ترأس رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية المطران يوسف سويف، قداس عيد الميلاد عند منتصف الليل في كنيسة مار مارون في طرابلس، عاونه خادم الرعية الخورأسقف نبيه معوض ولفيف من الكهنة.
بعد الانجيل قال سويف: “أتقدم منكم ومن جميع اللبنانيين بأصدق التمنيات ملؤها الإيمان بالطفل قديم الأيام الذي ولد في مغارة بيت لحم وأعطى السلام للعالم، وهو يجدد إيماننا ويثبتنا في الحب والرجاء”.
اضاف: “نحن نؤمن بالطفل الإلهي، قديم الأيام الجالس منذ الأزل على عرش الأب السماوي، ونتأمل به موضوعًا في مذود حقير. كلمة الله الذي في البدء كان” (يوحنا (۱ (۱) صار إنساناً، هو عمانوئيل – الله معنا، إسمه يسوع – الله يخلص. هذه الحركة الإلهية نحو الإنسانية هي من أبهى وأروع أحداث تاريخ البشرية، فيها عبر الله عن حبه اللامتناهي الذي فك قيود الموت في الإنسان وأعطاه الحرية والحياة الجديدة، الله ليس إنسانيتنا وتضامن معنا. أخذ طبيعتنا البشرية فحول الهوان إلى كرامة، والضعف إلى قوة، والعار إكتسى مجداً مع طفل بيت لحم، نحن في الحضرة الإلهية وكمال الإنسانية. إنه معنا أمس واليوم والى الأبد. حضوره يحوّل كياننا الإنساني نحو اكتمال الحب والخير والفرح”.
وتابع: “هذا الطفل قديم الأيام صار إنساناً هنا والآن، فأصبحت كل أرض مقدسة وكل زمان مقدس. هنا، أي في جغرافيا الإختبار البشري، في حزنه وفرحه، في موته وقيامته، في مسيرة ارتقاء تصاعدي كالمعلم الذي نما في الحكمة والقامة والنعمة لدى الله والناس. والآن هي هذا اليوم الذي ولد فيه المسيح الرب ولادة ارتبطت بصليب الجمعة العظيمة واليوم الأول للقيامة. لقد تمت الولادة مرة واحدة في الزمن وهي تتجدد كل يوم في تاريخ كل إنسان على وجه الأرض إذا أراد أن يقبل المخلص، ليس كخاصته التي لم تقبله (يوحنا ۱ : (۱۱) بل كالرسل بعد العنصرة الذين أحبوه وقبلوه وتبعوه فالميلاد هو هذا القبول الطوعي والإرادي والواعي الذي يجدد الفكر والقلب والكيان ويحقق نعمة الخلاص. هذا هو إيماننا الذي يتخطى الجدلية الفلسفية ليصبح حياة جديدة معاشة نختبر فيها نعمة الله، زدنا إيمانًا لنشهد لسر المغارة القيامية”.
واردف: “نحن نؤمن بمغارة بيت لحم حيث الطفل المقمط في المذود (لوقا ۲ (۱۲) بيت متواضع مكرس للفقراء مشهد يُشعرنا بجو من الصمت الكتيب. فالمغارة في الأيقونة هي صورة القبر، والمذود هو النعش، والأقمطة بشكل كفائن الميت. يسوع ولد من أجل أن يموت ويقوم منتصراً، فالتجسد مرتبط إلى القيامة، والمغارة هي قيامية بامتياز. يتجلى حدث المغارة في حياة يسوع الخفية والرسولية حيث يُظهر فيها ملكوت الله، إذ يطوب الفقراء والساعين الى السلام. كلها صفات جميلة عن ملكوت السماء حققها الرب من على الصليب ودعانا لنشرها بعد القيامة حيث انتصر على الظلم والكبرياء والخطيئة من قبر فارغ هو استمرارية لمذود فقير تعطر بالحياة وإكتمل معناه بقيامة المسيح التي توجت مسيرة التدبير ومنحت الإنسان حياة أبدية”.
وقال: “نحن نؤمن بإله صار إنساناً، وكلمة صار جسدًا (يوحنا 1: (١٤) ليرمم البشرية ويخلق العالم من جديد (٢) قورنتس ١٧:٥). إنه سر تأنس الله. ونحن مدعوون لعيش الروحانية الميلادية ببعد إنساني عميق يربط الإختبار الروحي والمسيرة الإيمانية الداخلية المرتكزة على كلمة الله والصلاة والقربان أي العبادة الحقة بالحياة الإنسانية اليومية المتجسدة بلقاء الآخر والتفاعل معه. فلا فصل بين العلاقة العميقة مع الرب والعلاقة الإنسانية التي تتظهر بعلامات حسية ومبادرات واقعية وشعور يظهره المؤمن تجاه أخيه الإنسان دون تمييز. إنه تحد إيجابي لأبناء الكنيسة، لا بل لذوي الإرادات الصالحة بأن يتضامنوا ليس فقط مع من يشاطرهم الإيمان عينه بل مع كل إنسان مهما كان انتماؤه الديني والعرقي والثقافي. وهذا هو معنى المغارة التي عبرت عن تضامن الله مع كل إنسان على وجه الأرض. إنه تحد يحررنا من التقوقع والإنغلاق، ويجعلنا نتحسس مع كل قضية إنسانية فيها ظلم وانتهاك للحقوق واستغلال للبشر ومتاجرة بالسلاح لوقد حرب تلوى الأخرى على حساب حق الإنسان في عيش كريم وفي طمأنينة وسلام. فالميلاد هو التحرر من كل القيود التي تبعدني عن أخي الإنسان. هذه هي المسيحية، وهذا هو معنى الحياة في المسيح، يظهر في أيقونة المغارة الميلادية في جمال العائلة الإنسانية، فكلمة الله ولد في عائلة الناصرة من مريم البتول يرافقه يوسف البار، والإطار الإجتماعي هو عائلة إنسانية تحيا فرح اللقاء وثبات الحب، وتواجه الفقر والتهميش والهجرة كملايين الناس في أيامنا الحالية. هذا التدبير الإلهي هو دعوة للعائلة البشرية صغيرة كانت أم كبيرة لأن تعيش بساطة الحياة اليومية وعمق اللقاء الإنساني. إنها دعوة لعيالنا كي تتزين بالتواضع بعيداً عن التسطح وبهرجات الدنيا الزائلة. فمع الطفل الإلهي المتأنس، تعالوا نختبر الفقر الإنجيلي مبتعدين عن غنى قاتل وكبرياء مؤذ ولا مبالاة مميتة لبعضنا البعض، ولنساهم في زرع الحب بدل الكراهية وترسيخ الوحدة عوض الإنقسامات البغيضة التي تشوه جمال الله في الإنسان وروعة الأيقونة البشرية”.
