أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة جماعة في مقر المجلس وألقى خطبة الجمعة وقال فيها: “في البداية، وبمناسبة الولادة الميمونة لروح الله عيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليه وعلى أمه الطاهرة مريم السلام، نتوجه بالتهنئة والتبريك للبنانيين جميعا مسلمين ومسيحيين، آملين ببركته أن ينعم الله تعالى على لبنان وشعبه بالخروج من هذه المعاناة بفرج قريب وحلول شافية ولينعموا بالراحة والامن والسلام والاستقرار التي سرعان ما افتقدوها بعدما وجدوها لفترة لم يطل زمان بقائها ولم يستقر لهم نعماؤها كأنها تختصر لهم حال الدنيا وإنها لا تدوم على حال ولا يقر لها قرار حتى يكون لهم في ذلك دروس وعبر ويتخذوا من تعاليم وسير أنبياء الله تعالى وأوصيائهم مسلكا ومنهاجا (وأن هذا سبيلي فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) فسبيلهم سلام الله عليهم هو السبيل الهادي والموصل الى المقصد الحق الذي لا يضيع من سلكه ولا يضل”.
أضاف: “ولقد كان عيسى سلام الله عليه واحدا من رسل الله تعالى (آمن الرسول بما أنزل اليه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). فالأنبياء والرسل مبعوثون من عند الله تعالى، يحملون نفس الاهداف التي منها هداية الناس الى طريق الخلاص وسعادة الدنيا والآخرة ليس بينها أي تناقض أو تضاد فهي واحدة في حقيقتها عبر عن ذلك سبحانه بقوله (ان الدين عند الله الاسلام) وإن الاختلاف في الواقع لم يكن إلا بين الاتباع بسبب الاهواء والمصالح التي كانت سببا في الاختلافات الناشئة حتى داخل الدين الواحد والمذهب الواحد وهو ما عبر عنه في نفس الآية الكريمة بقوله تعالى (و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) فالخلاف لم يكن بين الاديان وإنما بين الذين أوتوا الكتاب مبينا أن هذا الاختلاف لم يكن إلا بسبب البغي وهو تعبير عن الانحراف الناشئ عن الاختلاف في المصالح مع سبق الاصرار. لكنه مع ذلك كان حريصا في الدعوة الى احترام ما عبر عنهم بأهل الكتاب وحرية ممارستهم لطقوسهم العبادية وعدم الاساءة إليهم وإعطائهم الحرية في فصل الخصومات بينهم بين الرجوع الى القضاء وفق الشريعة الاسلامية وبين القضاء لهم وفق شريعتهم، فحرم الاعتداء عليهم، وما زالت كلمة أمير المؤمنين ترن في أذن الدهر حينما رأى في السوق مسنا محتاجا فسأل سلام الله عليه عن ذلك فقيل له نصراني فقال عليه السلام: ما أنصفتموه استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه أجروا له من بيت المال. وكلمته المعروفة: الناس إثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
وتابع: “على العموم، فالآية المتقدمة وهي قوله تعالى (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) وإن كانت دعوة الى اتباع ما دعا اليه الاسلام من الهدى والرشاد، فالمستوحى منها هي الدعوة الى التفاهم والتقارب مع من نختلف معهم في الدين وفي الدعوة الى إقامة العدل وعدم العدوان مع من نختلف معهم في الدين لما في قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين)”.
