كتبت صحيفة “الجمهورية”: حال البلد في هذه الفترة أشبه بالمريض الذي قطع الأمل نهائيّاً من شفائه، ولم يبقَ له في في هذه الحالة سوى أن ينتظر أن تضربه نوبات وكرائز مختلفة الأشكال والأنواع، تُفاقم أوجاعه السياسية والاقتصادية والمالية وتنحدر به نحو المصير الأسود الذي يلوح في الأفق.
صار الحديث عن رئاسة الجمهورية ممجوجاً، وبلا أي قيمة وبلا أي معنى، فلا مؤشرات خارجية رغم كل الحراكات التي تجري بين حين وآخر، تشي بالحسم الجدّي لهذا الملف، وليس في الأفق الداخلي ما يؤشر إلى امكانية تحرير الاستحقاق الرئاسي من النزوات السياسية والنرجسيات الكريهة التي أسقطت هذا البلد، وقزّمته من رتبة وطن، إلى محميات سياسية وحزبية أخضعته لقرارها، وفصّلته على مقاس مصالحها السياسية وحساباتها وأجنداتها الحزبية.
ماذا سيحمل لودريان
الداخل متموضع في مربّع التعطيل، وحسمت مكونات الإنقسام السياسي خيارها بالتعايش مع دولة بلا رأس، وليس ما يجمع بينها سوى إرادة الصدام والإبتزاز وقطع كل سبل التلاقي على تمرير هذا الاستحقاق بحدّ أدنى من التوافق. واما الخارج، فلم يبرح موقعه الذي يتموضع فيه منذ بداية الأزمة الرئاسية، حيث يكتفي من بعيد بتشخيض المرض وعلاجه، من دون ان يُقرن ذلك بمبادرات او خطوات مباشرة تُلزم التناقضات الداخلية بالتعجيل بانتخاب رئيس الجمهورية وتجنيب لبنان أكلاف التعطيل وأثمانه السياسية والاقتصادية والمالية، التي تتراكم في الأفق.
ضمن هذا السياق، تعدّدت الحراكات الخارجيّة، واما النتيجة فكانت واحدة، هي الفشل، ليس في إيجاد العلاج وتطبيقه فحسب، بل في الوصول إلى مقاربة خارجية واحدة للملف الرئاسي، وهو ما تبدّى علناً في الاجتماع الاخير لـ”الخماسية” في الدوحة، حيث بدا انّ لكل طرف منها مقاربته، ومرشّحه لرئاسة الجمهورية. وهو الأمر الذي يرسم أكثر من علامة استفهام حول مهمّة الموفد الفرنسي جان ايف لودريان في بيروت، وما إذا كان قادراً على تحقيق خرق في الجدار الرئاسي.
تسهيل ووساطة
في هذه الأجواء، أكّدت باريس انّ لودريان سيزور لبنان في الفترة من 25 ( اليوم) إلى 27 تموز المقبل. وجاء في بيان للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، وزعته امس السفارة الفرنسية في بيروت: “سيقوم الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية الفرنسية جان ايف لودريان بزيارة ثانية إلى لبنان في الفترة الممتدة من 25 إلى 27 تموز. ولقد مكّنته رحلته الأولى، من 21 إلى 24 حزيران بلقاء ممثلين عن جميع الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب اللبناني. كما التقى بمسؤولين سياسيين ودينيين وعسكريين. وتوجّه الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية في لبنان بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية في الفترة من 10 إلى 12 تموز ثم إلى قطر حيث شارك في 17 تموز في لقاء خاص بلبنان مع السعودية وقطر والولايات المتحدة ومصر ، قبل أن يعود إلى السعودية في 18 تموز الجاري”.
اضاف البيان: “هذه الرحلة الثانية له إلى لبنان هي جزء من مهمّته للمساعي الحميدة التي يقوم بها، بهدف أن يهيئ جميع أصحاب المصلحة المعنيين الظروف المؤاتية لإيجاد حل توافقي لانتخاب رئيس الجمهورية الذي هو خطوة أساسية لإعادة سير المؤسسات السياسية التي يحتاجها لبنان بشكل عاجل للشروع في طريق الانتعاش”.
باريس جدّية
اللافت في هذا السياق، تأكيد مصادر ديبلوماسية فرنسية على انّ مهمّة لودريان صعبة ودقيقة بالنظر إلى التعقيدات الكبرى في الداخل اللبناني، الّا انّها استغربت استباق زيارته العاصمة اللبنانية، بإشاعة سلبيات تفشّل هذه الزيارة قبل حصولها. وتحفّظت المصادر عمّا يمكن ان يطرحه الموفد الرئاسي من افكار ومشاريع حلول أمام القادة اللبنانيين، الّا انّها قالت لـ”الجمهورية”، “السيد لودريان يتحرّك وفق مندرجات المبادرة الفرنسية، التي لا تزال قائمة، ومدعومة من دول الخماسية، وهو مكلّف ببلورة افكار من شأنها أن تساعد اللبنانيين في تحقيق انفراج في ازمتهم الرئاسية. بالتأكيد هو لا يحمل عصا سحرية، بل افكاراً مشجعة على الخروج من المأزق”.
