتبدأ بالوقفة مع الذات أمام الله، المعروفة بفحص الضمير، وإدراك حالة البؤس بنتيجة الإبتعاد عنه. فتولّد في القلب الندامة والأسف للواقع الأليم. وحينئذٍ يكون قرار العودة إلى الله والكنيسة، والإقرار بالخطايا، ومقاصد الهروب من أسبابها، والتعويض عنها بأعمال الخير والرحمة. هذا ما فعله الإبن الأصغر، إذ قام ورجع إلى أبيه”.
وتابع: “هنا كانت المصالحة النابعة من قلب الآب السماويّ الذي ينتظر برحمته اللامتناهية رجوع الخطأة لكي يمارس حنانه ومحبّته ورحمته. هذا ظاهر في المثل الإنجيليّ بتعبير بليغ. إذ فيما كان الإبن بعيدًا، رآه أبوه، فشمله بحنانه ولاقاه وقبّله طويلًا. ولم يدع إبنه يتلفّظ بإقرار خطاياه إلّا متقطّعة برحمة أبيه اللامتناهية. فكم من مرّة عبّر الربّ يسوع في الإنجيل عن فرحة الآب السماويّ بخاطئ واحد يتوب. وأتت ثمار المصالحة التي دلّت عليها الرموز المستعملة في المثل الإنجيليّ، وهي:
أ- الحلّة الفاخرة وترمز إلى ثوب النعمة الذي لبسناه أصلًا يوم المعموديّة. وقد لطّخته خطايانا.
ب- الخاتم في إصبعه ويرمز إلى البنوّة لله المستعادة. وتدلّ على أمانة الله التي تفوق خطايانا، وعلى أمانتنا لله. إنّه خاتم الأمانة.
ج-الحذاء الجديد يرمز إلى الطريق الجديد الذي يفتحه الله أمامنا لنسير حياة مستقيمة تليق ببنوّتنا لله.
د- العجل المسمّن وفرحة العائلة المجتمعة يرمزان إلى وليمة الإفخارستيا والقدّاس الإلهيّ. ما يعني أنّ التوبة الحقيقيّة تؤهّلنا للجلوس إلى مائدة عرس الحمل: أي المشاركة في الذبيحة الإلهيّة وتناول جسد الربّ ودمه”.
وقال: “تبقى مسألة الإبن الأكبر الذي رفض مصالحة أخيه، والجلوس إلى مائدتها، بسبب حقده على أخيه، ورفض طيبة أبيه، وبسبب أنانيّته وحسده. إنّه يمثّل كلّ إنسان لا يعرف طعم المصالحة. ولكنّ الإنسان الذي لم يختبر المصالحة مع الله وثمارها، لا يستطيع أن يمارسها ويعيشها مع الناس. هنا يأتي دور الكنيسة الأساسيّ وهو مساعدة الناس على المصالحة مع الله بتغيير مجرى حياتهم وبالتالي على المصالحة بين الناس. المسؤولون السياسيّون في لبنان بحاجة إلى المصالحة بعضهم مع بعض، من خلال تنقية ذاكرتهم والضمائر وطيّ صفحة الماضي، وإذكاء الثقة فيما بينهم. إذا فعلوا، عاشوا بفرح، وتعاونوا بثقة، ووضعوا خير لبنان واللبنانيّن فوق كلّ إعتبار. إنّ الممارسة السياسيّة اليوم تناقض بكلّ أسف هذه المبادئ، ولهذا السبب يبقى التوتّر، والسعي الدؤوب وراء المصالح الشخصيّة والفئويّة على حساب الخير العام. المصالحة والسلام، المضمومان إلى نبل الإداء، هما المخرج الوحيد من أزمة انتخاب رئيس للجمهوريّة. إنّنا نبارك ونشكر كلّ مسعى لإنتخاب الرئيس بروح المصالحة والسلام. ونخصّ بالذكر لجنة السفراء الخمسة وتجمّع المعتدلين. فبانتخاب الرئيس تكتسب المؤسّسات الدستوريّة، وعلى رأسها المجلس النيابيّ والحكومة، شرعيّة الممارسة وفقًا للدستور. وطالما الجمهوريّة اللبنانيّة من دون رئيس، فتتكاثر الفوضى، وتتفكّك أوصال الدولة، وتستباح مخالفة القوانين، ويطغى ظلم القادرين والنافذين وفائض القوّة”.
وتابع: ” في هذا الجوّ المحموم في العالم وعندنا في المنطقة حيث تطغى لغة الأسلحة والحروب، نقول إلى حكّام الدول وإلى من في يدهم أسلحة متطوّرة: لا تنظروا إلى أسلحتكم وتظنّون أنّكم بها أقوياء، بل انظروا إلى قلوبكم، فتدركوا أنّكم ضعفاء في إنسانيّتكم، بل عديمو الإنسانيّة. كونوا كبارًا بمحبّة قلوبكم. ويا لهول وعار ما يجري في قطاع غزّة من جرائم؟ إنّنا ندين بشدّة المجازر التي تُرتكب هناك بحقّ الشعب الفلسطينيّ على يد الإسرائيليّين الأثيمة: يقتلون عمدًا العشرات من المنتظرين المساعدات الغذائيّة، وهم يتضوّرون جوعًا. وآخرون يموتون جوعًا على الطرقات تحت أنظارهم، وآخرون يُقتلون عمدًا وهم على طرقات التشريد من بيوتهم المهدّمة، والهرب تحت نيران المدافع والصواريخ. فيا للإجرام الوحشيّ. ونحن في لبنان يجب ألّا ينزلق أحدٌ بوطننا إلى الحرب والقتل والدمار والتهجير والتشريد، من دون فائدة، ولقضايا لا دخل للبنانيّين عامّةً بها ولأهلنا في الجنوب اللبنانيّ. رسالة لبنان أن يكون أرض سلام، ورائد سلام بحكم تكوينه وتنوّعه الثقافيّ والدينيّ، وبحكم تاريخه ونظامه السياسيّ وميثاق عيشه المشترك، وليدرك اللبنانيّون، مسؤولين وشعبًا أنّ “السلام ثمرة العدالة” (أش 23: 7)، و”يولد من الحبّ”. ولهذا السبب السلام يُبنى كلّ يوم. فليكن هذا الواجب المشرّف من أولى مسؤوليّاتنا في العائلة والمجتمع والدولة (راجع الكنيسة في عالم اليوم، 78)”.
وختم الراعي: “نصلّي، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، إلى الله كي يحرّك ضمير كلّ إنسان، الذي هو صوته في أعماق الإنسان. فيدرك الجميع خطاياهم، ويتوبوا عنها، ويتصالحوا مع الله ومع ذواتهم ومع الناس. له المجد والشكر الآن وإلى الأبد، آمين”.
بعد القداس، استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.