وأردف: “في خصوص السيد المسيح سلام الله عليه وأمه العذراء مريم عليها السلام، فقد نزلت فيهم من السور والآيات ما يمجدهم ويصفهم بأنقى الصفات وأطهرها. فيقول في السيد المسيح سلام الله عليه السلام (انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه) ويقول في مريم وقد خصها بسورة في القرآن (يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم أقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب). ومن هذا الباب نفهم قوله تعالى (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون) فإن في ذلك تحسينا لصورة النصارى في ذهن المسلم وتقريبهم إليه ودعوة الى الانفتاح عليه وإن هنالك ما يجمعهم من الامور الروحانية والتواضع ما يهيئ الارضية للتعاون وإيجاد حياة مشتركة بين اتباع الديانتين والعمل على مواجهة من يعمل على إثارة العداء والبغضاء بينهما. ولو انا تأملنا الآية كلها لكان ذلك واضحا فلنرى الفرق من وجهة نظر الاسلام في التعبير عن العلاقة مع كل من اليهود والنصارى في قوله تعالى ( ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). والفارق هو ما بينته الآية في آخرها “ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون”، فهذه هي الخصوصية التي يشترك فيها النصارى مع المسلمين من الروحانية والمعنوية والاخلاقية وعدم الاستكبار مما لا يتمتع بها اتباع الديانة اليهودية فهم ماديون عنصريون مستكبرون لا يجمعهم مع المسلمين والمسيحيين جامع بل هم على تناقض تام معهم، لا يتقبلون العيش مع الآخرين ولا يحملون في قلوبهم ودا لهم فهم كما وصفهم الله تعالى (فكانت قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة). وفي تشبيه قلوبهم بالحجارة اشارة الى انها خالية من الحياة الروحية والاخلاقية فلا تنفعل ولا تتفاعل مع الآخرين، متقوقعون على أنفسهم وفي ريبة وحذر دائمين من الآخرين وينشغلون دائما بحياكة المؤامرات والفتن وإضعاف الآخرين لا يهدأ لهم بال ولا يشعرون بالسكينة ويعملون على أن يكونوا الاقوى دائما بين ضعفاء”.
وقال الخطيب: “تعرض الله تعالى كثيرا في كتابه للحديث عنهم وعن تقلباتهم وشكهم والحنث بإيمانهم وانقلابهم على عهودهم وخداعهم ومكرهم وحيلهم ودهائهم وخيانتهم وتعلقهم بالدنيا وجبنهم وقتلهم الانبياء فلا مقدس عندهم يستحلون الربا وتلك صفاتهم جماعات وأفرادا، مما يدل على عقد نفسية متأصلة فيهم لم يغيرها مرور الزمن ولا تبدل الأحوال مما يجعل منهم عنصرا خطرا على الانسانية جمعاء وخصوصا قيمها وأخلاقها. ومن هنا تركيز هذه الفئة الفاسدة وبالاخص الصهاينة منهم على نشر الفساد بين الامم والشعوب وبالاخص الاسلامية والمسيحية”.
وتابع: “إن الخصائص المشتركة التي تجمع بين هاتين الديانتين الاسلامية والمسيحية ترتب عليهما التعاون لدفع خطر هذه الفئة انقاذا لهما وللبشرية وليس هنالك من جهة أخرى يمكنها القيام بهذه المهمة. لقد دعونا سابقا الى هذا التعاون الحضاري بين الاسلام والمسيحية لايجاد مشروع مشترك يجابه هذا الخطر الداهم. ومع إننا لا نقف موقفا سلبيا من دعوات الحوار بين الحضارات بحد نفسها، إلا أننا ننظر بحذر الى هذه الدعوات المنطلقة من مشاريع سياسية نرى أن القصد منها من قبل جهات دولية غير بعيدة عن الجهود الرامية لجعل فكرة دمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية فكرة طبيعية مقبولة، يعكسون قول الله تعالى “باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ليكون ظاهرة الرحمة وباطنه من قبله العذاب”.
وقال: “لذلك نجدد الدعوة لتكون المبادرة للدعوة للحوار أولا بين الإسلام والمسيحية وللخروج بمشروع عالمي مشترك لاكبر ديانتين عالميتين ليعم فيما بعد كل ما عداهما ولنواجه معا هذا الخطر الداهم الذي يدعو الى تعميم مفهوم صراع الحضارات الذي يشكل المظهر للعقيدة المسيحية الصهيونية فإن المتضرر الاكبر منها الاسلام والمسيحية.