على انّ اللافت للانتباه ما كشفته مصادر سياسية متابعة للحراكات الخارجية، بأنّ لودريان التي اشارت معلومات الى انّه سيصل الى بيروت اليوم، “لا يتحرّك على خط أحادي فرنسي، بل على أساس ما تقرّر في اجتماع الخماسية في الدوحة، في هذا الاجتماع اعتبر الفرنسيون انّ مخرج الأزمة الرئاسية في لبنان ممكن من خلال الطرح الفرنسي القائم على معادلة “رئيس جمهورية مقابل رئيس حكومة”، الاّ انّ هذا الطرح لم يعبر داخل الخماسية، التي يبدو انّ الرأي الغالب فيها هو الذهاب إلى خيار آخر غير سليمان فرنجية وجهاد ازعور، باعتبار انّ اياً منهما لم يحصل على الأكثرية النيابية المؤهلّة للفوز، خصوصاً في جلسة مجلس النواب الاخيرة، والأرجحية هنا لقائد الجيش العماد جوزف عون، وبالتالي فإنّ حراك لودريان المتجدّد في لبنان قد يصبّ في هذا الاتجاه”. السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: إذاكان طرح “الخيار الثالث” هو جوهر زيارة لودريان، فهل سيتمكن من تمريره؟
مصادر معنية بالملف الرئاسي اكّدت لـ”الجمهورية” انّه “كما انّ المعادلة الفرنسية قد وجدت باريس صعوبة في تسويقها داخلياً وخارجياً، فهذه الصعوبة تنسحب بدورها على طرح الذهاب إلى خيار ثالث. فقد يجد طرح “الخيار الثالث” من يؤيّده في الداخل اللبناني، على اعتبار انّه المخرج الأمثل لأزمة رئاسية صارت بلا أفق، لكن ذلك ليس كافياً لترجمته، حيث انّ في مقابله جبهة اعتراض عريضة عليه، تمتد من “التيار الوطني الحر”، الذي جاهر علناً برفض المعادلة الفرنسية التي توخّت وصول سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية، وكذلك رفض وصول قائد الجيش الى الرئاسة، بالإضافة إلى ثنائي حركة “أمل” وحزب الله” اللذين اكّدا انّ التزامهما بفرنجية نهائي ولا تراجع عن دعمه، وهو ما تمّ إبلاغه صراحة للموفد الفرنسي في زيارته السابقة. ما يعني انّ لودريان إن كان آتياً بطرح الذهاب الى “خيار آخر، فهو طرح ساقط سلفاً ومهمّته فاشلة حتماً”.
ولكن ماذا لو اقتصرت مهمّة لودريان على التحضير لحوار رئاسي بين الاطراف اللبنانيين، قالت المصادر: “الحوار من حيث المبدأ هو الطريق الأسلم لمعالجة كل نقاط الخلاف والتباينات، ولكن في حالتنا فإنّ الحوار لكي يكون مجدياً ومنتجاً ينبغي ان يتوفّر له بداية العنصر الأساس لعقده، وهو إرادة الذهاب الى الحوار، وهذا ليس متوفراً حتى الآن، ولا يبدو انّه سيتوفر، حيث أن لا احد في الداخل يريد الحوار الذي يوصل إلى توافق على رئيس، بل كل طرف يريد حوار الغالب والمغلوب الذي يصبّ في النهاية في ايصال مرشحه حصراً الى رئاسة الجمهورية”.
ظروف قاهرة
وفي موازاة الأجواء السلبية التي تنعى مهمّة لودريان الجديدة، تتعاظم المخاوف من تدحرج الوضع الداخلي نحو مصاعب اكبر. واللافت للانتباه في هذا السياق ما نُقل عن سفير احدى دول الخماسية قوله ما مفاده، انّ “الحل متاح في لبنان وفق ما اكّدت عليه اللجنة الخماسية، لجهة أن يمارس اللبنانيون دورهم في انتخاب رئيسهم وفق مندرجات الدستور اللبناني، حيث انّ الوقت لم يعد يعمل لصالح لبنان، الدول الصديقة تشكّل عاملاً مساعداً للبنانيين في تجاوز أزمتهم، فقد ضاع الكثير من الوقت، ومع الأسف أضاع اللبنانيون الكثير من الفرص، والفرصة المتاحة حالياً امتحان جدّي للبنانيين، اللجنة الخماسية حدّدت الإطار الذي ينبغي ان يتوافق من خلاله اللبنانيون على إنجاز استحقاقهم الدستوري في اقرب وقت ممكن، فلبنان بلغت أزمته مستوى عالياً من الاستعصاء، والمراوحة في الاستعصاء لا ينتج عنها سوى مزيد من الاستعصاء الذي يُخشى في اي لحظة ان ينحدر الى خلق ظروف قاهرة قد يشهدها لبنان، يصعب معها اي حل، حتى لا اقول يستحيل أي حل”.
