وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة بداية رأس السنة الهجرية الجديدة الاتي نصها: “الحمدُ للهِ ذِي الفَضْلِ والإحْسَان ، شرعَ لعبادِه هِجْرةَ القُلوبِ وهِجْرةَ الأَبْدَان، وجَعَلَ هاتين الهِجْرَتين باقِيَتَيْنِ على مَرِّ الزَّمان .
وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ، وعدَ المُهَاجِرين إليهِ أجْرَاً عَظِيماً ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ ، وقالَ تَعَالى : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، وقَالَ تَعَالى : ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
وأشْهَدُ أنَّ محمداً عَبْدُه ورسُولُه ، هَاجرَ إلى رَبِّه فآوَاه وحَمَاه ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أن قَال : (لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وعلى آلِه وأصْحَابِه الذين هَاجَرُوا وجَاهَدُوا في سَبِيلِ الله ، حتَّى فَتَحُوا القُلوبَ والبُلْدَان ، ونَشَرُوا العدلَ والإيمانَ والإحْسَان.
أما بعد :
أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :
مع حلولِ كلِّ عامٍ هجريٍّ جديد ، يقفُ المسلمونَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها مُحْتَفِينَ بعامٍ جديد ، ومُسْتَذْكِرين أحداثَ الهجرةِ النبويةِ الشريفة ، التي تَسْتَحِقُّ الوِقْفَةَ المُتَأَنِّيَة ، لأنها كانتْ في حقيقتِها ، حَدَثاً بالغَ الأهميةِ في تاريخِ العربِ والمسلمين ، إذ إنَّها لم تَكُنْ نُزْهَةً ولا رِحْلَةً سياحِيَّةً للتَرْفِيهِ والتَّفَرُّجِ والاطْلاع ، ولم تَكُنْ سَفَرَاً وانْتِقَالاً لتحصيلِ مُتَعِ الدُّنْيَا ومَلَذَّاتِهَا ، وإنما كانتْ انْتِقَالاً مِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ على العقيدة ، وتضحيةً بالنفسِ والمالِ والأهلِ والولد، مِنْ أجلِ العقيدة ، فهيَ تَبْدَأُ من أجلِ العقيدة ، وغَايتُها العقيدة .
ففي العامِ الرابعَ عَشَرَ للبَعثَة ، الموافقِ للعامِ سِتِّمِئةٍ واثنينِ وعِشرينَ للميلاد ، وفي مثلِ هذه الأيَّام ، اُضْطُرَّ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه، للخروجِ مِنْ بيتِه ، ومَسْقِطِ رأسِهِ بِمَكَّةَ أُمِّ القُرى ، مُهاجِراً إلى يَثْرِب ، التي سمَّاها المَدينة، بعدَ أشِ استقرَّ فيها.
لماذا هاجرَ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ؟ لأنَّهُ بَعدَ اثنَيْ عَشَرَ عاماً مِنَ الدَّعوةِ إلى توحيدِ الله ، بينَ بَني قَومِه ، عانَى كمَا عانَى الذينَ اتَّبَعُوا دَعوتَهُ الاضْطِهادَ، والتَّجويعَ ، والقَتْلَ ، وفَقدَ الحُرِّيَّة ؛ بحيثُ ما عادَ مُمْكِناً له ولأتْباعِهِ الاستِمْرار ، إنْ أرادُوا الإيمانَ والكَرامَةَ والحُرِّيَّة . هؤلاءِ المؤمنونَ الثَّابتونَ على دِينِهِم وَيَقِينِهِم، يقولُ عنهُمُ القرآنُ الكريم : ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ ، ويقولُ أيضاً : ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ .
هؤلاءِ الصَّادقون الذينَ تَركوا دِيارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَأَحْيَاناً أُسَرَهُم ، وقَبْلَ هِجْرَةِ نَبِيِّهِمْ وَبَعْدَها ، لَقُوا تَرْحَاباً واحْتِضَاناً في دارِ الهِجْرة، وبِقِيَادَةِ نَبِيِّهِمْ صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه ، أَنْشَأُوا مُجْتَمَعاً ، وأَقامُوا دَولةً ، ثُمَّ عَادُوا بَعدَ ثمَاني سنواتٍ لتَصْحِيحِ الأوضَاعِ بِمكَّة .