وأضاف: “نحن نؤمن بيسوع ملك السلام الذي أصبح هو سلامنا ودعانا لنكون صانعي سلام ننشره في مجتمعنا (لوقا (٢: (١٤) في مجتمعنا ونجعل منه خيارنا الأساسي في حياتنا، أمام مسار عالمي نرى فيه تصاعداً لوتيرة الأزمات والصراعات والحروب. فالسلام قبل أن يصبح إتفاقيات وحل نزاعات وإنتصار فئة على أخرى ومعاهدة تتحقق بفائض القوة لدى البعض السلام هو علاقة الله مع الإنسان، بل هو الرب عينه الذي حقق المصالحة بين بني البشر وبه أصبح الجميع واحداً. فمع يسوع لم يعد هناك لا عبد ولا حر، لا لون ولا عرق، لا كبير ولا صغير، بل أصبحنا كلنا عائلة بشرية واحدة. مع المسيح يتحقق النصر على الظلم وترتقي الشعوب نحو سلام عادل وشامل في المجتمعات الإنسانية حيث لكل فرد وفئة وجماعة مكان يقطن فيه ليتفاعل وينعم بحياة هادئة كريمة مع أخوته البشر رغم تعددية الدين والتقاليد. فنحن نؤمن بالمسيح – السلام وبه ننتصر على كل محاولات دمار وانقسام وحقد وتسلط وظلم بحق الإنسان. إيماننا بالسلام الذي حل في الأرض وله هلل الملائكة فقادوا الرعاة للقاء المسيح راعي الرعاة الذي غير مفهوم الرعاية المبنية على التسلط الى رعاية مبدؤها الخدمة، ومن رعاية حكمها جائر الى رعاية مفهومها المثل والقدوة والحكمة. زدنا إيماناً: صرخة نطلقها للمسيح نور العالم، فيوجهنا كما قاد ضوء نجمه المجوس للسجود له وهم يحملون له الهدايا، فنكون مستعدين لتقدمة ذواتنا لملك الملوك، تقدمة تكتمل بخدمة الآخر”.
وختم: “نعم أيها الأحباء، لا ميلاد لوطن ولا قيامة للبنان من دون تواضع لا يمكن أن يُبنى وطن بكبرياء وتعنّت وأنانية بعيدا عن خير المواطنين، مصير الناس ومستقبلهم أصبح مهدداً في لبنان. تعالوا نصلي ونعمل سويةً لتجدد الحياة الروحية والإجتماعية واستقامة المسيرة الدستورية وأهمها انتخاب رئيس للجمهورية. فهشاشة لبنان تتطلب موقفاً ضميرياً وتكاتفاً وتعاضداً واتحاداً وفق مبادئ حرية التعبير التي جعلت من لبنان منارة الشرق ميزته الوحدة في التنوع، إذ لا وحدة إلا على قاعدة ممارسة ديمقراطية ناضجة واعية وسليمة لاسترجاع إرث عريق بدأنا نفقده في إدارة الشأن العام، أمام مشهدية مريرة ومؤلمة نرى فيها تفككاً يومياً للدولة بمؤسساتها، وكأن يد الشر تخطط لهذا الإنحلال. فلا بديل عن الدولة ومؤسساتها القوية لا في الأمس ولا اليوم ولا في الغد، المواطن هو مواطن في دولة قوية ثابتة تحميه وتضمن حقوقه وتؤمن له العيش الكريم، وتحكم بالأخلاقيات السامية والقيم الثابتة والحوكمة السليمة والشفافية والمراقبة والمحاسبة من أجل صون الخير العام. في هذا الميلاد، تتجه أنظارنا الى العلي القدير، طفل بيت لحم كي يرحم الأطفال الشهداء في غزة المنكوبة المتألمة. تعالوا نجدد إيماننا برب لم يتخل عنا في تاريخ لبنان وهذا الشرق، فالله الذي صار إنساناً هو قادر على كل شيء، وهو يثبتنا في الإيمان، له المجد الى الأبد. آمين. ولد المسيح هللويا”.