ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عوده عظة قال فيها: “سمعنا اليوم مثل “العبد الشرير” أو “العبد الظالم”. يأتي هذا المثل بعدما طلب الرب من بطرس، ومعه جميع البشر، أن يصفحوا عمن أخطأ إليهم سبعين مرة سبع مرات. يقول الرب “يشبه ملكوت السماوات إنسانا ملكا أراد أن يحاسب عبيده”، دلالة على الرب يسوع نفسه، الذي هو إنسان وملك أو إله في الوقت عينه، وهو الذي سيدين البشر في اليوم الأخير عندما يقفون أمام العرش الإلهي. يعطي الرب يسوع هذا المثل لكي يعلم سامعيه، فيغيرون سلوكهم الأرضي قبل الوصول إلى الدينونة الأخيرة. يعلمنا أن من يغفر لأخيه هنا، سوف يغفر له الرب في يوم الدينونة الرهيب، تماما كما علمنا في الصلاة الربية: “واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه”. فلكي يكون الإنسان عبدا صالحا لله، لا بمعنى العبودية السيء إنما بمعنى البنوة الحقيقية، عليه أن يطبق الوصايا عبر عيشها، لا عن طريق الحفظ الببغائي غير المفيد. متى أدركنا، ولم نتناس، أن الآخر مخلوق على صورة الله ومثاله، نتعامل معه بمحبة فائقة، كما يتعامل الله نفسه معنا، هو الذي أرسل ابنه الوحيد ليخلصنا، متألما على الصليب. الله يرحمنا دوما، وينتظر عودتنا كالإبن الشاطر، ثم يقبلنا ويقبلنا ويدخلنا إلى فرحه. أما نحن، فعوض أن نغفر لأخينا الإنسان، الذي نخطئ مثله وأكثر، ونسامحه، نطالبه بما لا يستطيعه، ونتجاهل خطايانا الشخصية وتوبتنا قبل الانتقال من الأرض إلى الوقوف أمام عرش الديان العادل. هكذا، بدل أن نكون عبيدا لله، أي أبناء، نصبح عبيدا للخطيئة والحقد الأعمى والكراهية”.
أضاف: “العبودية الحقيقية لله نجدها عند شخصين، الأول نعيد له اليوم هو النبي صموئيل الذي عاش منذ طفولته في الهيكل، وقد ناداه الرب فأجاب: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع” (صم 3: 9). جعل الله صموئيل وسيطا له بين الناس ليؤكد لشعبه أنه لا ينساهم ولا يهمل خلاصهم، وسيبسط قضاءه العادل عليهم لمحاسبة الخطأة والظالمين. أرسل الله عبده صموئيل ليحارب الفساد في الشعب، بدءا من رؤساء هذا الشعب، من الهيكل عينه، حيث نشر إبنا الكاهن “عالي” المدعوان “حفني” و”فنحاس خطيئة الزنى عند باب خيمة الاجتماع (2: 23). لم يصمت صموئيل بل واجه عالي وأخبره بما سيحل ببيته من أجل الشر الذي فعله ابناه، كما قال له الرب”.
وتابع عوده: “حبذا لو يتشبه مسؤولو هذه الأرض بخالقهم خصوصا من ناحية محاربة الفساد، إذ لا محاباة للوجوه لدى الرب، وعدله حاصل. الله عادل، ويبدأ بالمحاسبة من أهل بيته، إذ هكذا يكون العدل الحقيقي. والنبي صموئيل لم يخف من إحقاق عدل الله، لأن الله معه ويعضده. كان مثالا للطاعة وسماع كلمة الله، والشجاعة في نشر العدل الإلهي وعدم المساومة عليه، الأمر الذي نأمل تحقيقه لدى كل مسؤول أرضي، خصوصا في هذا البلد الذي يفتقر إلى أدنى مقومات العدل ولا يكترث لا لحقيقة ولا لعدالة. ماذا يمنع مسؤولي بلادي، وكل من بيدهم سلطة، بل ماذا يمنع كل إنسان عن قول الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، في كل ظرف وأمام أي كان؟ وإن نطق بالصدق وأعلن الحقيقة هل يلام أو يعاقب؟ وهل يجوز تخوينه أو ترهيبه؟ وهل تلام مؤسسة إعلامية إن هي نقلت الحقيقة؟ أليس هذا دورها، بل واجبها؟ وماذا يمنع القضاء عن تحقيق العدالة في كل قضية ترفع إليه لو لم يكن يرزح تحت ضغوط سياسية؟”.