فلتان غير مسبوق
المخاوف التي عبّر عنها السفير العربي المذكور، تقاطعت مع قراءة شديدة التشاؤم للواقع اللبناني، عرضها مرجع سياسي لـ”الجمهورية” بقوله، انّ “أفق الحل الرئاسي مسدود بالكامل في الداخل، ولا نعوّل على أي حراك خارجي، ولهذا الانسداد تداعياته الحتمية، أخشى اننا نتخبّط اليوم في مرحلة انتقالية الى ما هو أعظم واسوأ، الدولة غير موجودة، وسلطاتها معدومة، وهذا يفتح الباب واسعاً على فلتان غير مسبوق على كل المستويات”.
وأعرب المرجع عن تخوّفه الكبير من الشائعات والترويجات التي بدأت تضخّها بعض الغرف السوداء في الايام الأخيرة، وتنذر بتوترات وارباكات سياسية ومصاعب اقتصادية وانهيارات نقدية مريعة، وقال: “في زمن القحط السياسي، يجب ان نتوقع كلّ شيء، أخشى اننا ذاهبون الى المجهول، الله يعين الناس”.
موازنة ونواب الحاكم
في هذه الأجواء، ظلّ موضوع حاكمية مصرف لبنان البند الأول في جدول المتابعات الداخلية، وسط حديث متزايد عن استقالة حتمية لنواب حاكم مصرف لبنان الاربعة، على مسافة ايام قليلة من انتهاء ولاية الحاكم الحالي رياض سلامة.
وفيما بات مؤكّداً صعوبة تعيين حاكم جديد، كثرت التكهنات حول ما يمكن ان يُقدم عليه نواب الحاكم، مع ترجيح تقديم استقالتهم، اكّدت مصادر موثوقة لـ”الجمهورية”، انّ خيار الاستقالة موجود وقائم الّا انّه ليس نهائياً، ومشروط بمنح النائب الاول وسيم منصوري الضمانات القانونية التي تمكّنه من تسيير العمل في الحاكمية بعد انتهاء ولاية سلامة، والتي تحول دون السقوط في مطبّات او تعقيدات غير محسوبة قد تترتب عليها أوخم العواقب المالية والنقدية. وهذا الامر بيد السلطة السياسية التي عليها ان توفّر هذه الضمانات”.
هذا الامر كان محور اللقاء الذي عقده رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي امس مع نواب الحاكم وسيم منصوري بشير يقظان، سليم شاهين وألكسندر مردايان، في حضور نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. حيث أفيد بأنّ ميقاتي يعمل لثني النواب عن الاستقالة، مطمئناً اياّهم بأنّ الحكومة ستطلب من مجلس النواب إصدار التشريعات والقوانين التي يطلبونها.
والموضوع نفسه، تمّ التطرق اليه في جلسة مجلس الوزراء التي عُقدت في السرايا حول موضوع موازنة العام 2023، وكشف وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري بعد الجلسة، انّ “الرئيس ميقاتي أكّد انّ الخيار الأنسب هو تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان متى سمحت الظروف بذلك، لا سيما أنّه من واجب الحكومة تأمين سير المرفق العام”. أضاف: “طلب نواب حاكم مصرف لبنان توفير الغطاء لإقراض الحكومة وتأمين الرواتب، وقد طالب الوزراء بضرورة تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان”.
واستبعد وزير المالية يوسف الخليل استقالة نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة بعد انتهاء ولاية الحاكم، لكنّه أكّد أن لا معلومات أكيدة حول ذلك. لافتاً الى أنّ الموضوع يُحل من خلال “حوار هادئ وعلمي”، مشيراً إلى أنّ “لنواب الحاكم خطةً اقتصادية قريبة من خطة الدولة”.
وأوضح وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، انّ استقالة نواب الحاكم يجب أن يقبلها مجلس الوزراء، واجتماعهم مع الرئيس ميقاتي (امس)، كان ايجابياً وتمّ إعطاؤهم مهلة 48 ساعة لأن يعودوا مع أجوبة، وعلى إثر ذلك سيدعو ميقاتي إلى جلسة حكومية بين الخميس والجمعة لتفادي أي خضة”.