لفت وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى الى انه “بالعيش الواحد والقيم العليا نقاوم. بالعيش والقيم نصون الوطن من أعدائه، ونحفظ عمرانه، تراثًا مستمرًّا مدى الآتي، من الهمجية التي أفلتت من عقال الإنسانية في غزة وجنوب لبنان، تلك التي تسعى لتعيثَ خرابًا في الأرض، إيمانًا منها بأنه لا رسوخ لها في منطقتنا قبل أن تقضي على لبنان النموذج النقيض لها، وايماناً منها ايضاً ان الدمارَ يعجِّلُ في تسليطِها على شعوبِ العالم كافةً. ان وطرابلس هي المدينةَ التي ما زالت إلى اليوم تحتفظ بأصالة القيم، وتعبر عن معنى العيش الواحد”. كلام المرتضى جاء خلال محاضرة له بعنوان “العمارة والحضارة”، في مركز الصفدي الثقافي، في حضور حشد من الفاعليات السياسية والثقافية والاجتماعية بدعوة من الجمعية اللبنانية للعمران البلدي في إطار سلسلة محاضرات “قصة مدينة “، ضمن فعاليات طرابلس عاصمة للثقافة العربية لعام 2024 حيث كان العنوان الرئيسي “مدينة التحولات ،حداثة طرابلس والحقبة الذهبية 1945-1975”.
استهل وزير الثقافة محاضرته قائلا: “طرابلس حكايةُ الإنسان والزمان”، عبارةٌ سيكررُها لبنانُ والعالمُ العربيُّ هذا العام، عند التأمل في الشعار المرفوع عنوانًا للفعالية الثقافية الطرابلسية، الذي يضم رموزًا عن أبرز المعالم العمرانية في الفيحاء، بصورةٍ تجسدُ تعاقب الحضارات على المدينة، وما تركت فيها من آثارٍ باقيات، تحكي قصتَها مع الإنسان والزمان. والحضارةُ أيها الأحباء، عادةً ما تقولُ نفسَها بلسانَينِ ناطقٍ وصامت. أما اللسانُ الناطقُ فهو الفنون على أنواعِها، وأما الصامتُ فهو الحجر الذي يمنحُ العصرَ الذي يكون فيه هويةً ثقافيةً متميزةً عن العصور السابقة أو اللاحقة. فالعِمارةُ هندسةٌ وابتكارٌ وفنٌّ بلا شك، لكنها أيضًا، وقبل كلِّ شيء، وثيقةُ سَفَر الزمانِ في المكان. وطرابلس، تسافرُ بين بحرِها وبرِّها أزمنةٌ كثيرة. منذ عهدِها الفينيقيِّ الأول المعروف في التاريخ حتى يومِها الحاضر، بكلِّ رجائِه وعثَراتِه. ولها في كلِّ زاويةٍ من زواياها ذاكرةٌ عمرانيةٌ تروي قصةَ حضارةٍ نزلت في أرجائها، فابتنَتْ لها أزِقَّةً وأسواقًا وقلاعًا، ومعابدَ وتَكايا ودُورًا، فإذا كلُّ حَجَرٍ لسانٌ يُنبئُ وصوتٌ يخبّر. ولعلَّ أكرمَ ما حباه الله تعالى للفيحاء، أن معالمها التاريخية لم تخْلُ من الحياةِ مرةً، فقد ظلت مأهولةً، يترددُ الناسُ بين أنحائها القديمةِ والحديثة بلا انقطاع، منذ أن بُنِيَت إلى اليوم. يُضافُ إلى ذلك أن هذه المدينة بسبب تراكم الحضارات المتعاقبة عليها، عرفَتْ نعمةَ التنوع وجسّدَتْه على مرِّ العصور، فكان تأثيرُها الاجتماعي الإنسانيُّ عظيمًا، إذ راحت تصهرُ في مصهرِ العيشِ الواحد ناسًا من مشاربَ ومناطقَ شتى، قَدِموا إليها واستقرُّوا فيها، وصاروا خلاصةً اجتماعيةً تحقق المفهوم الحضاريَّ للمدينةِ كمتَّحَدٍ بشريّ، حتى إن كثيرًا من إفْرَنْجِ الحملات الصليبية، اندمجوا فيها وباتوا جزءًا أصيلًا من مجتمعِها. والكلام نفسُه يَسْري على أهل الجوارَينِ البعيدِ والقريب، الذين جاؤوا إليها وصاروا منها ولها. إنها جاذبية الأرضِ التي كانت منذ نشأتِها ملتقًى وفضاءَ حوار”.
وتابع: “بهذه المعاني الفيحاء كبساتين طرابلس، نجتمعُ اليومَ لنشهدَ عرضًا تاريخيًّا عن العمران فيها، منذ عشية الاستقلال حتى مطالع الحرب المشؤومة. إنّها الحِقْبةُ الذهبيةُ كما يقولُ عنوانُ المؤتمر. لكن، هل طرابلس، حتى في عزِّ فقرِها وانعدامِ تنميتِها، إلا ذهبٌ خالص؟ أليست المدينةَ التي ما زالت إلى اليوم تحتفظ بأصالة القيم، وتعبر عن معنى العيش الواحد؟ وهاتان الركيزتان الأساسيتان لبناء الوطن: العيش الواحد والقيم، كما ردَّدْتُ في مجالسَ كثيرة، هما السببُ المباشِرُ الذي حملَ وزير الثقافة على الانتقال إلى طرابلس في دوام أسبوعي، ذلك أنَّ كلَّ معاني الوجود الوطني تتجسّد في طبيعة المدينة وطبائع ناسِها، وهي بهذا المعنى عاصمةٌ أولى لا ثانية للبنان. فمن هنا، بالعيش الواحد والقيم العليا نقاوم. من هنا، بالعيش والقيم نصون الوطن من أعدائه، ونحفظ عمرانه، تراثًا مستمرًّا مدى الآتي، من الهمجية التي أفلتت من عقال الإنسانية في غزة وجنوب لبنان، تلك التي تسعى لتعيثَ خرابًا في الأرض، إيمانًا منها بأنه لا رسوخ لها في منطقتنا قبل أن تقضي على لبنان النموذج النقيض لها، وايماناً منها ايضاً ان الدمارَ يعجِّلُ في تسليطِها على شعوبِ العالم كافةً.
وختم المرتضى: “طرابلس تواجه اليوم الحرمان والإهمال الرسمي بالحراك الثقافي الذي سوف يؤتي أوكْلَه بتضافر جهود ابنائها ومنهم الأخ والصديق العزيز الدكتور وسيم الناغي، وهي بتمسّكها بالعيش الواحد والقيم الوطنية والإيمانية الجامعة وتاريخِها الذهبي البهيِّ تؤسّس لمستقبلٍ ماسيِّ الواقع والتطلّعات، يضيءُ على الوطن كلّه. بارك الله في طرابلس وازال عنّها الغمّة لتحيا على الدوام ابيّةً بهيّة. عشتم جميعاً وعاش لبنان”.