لقد حاولَ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه ، وَطَوَالَ قُرَابةِ الثلاثَةَ عَشَرَ عاماً مِنْ دَعوَتِهِ بمكّة ، أنْ يُبشِّرَ بني قومِهِ ويُنذِرَهُم ، فَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيل . بَيدَ أنَّ هذا الإعْرَاضَ ، ما اقتصَرَ على عَدَمِ الإيمانِ والاتِّبَاع . بل إنَّ سادةَ قُريشٍ عَمَدُوا إلى اضطِهادِ أولئكَ الذين أَصْغَوا إلى دَعوَةِ الحق . وما تَزَالُ صَرَخَاتُ سُمَيَّةَ وبلالٍ وعَمَّارٍ تَحتَ التعذيب ، ماضيةً عَبْرَ الزَّمَان ، ويُشيرُ إلى ذاكَ الثَبَاتُ الذي يَهَبُهُ الإيمَان ، وتلكَ الطُمَأنِينَةُ الوَادِعَة ، التي يَنْفُخُ في جَنَباتِها اليقينُ بوعدِ اللهِ للمُؤمنين الصَادِقِين ، وَوَعيدِه للجَبَّارين والمُتكبِّرين . قَالَ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ، وقد حاوَلوا إغراءَه بعدَ الوَعِيد : (واللهِ لو وَضَعُوا الشَّمسَ في يَميني ، والقمرَ في يَسَاري، على أنْ أترُكَ هذا الأمرَ ما فَعَلْت) . فتَعَالتْ قُريشٌ على بني عبدِ المُطَّلِبِ وعَزَلَتْهُم ، وحاصَرَتْهُم في الشِّعْبِ ثلاثَ سِنين ، حتى أكلوا وَرَقَ الشَّجَر، وما ذَلّوا ولا استَكَانوا . ثم أمرَ رسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الذينَ لا يَستطيعون الدِّفاعَ عَنْ أنفُسِهِمْ مِنَ المُؤمنين، بالهِجرةِ إلى الحَبَشَة ، وقال لهم : (إنَّ فيها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أَحَد) . وخَشِيَتْ قُريشٌ أنْ تَنتَشِرَ الدَّعوَةُ بهذهِ الطَّريقةِ خارِجَ مَكّة ، فأرسَلتْ رُسُلَهَا إلى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشةِ المَسِيحيّ ، لِيَطرُدَ المُسْلِمينَ مِنْ عِندِه وقد زَعَمَ رَسُولا قُريشٍ أنَّ هؤلاءِ اللاجئينَ عِندَه والطَّالبينَ الحِمَايَةَ والعَيشَ مُؤَقَّتاً في جِوَارِه ، هُمْ ضِدُّ دَعوةِ عيسى عليهِ السَّلام ، فقرأَ جَعفرُ بْنُ أبي طَالِب ، اِبْنُ عَمِّ النبيِّ على المَلِكِ صَدْرَاً مِنْ سُورةِ مريم ، فتأثَّرَ النَّجَاشِيُّ وقال: (إنَّ هذا ، ومَا أَتَى بِه عيسى ، لَيَخرُجُ مِنْ مِشكاةٍ واحدة) . وأبى أنْ يَطرُدَ الآتِينَ إليهِ هَرَبَاً مِنَ الاضْطِهادِ بِسَبَبِ إيمانِهم ، وأصبحَ المسيحيون في أرضِ الحبشةِ، أولَ أصدقاءِ الدعوةِ الجَدِيدَة ، وأوَّلَ أصدقاءِ أهلِها.
ثمَّ انطلقَ رَسولُ اللهِ بِصُحْبَةِ أبي بكر، يَقْصِدُ العَربَ في مواسِمِهِم، فَيَدْعوهُمْ إلى مائدةِ الحَقِّ والصِّدق . وَمضَى إلى الطَّائف ، فلم يَأْبَهْ لَهُ وُجَهَاؤُها، لِأنَّهم كانوا يَعرِفُونَ مِنْ قُريشٍ أنَّ محمداً ليس مَلِكَاً ولا جَبَّاراً ، وإنما هو ابنُ امْرأةٍ مِنْ قُريشٍ كانتْ تأكُلُ القَدِيدَ بمكة ، وتَبِعَهُ سُفهاؤُهم وغِلمَانُهم يَسخَرُونَ منه، فَخَرَجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِف ، وذَكَرَ اسْتِغَاثَتَهُ المَشْهُورَةِ بِوَجْهِ اللهِ الذي أضاءَتْ لهُ السَّمَواتُ والأرض، أنْ لا يَكِلَهُ إلى العَدُوِّ أو الشَّانِئ ، وقال : (إنْ لمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي) .
