ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “عندما حان أوان خلاصنا بتجسد الإبن الوحيد كانت البشرية بأسرها، يهودا وأمميين، تعاني من العمى الروحي. فاليهود أعماهم تمسكهم الحرفي بالناموس وقسوة قلوبهم، أما الوثنيون فضلالهم أبقاهم خارج الهدي الإلهي. إنجيل اليوم يحدثنا عن شفاء الرب يسوع لأعميين وأخرس. الأعميان يمثلان العالم بجناحيه، اليهود والأمم، العائد إلى السيد تائبا، ملتمسا منه الشفاء. الإعاقة الجسدية ليست مشكلة عند الرب يسوع، لأنه قادر على كل شيء، خصوصا شفاء الجسد. لكن المشكلة الحقيقية هي الإعاقة الروحية، لذا يطرح الرب دائما الأسئلة الإيمانية على طالب الشفاء، ليتأكد من رغبته الحرة في شفاء نفسه أولا، ثم يأتي شفاء الجسد. لقد قال الرب: «أطلبوا أولا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم» (مت 6: 33). الأهم عند الرب، وما يجب أن يكون الأهم لدينا، هو شفاء الروح قبل الجسد، الأمر الذي نلمسه في سائر الشفاءات والمعجزات التي قام بها”.
أضاف: “يخاطب الإنجيلي متى في إنجيل اليوم الشعب اليهودي ويقيم مقارنة بينه وبين الأمميين، ليؤكد أن الله هو إله واحد عالمي، أي ليس حكرا على شعب واحد فقط. الأعميان في الإنجيل يرمزان إلى الشعب اليهودي الذي أصيب بالعمى بسبب كبريائه، ظنا منه أنه الشعب المختار والخاص لله، وإلى الأمم الذين أعمتهم وثنيتهم عن رؤية الإله الحق. الشعبان أعماهما «إله هذا الدهر»، فظهرا غير مؤمنين. لذلك، يسألهما المسيح: «هل تؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟». لا يكفي أنهما اعترفا أنه «ابن داود»، لأننا رأينا في حادثة دخول الشياطين إلى قطيع الخنازير قبلا، أن الشياطين تعترف بهوية المسيح، لكنها لا تؤمن به. لذا، اعتراف الإيمان مهم جدا في سبيل الحصول على الشفاء. في القداس الإلهي، نحن نتلو دستور الإيمان، ونعترف «بآب وابن وروح قدس، ثالوث متساو في الجوهر، وغير منفصل»، قبل أن نصل إلى الاشتراك في القدسات لشفاء النفس والجسد. هذا ما حصل مع تلميذي عمواس، اللذين أغلقت أعينهما عن معرفة الرب، مع أنهما كانا من تلاميذه، ذلك لأنهما غرقا في هموم هذا الدهر، وفي الأخبار المتناقلة، ولم تنفتح أعينهما إلا عندما كسر الخبز، فعرفاه، لكنه اختفى عنهما. هذا الاختفاء كان بابا فتحه لهما لكي يذهبا ويخبرا عنه، أي لكي ينطلق لساناهما بالبشارة الإلهية، فلا يعود الخوف يخرسهما. كذلك نحن، كمؤمنين مستنيرين بالروح القدس بالمعمودية، يجب علينا أن نعرف الرب، إلا أن هموم هذا العالم تحجب المسيح من أمام أعيننا، فتعمينا عما فيه خلاصنا، ونصبح مشابهين للأعميين معا: متكبرين بسبب انتمائنا إلى المسيح، ظانين أننا أفضل الجميع، ومستعبدين لوثنيتنا بعبادتنا الماديات التي أسقطنا هذا العالم في وهم الحاجة إليها أكثر من الرب. بعدما شفي الأعميان، طلب منهما الرب ألا يخبرا أحدا بما فعله، لكنهما لم يستطيعا إلا أن يبشرا بمحبته غير المحدودة، وبقوته الشافية للنفس والجسد، فأخبرا كل الأرض عنه”.
وتابع: “عندما يلمس الرب النفس، يغدق عليها فرحا عظيما لا تستطيع كبته، لأنها لا تتسع له، فتهرع إلى مشاركته مع الجميع، فيكون فرح عظيم في كل الأرض. أما الأخرس فيظهر لنا كم أن الشيطان، بقوته، يستطيع التحكم بالإنسان المستسلم له، فيحركه على هواه وتهلك نفسه إلى الأبد. في المقابل، من تنفتح عيناه لرؤية الله، يعرف الله حقا، فيحبه، وتنفك عقدة لسانه، ويطفر في الأرض مسبحا الرب ومخبرا الجميع بعظمته. هكذا، من يرى المسيح ويسبحه، يكون كأحد ملائكة السماء، إنما عائشا على الأرض، متذوقا الملكوت مسبقا. يقول النبي إشعياء: «تشددوا لا تخافوا، هوذا إلهكم، الإنتقام يأتي، جزاء الله، هو يأتي ويخلصكم. حينئذ تتفتح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس» (35: 4 – 6). لقد حضر الرب لكي ينتقم لنا، ويخلصنا من بأس الشياطين وتسلطها علينا بواسطة الخطايا. لكن كثيرين يعاينون خلاص الرب بأعينهم ويبقى موقفهم سلبيا مثل الفريسيين القائلين: «إنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين». هؤلاء يتشبثون بعماهم ولسانهم المعقود، ولا يريدون رؤية الحقيقة والتبشير بها، لأنها لا تناسب مصلحتهم. لقد ظن الفريسيون أنهم إن اعترفوا بالمسيح يفقدون وظيفتهم كمتحكمين بالشعب، وجهلوا أنهم كانوا ليتحولوا إلى صيادي ناس، تماما كالرسل، يوصلون البشر إلى الملكوت السماوي، بدلا من إهلاك نفوسهم. لهذا يقول عنهم المسيح: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم، ولا تدعون الداخلين يدخلون» (مت 23: 13).
وقال: “زعماء هذا البلد يشبهون الفريسيين، فهم لا يريدون خلاص البلد والشعب، ولا يتزحزحون من درب الذين يشاؤون العمل من أجل الإصلاح وانتهاء الأزمات والوصول إلى دولة مؤسسات لا فساد فيها ولا محسوبيات ولا استقواء، دولة جيشها واحد، وحدودها واضحة، وقضاءها عادل، ورزقها للخير العام، لا للجيوب الخاصة. يتوقفون عند شغور مركز ويقيمون الأرض وما فيها من أجل ملئه ويتناسون أن المشكلة في شغور المركز الأول، أي في غياب الرأس، وأن كل المراكز تملأ وعجلة الدولة تدور عند انتخاب رئيس وتشكيل حكومة تجري الإصلاحات اللازمة. لقد حان الوقت لإعادة إدخال مفاهيم إلى سلوك السياسيين كاحترام الدستور وتطبيق القوانين والنزاهة والشفافية والصدق والقيام بالواجب والمحاسبة، مفاهيم ضاعت لكنها ضرورية لإنتظام الحياة العامة”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نفتح أعيننا لرؤية الحقيقة الوحيدة، أي المسيح، وأن نطلق ألسنتنا بالتسبيح الدائم والاعتراف بالإله الحي بلا خجل، مخبرين كل الأرض عن عظمته ومحبته غير المتناهية”.