اننا لا ننطلق في هذه الدعوة من نظرة عنصرية أو لهدف سياسي لاننا نستند في ذلك الى أهم مصدر من مصادر ديننا وهو القرآن الكريم والى سيرة رسولنا الكريم وأهل بيته الطاهرين. ونذكر أخوتنا المسيحيين بعقيدتنا أن الامام المهدي عليه السلام الذي سيملأ الارض قسطا وعدلا إنما سيحقق هذا المشروع مع السيد المسيح عليه السلام، والى جانب ذلك، فهو من أم رومية أسمها نرجس بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، ويرجع نسبها من أمها الى شمعون من حواريي عيسى عليه السلام. لذلك فان هذه الدعوة لا تنطلق من طابع سياسي وإنما من هدف إنساني حضاري مشترك بين الديانتين وهو ضروري لهما، لتتحقق العدالة للشعب الفلسطيني بكل تنوعاته الدينية، وتكون القدس بذلك عاصمة للدولة الفلسطينية الواحدة يصنع أهلها الاصليون عيشهم الواحد، الآمن والمشترك. ومن هذا المنطلق، فعلى اللبنانيين ان يعرفوا قدر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم وأن يحفظوها لا أن يفرطوا فيها أو يكفروا بها، فالذي يجمع بين اللبنانيين كبير جدا، يجمع بينهم الوطن والاخوة الانسانية والقيم الدينية الالهية التي هي أهم وأقوى ما يمكن أن يجمع بين الانسان وأخيه الانسان، بين المواطن وأخيه المواطن. والوظيفة الحضارية التي يستمدونها من الاسلام والمسيحية يشكلون فيها الطليعة لهذا المشروع المشترك المستند الى القيم الالهية والانسانية”.
أضاف: “لقد بحت أصواتنا من النداء لتأليف حكومة جديدة أو القيام بالاصلاحات ولكن ما من مجيب ونسأل الله تعالى ألا نكون قد وصلنا إلى نهاية الطريق، ومع ذلك فإن أعظم الخسائر التي يمكن أن يمنى بها اللبنانيون ليس اقتصادهم وما آلت اليه أمورهم وإن كانت كبيرة لا تغتفر، بل أعظم الخسائر أن يفقدوا دورهم الحضاري والريادي. إننا وإن فقدنا الامل ممن أوصل البلاد إلى هذه الكارثة ولكن لا يجوز لنا أن نفقد الامل بشعبنا وفي إمكانية النهوض من هذا الوضع الكارثي الذي نحن فيه، حيث نتحمل مسؤولية كبرى كشعب وكقوى مدنية ووطنية فاعلة وكمواطنين صالحين في إجبار القوى المتحكمة بمفاصل القرار أن تعطي المجال للقوى المخلصة للامساك بالقرار عبر الضغط الشعبي لانتاج قانون انتخابي متطور قائم على النسبية وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتأليف مجلس الشيوخ وفقا لإتفاق الطائف قادر على إيجاد التغيير اللازم في بنية النظام الذي يستطيع معها إعادة البلد للعب دوره المميز على صعيد المنطقة والعالم. ونحن إذ نرى في التشريعات الأخيرة التي أقرها المجلس النيابي خطوة إصلاحية مهمة إلا ان ذلك يبقى معلقا على إمكانية تطبيقها”.
وختم الخطيب: “نستنكر بشدة الغارات الصهيونية على سوريا والانتهاكات المتواصلة للأجواء اللبنانية، وذلك يستدعي منا التمسك بخيار المقاومة التي هي السبيل الوحيد للحفاظ على أمن واستقرار لبنان، وبمناسبة ذكرى استشهاد القائدين الكبيرين الحاج قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس فاننا نتوجه بتحية الاكبار والتقدير لهذين الشهيدين والى كل الشهداء الابرار الذين قدموا أنفسهم لتحرير أرض بلادهم وكرامة شعوبهم”.