هذه أطرافٌ مِمَّا عاناه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في سنواتِ دَعْوَتِه الأُولَى. ولِذَلك فَقَدْ رَجَا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، أنْ يَجِدَ في الهِجرةِ إلى يَثرِبَ فَرَجَاً ومَخرَجَاً. فَقَدْ كانَ بينَ خِيارَيْنِ أحلاهُما مُرّ: أنْ يَبقَى بمَكَّةَ مَعَ الذين آمنوا بِدعوتِه ، مُتَحَمِّلِينَ سَفَاهَةَ السُّفَهاء ، وشَمَاتَةَ الأعداء – أو أنْ يَخرُجَ مِنْ وَطَنِهِ مِنْ أجلِ الدَّعوةِ والفُرَصِ الأفضلِ لِنَجَاحِها . وقد رأى أنَّ تِلكَ الفُرَصَ مُمْكِنةٌ ، بعدَ التقائهِ بِجمَاعَاتٍ مِنْ أهلِ يَثرِب، دَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فاسْتَجَابُوا ، وَدَعَوْهُ إلى بَلْدَتِهِم. فَخَرَجَ عليهِ الصَلاةُ والسَّلامُ إلى يَثرِبَ سِرّاً ، يَصْحَبُهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيق ، بَعدَ أنْ كانَ قد طَلَبَ مِنْ أصحَابِهِ خِلالَ عامٍ أنْ يَخرُجُوا قَبْلَهُ مُتَفَرِّقِين ، حتى لا تَرُدَّهُمْ قُريش.
لقد تَحمَّلَ عليه الصَلاةُ والسَّلامُ مَشَقَّاتِ مُغَادَرَةِ البيتِ الوَادِع ، والحَرَمِ الذي نشَأَ على الطَّوافِ بِهِ ومِنْ حَولِه . وفي كلِّ ذلكَ مَسؤوليَّاتٌ هائلة ، لكنَّها هانَتْ عليه وعلى مِئاتِ المُؤمنين ، مِنْ أجلِ صَوْنِ إيمانِهم ، وَفَتحِ آفاقٍ أُخْرَى لِلدَّعوةِ والدِّين.
نَعَم أَيُّهَا المُسْلِمون : نحن نَتَذَكَّرُ الهِجْرَة ، بِاعْتِبَارِهَا تَجْرِبَةَ نَجَاح . لكنّهَا كَانَتْ أيضاً تَجْرِبَةَ نِضَال ، عَانَى خِلالَهَا المُسلِمُونَ مِنَ الاضْطِهَادِ وَالقَتْل ، وَمُغَادَرَةِ الدِّيَار ، لقد كانوا بَينَ أَحَدِ أَمْرَين: إِمَّا تَرْكُ الدِّين ، أو مُغَادَرَةُ الدِّيار . وَقَدِ اخْتَارُوا الإِصْرَارَ على دِينِهِم وَإيمَانِهِم ، مُقتَدِينَ بِرَسُولِهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه، عِندَمَا قال: (وَاللهِ لَو وَضَعْتُمُ الشَّمْسَ في يَمِينِي، وَالقَمَرَ في يَسَارِي ، عَلى أَنْ أَتْرُكَ هذا الأَمْر، مَا فَعَلْت، أَو أَهْلِكَ دُونَه) . لكنَّهُمْ في هذا الخِيَارِ الوَاعِي ، كَسَبُوا الأَمْرَينِ مَعاً : كَسَبُوا حُرِّيَّتَهُمُ الدِّينِيَّة ، وَكَسَبُوا أيضاً أَوطَانَهُمْ بِالعَودَةِ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَة ، أَحْرَاراً وَمُتَعَالِينَ عَنِ الاضْطِهَاد ، أَو مُلاحَقَةِ خُصُومِهِمُ السَّابِقِين ، فالهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ إذاً تُعطِينَا هَذَينِ المِثَالَين : أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالحُرِّيَّة ، يُكْسِبُنَا الدَّولَةَ الحُرَّةَ وَالقَوِيَّة ، كَمَا أنَّهُ يُكْسِبُنَا الدَّارَ وَالوَطَن ، وَالعَيشَ المُشتَرَك ، بَعِيداً عَنِ الاسْتِقْوَاءِ وَالافْتِرَاءِ وَالاسْتِئْثَار.