وقال: “الشخص الثاني الذي يعلمنا المعنى الحقيقي للعبودية لله وطاعته هو والدة الإله الفائقة القداسة مريم، التي عيدنا لرقادها منذ أيام، ومكانتها عظيمة في قلوب المؤمنين، وفي الوجدان الكنسي. نتعرف على مريم في العهد الجديد أنها “عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف” (لو 1: 27)، وأنها “وجدت نعمة عند الله” (1: 30). والدة الإله كانت مؤمنة حقيقية وضعت حياتها بين يدي الرب معتبرة نفسها “أمة”، أي عبدة له (1: 38)، كما أنها حفظت كل شيء حدث معها أو أمامها في قلبها (2: 19)، قبل الولادة وبعدها وعند مرافقتها لابنها نحو الصلب والموت، لأنها آمنت بأن كل شيء يقوم به ابنها وإلهها هو لخير البشرية بأسرها، وقد تكلل حقا بالقيامة وإقامة الجنس البشري من موت الخطيئة. كانت مثالا للمؤمن الحقيقي، لعبد الله الحقيقي، الذي يضع كل شيء بين يدي خالقه. وانطلاقا من الكتاب المقدس، نجد أن ذكر العذراء مريم ليس قائما بذاته، بل هو مرتبط دوما بالإله المتجسد منها، الرب يسوع المسيح، الأمر الذي علينا أن نتعلمه منها، أي أن نعتبر كل شيء في حياتنا مرتبطا بالله، فنشكره على كل خير وصلاح، ونتعلم من كل سوء طالبين معونته في منحنا الصبر والاحتمال”.
وشدد على ان “اللبناني بحاجة إلى صبر كبير وإلى صلاة مستمرة لكي يحتمل صعوبة العيش في هذا البلد المفكك الذي لا رأس يقوده، ولا حكومة تعمل من أجل إنقاذه، ولا مجلس نواب يعي مسؤوليته وواجبه في انتخاب رئيس من أجل بدء مسيرة الإنقاذ. فالدولة التي تدرك دورها تحترم مواطنيها وتسعى جاهدة لتأمين الحياة الكريمة لهم عبر الخدمات الضرورية والأمان والاستقرار والعدالة، ثم بعد تأمين حقوقهم تطلب منهم القيام بواجباتهم. عندنا، لا يحصل المواطن على أدنى حقوقه وهو مطالب بأن يقوم بواجباته تجاه دولته التي لا تفوت فرصة دون تحميله أعباء إضافية فيما أمواله محجوزة وهو في الضيق. والمضحك المبكي أن المواطن الراغب في القيام بواجبه كدفع ما يتوجب عليه مثلا من رسوم وضرائب لا يجد إدارة تعمل ولا موظفا يداوم، لكنه قد يفاجأ بحجز سيارته بحجة عدم دفع الرسوم المتوجبة عليها في الإدارة المغلقة الأبواب، أو بالغرامات تتراكم عليه بسبب التأخير. أليس هذا قهرا للمواطن؟ كذلك يلوحون بزيادة الرسوم والضرائب. ماذا قدموا للشعب؟ وأين الإصلاحات التي سئمنا تكرار الحديث عنها. أين الوعود؟ وكيف تستقيم الأمور في دولة بلا رأس، وبحكومة مستقيلة، وبمجلس نيابي مشرذم؟ السنة الدراسية على الأبواب، والأحمال على أكتاف الأهل ثقيلة، والوضع الإقتصادي ما زال مترديا، وقدرة اللبنانيين على التحمل أصبحت ضعيفة. هل فكر المسؤولون بهذا الوضع؟ ألم يحن الوقت بعد لانتخاب رئيس وتشكيل حكومة تتولى إيجاد الحلول؟”.
وختم عوده: “إن الكلام على وضع بلدنا كما على الأنبياء والقديسين وعلى والدة الإله خصوصا يطول، إلا أن الكلام يبقى كلاما عاطفيا إن لم يقترن بالفعل، أي إن لم نتعلم كيف نحوي الإله في داخلنا، وننقله إلى العالم أجمع، لخلاص الكل. لذلك، من الجيد أن نتعلم عن القديسة والدة الإله، وجميع القديسين، لكن الأعظم أن نتشبه بهم ونسير على خطاهم، هم البشر الذين تألهوا، ولا نتعلل بعلل الخطايا، قائلين إننا بشر ضعفاء لا نستطيع الوصول. لقد أثبتوا لنا بحياتهم أننا نستطيع، لذا علينا أن نبدأ جهادنا الروحي فورا، وبلا تقاعس، كي لا نكون عبيدا بطالين نخسر كل ما لدينا بسبب خطايانا. فلنقل مع النبي صموئيل: “تكلم يا رب فإننا نسمع”، ومع والدة الإله: “إننا عبيد للرب فليكن لنا بحسب قوله”، لكي نصل إلى الخلاص والحياة الأبدية، آمين”.