عندما كان نَبِيُّنَا وَرَسُولُنا وَقُدْوَتُنَا مُحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الذي نَفْتَخِرُ بهِ ونعتز ، يُقِيمُ الدَّولَةَ الجَدِيدَة، مَا اسْتَبِعَدَ أحداً ، وَلا تَحَدَّى قَرَارَ أَحَدٍ أَو حُرِّيَّتَه . وَمَا اسْتَعْمَلُوا وَقْتَهَا مُصْطَلَحَ العَيشِ المُشْتَرَك ، بَلْ سَمَّوُا الدَّارَ الجَدِيدَة ، دَارَ الجَمَاعَة ، وَدَارَ العَهْد، وَدَارَ العَقْد، وَدَارَ الأُمَّةِ الوَاحِدَة . مَعْنَى لِذَلِك ، إِلا مَا نُسَمِّيهِ اليَوم ، العَيشَ المُشْتَرَك. بَلْ إِنَّ كُلَّ البَاحِثِينَ الغَربِيِّينَ وَالمُسْلِمِين ، سَمَّوا كِتَابَ المَدِينَةِ أو صَحِيفَتَهَا دُستُوراً . وَهُوَ دُستُورٌ لِلاعْتِرَافِ بِالجَمَاعَاتِ المُخْتَلِفَة ، المُشَارِكَةِ في العَقْدِ وَالعَهْد ، وَلِتَنْظِيمِ التَّعَامُلِ فِيمَا بَينَهَا بِالقِسْطِ وَالإنْصَاف ، وَالعَدْلِ وَرُوحِ المحبةِ والتَّسَامُح .
أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :
ولأنَّ الهِجْرِةَ النَبَوِيَّةَ الشَّرِيفَة ، تَقَعُ في وَعْيِ المُسْلِمِين، بَينَ ثَلاثَةِ اعتبارات : اِستِمرَارُ الكِفَاحِ مِنْ أَجلِ حُرِّيَّةِ الدَّعوَة ، وَحُرِّيَّةِ القَولِ وَالعَمَل ، وَمُغَادَرَةُ الدَّارِ
وَالمَوْطِن، مِنْ أَجْلِ إِحقَاقِ ذَلِك – وَالسَّعْيِ لِإقامَةِ (الأُمَّةِ مِن دُونِ النَّاس) التي أَعْلَنَ عَنهَا رَسُولُ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه ، في كِتَابِ المَدِينَةِ بَعدَ الهِجرَةِ
مُبَاشَرةً . والاعتبارُ الثَّالِث : الاقتِدَاءُ بِتَجْرِبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في إِقَامَةِ الدَّولَةِ الجَامِعَةِ والقَوِيِّةِ والمُتَمَاسِكَة ، برغمَ الاخْتِلافِ الدِّينِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيّ ، وَتُؤَسِّسُ وُجُودَها وَقَرَارَاتِهَا على التَّعَاقُدِ الذي يُشْرِكُ الجَمِيع ، وَلا يَسْتَثْنِي فَرِيقاً أو أحداً إذا كَانَ مُوَافِقاً على المُشَارَكَة .
مَا شَهِدَ لبنانُ إِلا في النَّادِرِ هذه المَلَفَّاتِ المُتَشَابِكَةَ وَالمُعَقَّدَة ، في الأَمْنِ الوَطَنِيّ ، وفي الاقْتِصَاد ، وفي العَمَلِ السِّيَاسِيّ ، وفي عَلاقَاتِهِ العَرَبِيةِ وَالدَّولِيَّة. وهذا التَّعَقُّدُ في المَلَفَّات ، لهُ ثَلاثُ عِلَل: إِصْرَارُ كُلِّ فَرِيقٍ على جَذْبِ المِيَاهِ إلى طَاحُونِهِ وَحْدَه ، وفي الصَّغِيرَةِ قَبلَ الكبيرة . ولذلك ، تَتَكَاثَرُ التَّجَاذُبَاتُ وَالنِّزَاعَاتُ إلى مَا لا نِهَايَة . وإذا كان هذا الأمرُ خَطَأً في أَسالِيبِ مُوَاجَهةِ الاخْتِلافَات ؛ فإنَّ العِلَّةَ الأُخْرَى أَكْبَرُ وَأَفْجَع، وَتَتَمَثَّلُ في اسْتِمْرَارِ الخِلافَاتِ بِشَأْنِ الثَّوَابِتِ التي لا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَمِرّ، لأَنَّهَا تُشَكِّلُ ضَرباً لِلأُسُسِ التي يَقُومُ عليها العَيشُ المُشتَرَك ، وَتَقُومُ عليها الحَيَاةُ الوَطَنِيَّةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّة .
أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :
فَوقَ أَزَمَاتِنا الوَطَنِيَّةِ المُتَكاثِرة، نَعيشُ في هَذِه الأيامِ أَزْمَةً جديدةً، هي الأَسْوَأُ وَقْعاً : اِنْتِخَابُ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريَّة . وهذهِ الأزْمَةُ بِالذَّات ، ما كانَ لها دَاعٍ . فالجَمِيعُ يقولونَ بِالطَّائفِ والدُّستور. والدُّستورُ حَدَّدَ مَسَاراً واضِحاً لانْتِخاباتِ الرَّئيس ، فلماذا لا نَتَّبِعُ هذا المَسارَ الوَاضِح ، دُونَمَا اتِّهاماتٍ مُتَبَادَلَة ، وتَعْطِيلِ ما لا يَصِحُّ تَعْطِيلُه ؟
ما يَجرِي اليومَ على السَّاحَةِ اللبنانيةِ مِن شُغورٍ رِئاسِيٍّ ، وتصريفِ أعمالٍ في الحكومةِ بِالحُدُودِ الضَّيِّقَةِ ، وتعطيلِ انعقادِ جَلَسَاتٍ تشرِيعِيَّةٍ في المَجلِسِ النِّيَابِيّ ، هُوَ مَعِيبٌ بِحَقِّ كُلِّ مَن يُعَرقِلُ إنجازِ هذِه الاستِحقاقَاتِ التي لا يَنْهَضُ البلدُ مِن دُونِ تَحقِيقِها ، وأَوَّلُها انتخابُ رئيسٍ لِيُعِيدَ لِلوَطَنِ مَكَانَتَه، وَلِلمُؤَسَّساتِ تَوَازُنَها ، ولكي نَقولَ لِلعَالَم: نحن كلبنانيين مَهمَا اختَلَفنَا فَسَنَبقَى مُحافِظِينَ على لبنانَ العَربِيِّ الهُوِيَّةِ والانتماء ، وإذا لم نُسارِعْ إلى تَدَارُكٍ هذا الأًمرٍ بٍتنفِيذِ ما ذَكَرْنا آنفاً فإنَّ الشَّرخَ والَّفَتُّتَ والانهيارَ والفَوضَى بشتَّى أَنواعِها سَتَزداد ، كفانا تذاكياً ومُزايدَاتٍ على بَعضِنَا بعضًا، فعلى الجميعِ التَّنازُلُ لِمَصلحَةِ الوَطنِ ، وإلا فنحن ذاهبون إلى الظَّلام، حيث تَنتَظِرُنا الويلاتُ والمَصائبُ التي سَتَقَعُ على الوَطَنِ وعلى جَميعِ اللبنانيين .
إنَّ السُّكُوتَ عَنْ مَطالِبِ اللبنانيينَ المُحِقَّةَ جريمةٌ لا تُغتَفَرُ ، وتحقيقُها مُطالَبٌ بهِ كُلُّ مَسؤُولٍ في هذه الدَّولةِ أياً كان مَوقِعُه ، لقد نَفِدَ صَبرُ المُواطِنِ الذي يُعانِي الأَمَرَّينِ في مَعِيشَتِه ، لا نُرِيدُ بَعدَ اليومِ أقوالاً وخطاباتٍ وَمَواقِفَ وتَصَارِيحَ رَنَّانَةٍ لا تُسمِنُ ولا تُغنِي مِنْ جُوع ، بل نريدُ أفعالاً تَنتَشِلُ المُواطِنِينَ مِمَّا هُمْ فيه ، اِنتظرْنا بِما يَكفِي ، صَرخَتُنا اليومَ هي صَرخَةُ كُلِّ النَّاسِ الذين يعانون مِمَّا يَجرِي في وَطَنِنا ، ونحن في نَظَرِنا وفي نَظَرِ كُلِّ اللبنانيين الجَميعُ مسؤولون ويتَحَمَّلون الأَخطَاءَ والخَطَايَا ، رُغمَ تَفاوُتِ الدَّرجَاتِ في المسؤولية. يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ في مُحكَمِ تَنزِيلِه : ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ .
إنَّ المَرجِعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ دَورُها وَطَنِيٌّ وَتَوجِيهِيٌّ ، ولم تُقَصِّرْ في رَفعِ الصَّوتِ دائماً لِحَثِّ المَسؤولين على اتخاذِ المُبَادَراتِ والقَرَارَاتِ التي تَهُمُّ الوَطَنَ والمُوَاطِن ، ولكن يَبدُو أنْ ليسَ هناك مِنْ مُجِيبٍ ، وهذا لا يَعنِي أَنَّنَا استسلمْنا لِلأمرِ الوَاقِعِ المُؤلِم ، وسنبقى نُطالِبُ بِهذهِ الحُقوقِ وَنَدعُو دائماً إلى تحقيقِها ، وَنَقِفُ في وَجهِ الظُّلمِ الذي يُلاحِقُ النَّاسَ في حياتِهِم، فَمَا ضَاعَ حَقٌ وَرَاءَهُ مُطالِبٌ ، فَالمُطالَبَةُ بِالحقوقِ أمرٌ مَشرُوعٌ كَفَلَهُ الدُّستورُ .
أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :
ولِمُناسَبةِ الهِجرةِ التي صَارَتِ انْتِصَاراً لِمَبادئِ الحَقِّ والعَدل، أَقولُ لِكُلِّ النُّوَّاب ، وَلِنُّوَّابِ المسلمينَ بِالذَّات : أنتُمْ تَشْكُونَ مِنْ قِلَّةِ الوَزْنِ وَالتَّوَازُن ، وما ذلِكَ إلا لِلتَّشَرْذُمِ الذي نَالَ مِنْ وَحْدَةِ الصَّفّ ، وَمِنَ القُدْرَةِ على التَّضَامُنِ وَرِعايَةِ المَصَالِح . لا بُدَّ مِنْ أنْ تَجْتَمِعوا ليسَ لِحِفْظِ حُقوقِكُمْ فقط ؛ بل وَلِتَحْقِيقِ المَصْلَحَةِ الوَطَنِيَّة ، في أنْ يَكونَ لِلُبنانَ رئيس ، تُمَكِّنُهُ الكَفاءَةُ وَالخِبْرَةُ والنَّزَاهَةُ مِنْ أنْ يَتَقَدَّمَ الصُّفوفَ ، لِحَلِّ المُشْكِلاتِ المُتَرَاكِمة . إنْ لم يَكُنْ لكُمْ بِسَبَبِ وَحْدَتِكُمْ وَزْنٌ في انْتِخابِ الرَّئيس العتيد ، فلنْ يكونَ لكُمْ وَزْنٌ في الحُكومةِ ورَئيسِها.
أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :
لقَد دَخَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ إلى يَثْرِبَ فَصَارَتِ المَدِينَةَ المُنَوَّرة . ويَكُونُ علينا أنْ نَحْفَظَ مَعْنَى المَدينةِ في عُقولِنا وَأَعْمَالِنا ، وَعَلينا أنْ نُهاجِرَ مِنَ التَّخَاذُلِ إلى التَّنَاصُر ، وَمِنَ التَّفْرِقةِ إلى الوَحْدَة ، وَمِنَ المَصالِحِ الخَاصَّةِ إلى المَصْلَحَةِ العَامَّة، التي تَجَلَّتْ أّيَّامَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، في كِتابِ المَدينةِ وَعَهْدِها ، وَعَهْدُنا في وَطَنِنَا الحاليّ ، هُوَ وَثيقَةُ الوِفَاقِ الوَطَنِيّ، والدُّستُور .
الهِجرةُ استِقْبالٌ لِلجَدِيدِ والمُتَقَدِّم ، والمَصَالِحِ الوَطَنِيَّةِ العُليا . فعليكَ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ يا رَسُولَ الله ، وَجَزَاكَ أَحسَنَ مَا يُجزَى نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِه ، فَقَد َأَدَّيْتَ الرِّسَالَة وحَمَلْتَ الأَمَانَة ، وَبَادَرْتَ إلى الأُمَّةِ وَالدَّولة ، وَالمُجتَمَعِ السَّمْحِ ، والأخلاقِ العالية. سلامُ اللهِ عليكَ في مَولِدِكَ وَبَعثَتِك، وَهِجرَتِكَ وَسِلْمِك ، وَمَحَبَّتِكَ وَحَيَاتِكَ وَمَوتِك ، قَالَ تَعَالى : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. صدقَ اللهُ العظيم
حَفِظَ اللهُ تعالى لبنانَنا من كُلِّ سُوء ، وكلُّ عامٍ هجريٍ وأنتم أيها المسلمون وأيها اللبنانيون بخيرٍ وسلامٍ وأمان “.