كتبت صحيفة “الجمهورية”: سواء اقتنعَ المُكابرون والمزايدون والمعطّلون، أو لم يقتنعوا، فإنّ جلسة الفشل الثاني عشر في انتخاب رئيس للجمهورية طَوَت ما قبلها نهائياً، وفَرطت شمل العشاق وفرضت مقاربات جديدة للملف الرئاسي، بعيداً عن منطق التقاطعات المؤقتة التي سقطت مضرّجة بتصدّعات وتفسّخات غير قابلة للترميم، وبإحراجات يستحيل تبريرها أمام جمهور غدرت به مجموعات وقحة استثمَرَت على وجَعه، وعَربشت على أكتافه بشعارات ومحاضرات العفة التغييرية، وفي لحظة الحقيقة، انخرطت في ما ثبت بما لا يقبل أدنى شك أنه موقعها الطبيعي، كأدوات ناسفة لكلّ تلك الشعارات، نازِعة عنها آخر ورقة توت ساترة لكلّ مسار الخداع الذي انتهَجته منذ 17 تشرين الأول 2019.
باتَ الواقع الداخلي مكشوفاً بالكامل، ومفروزاً الى اصطفافات سياسيّة وانقسامات وأجندات متصادمة انسَدّت معها كل الآفاق التي يمكن من خلالها النفاد الى انفراج رئاسي، وعكست نفسها في 12 جلسة انتخابية فاشلة عَقَدها المجلس النيابي. وكذلك في مُسارعة اطرافها الى اعلان رفضها الإنخراط في أي مسار داخلي يُخلي سبيل رئيس الجمهورية ويُخرجه من زنزانة التعطيل، وهو ما عكسته المكابرات التي أحاطت بالدعوة الاخيرة التي وجّهها رئيس مجلس النواب نبيه بري الى الحوار.
لا حل داخلياً
هذا المنحى، وعلى ما تقول مصادر سياسية معنية بالملف الرئاسي لـ«الجمهورية»، يؤكّد بما لا يرقى اليه الشكّ، انه بات يوجِب الاعتراف وبصورة أكيدة ونهائيّة باستحالة الرّهان على حلّ داخلي يكسر حلقة التعطيل، وانّ الامعان في سياسة دفن الرؤوس في الرمال وإخفاء حقيقة السبب الجوهري وأدوار مكوّنات الفراغ الرئاسي في تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، خلف الاصابع، ما هو سوى تذخير لهذه المكونات للإستمرار في هذا المنحى المُتسَيّد على المشهد الرئاسي منذ نحو ثمانية اشهر، وتمديده أشهراً اضافية وربما الى سنوات».
وإذا كانت مكونات التعطيل الرئاسي متسلحة في مضيّها في هذا المنحى، بتسلّطها على واقع داخلي متراخٍ امامها، او مستسلم لها، ليس فيه من يجرؤ على أن يردعها ويحملها على تغيير هذا السلوك الذي دَفّع لبنان واللبنانيين أثماناً كبرى، ويُنذر استمراره بأكلاف إضافية أشدّ ثقلاً وارهاقا في شتى المجالات. إلّا أنّ تلك المكوّنات، بحسب المصادر السياسية عينها، قد استنفدت كلّ ما لديها، وآخرها ما تَبدّى في جلسة الفشل الثاني عشر، وبالتالي هي بلغت آخر مداها وأدركت حدودها، وتِبعاً لذلك لن تستطيع ان تكمّل في هذا المنحى إلى ما شاء الله.
تسوية ملزمة
يتقاطَع ذلك مع معلومات موثوقة، قال مرجع مسؤول لـ«الجمهورية» انّها تَبعث على التفاؤل، لافتاً في هذا السياق الى انّ إشارات وصفها بـ«الجدية جداً»، بدأ رَصدها في أجواء حركة المساعي الخارجية تجاه لبنان، وآخرها لقاء الجمعة الماضي بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان. امّا فحوى تلك الاشارات فلخّصَها المرجع عينه بقوله: في موازاة الافق الداخلي الغارِق في مناخات الفرز والإنقسام وسَدّ كل طرق ونوافذ الانفراج الرئاسي بمتاريس واتهامات وسياسات وشعبويات حاقدة، هناك تسليم خارجي بعُقم واستحالة حلّ لبناني لأزمة الرئاسة. ومن هنا فإنّ المساعي الخارجية التي يتولاها أشقاء لبنان واصدقاؤه تشد بزخم واضح لإلحاق لبنان بمسار الإنفراجات الإقليمية».
وكشف المرجع عينه عمّا سمّاها «معطيات ديبلوماسية» نقلها بعض السفراء، تعكس انّ الملف اللبناني بات على نارٍ أكثر حماوة من ذي قبل، وانّ الجهد الذي يبذله الاصدقاء والاشقاء، وفي الصدارة باريس والرياض، قد أطلقَ صفّارة العدّ التنازلي لمقاربة جديدة وأكثر واقعية للملف الرئاسي، تمهّد لحلّ رئاسي من الخارج، عبر ما سمّاها المرجع عينه «تسوية ملزمة» يتولّد عنها رئيس للجمهورية في القريب العاجل».
امّا جوهر هذه التسوية، فقال المرجع انه لا توجد اي معطيات حول تفاصيلها، الا ان عنوانها العريض وجوهرها يرتكزان على اولويتين متلازمتين: رئاسة الجمهورية والحكومة. خلاصتهما انه اذا كان انتخاب رئاسة الجمهورية امراً ملحّاً، فإنّ حكومة ما بعد الانتخاب، برئيسها وتركيبتها لا تقل ضرورة وإلحاحاً وإمّا لماذا هذا التلازم، فلأن ثمة خشية لا يُخفيها الفرنسيون من ان عدم حسم الأولوليتين معاً قد يؤدي انتقال الازمة من كونها رئاسية، الى ازمة حكومية، تعقّد تسمية رئيسها وكذلك تأليفها، وتؤخر بالتالي ما هو منتظر منها من خطوات وإجراءات انقاذية واصلاحية تفتح الباب على مساعدات مالية يحتاجها لبنان بشدة، وهذا التأخير معناه مُفاقمة أزمة لبنان أكثر اقتصادياً وماليّاً.
مهمة لودريان: قائد الجيش
وسط هذه الاجواء، من المقرر أن يصل وزير الخارجية الفرنسية السابق جان ايف لودريان موفداً شخصياً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونقلت وكالة «فرانس برس»، عن مصادر، بأنّ لودريان سيجري محادثات مع المسؤولين السياسيين، وقد سبق له ان أجرى محادثات مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا شارَكَته خلالها معطيات حول المناقشات التي أجرتها في الأشهر الأخيرة مع مسؤولين لبنانيين.
وفيما لم تُشِر الوكالة الى المدة التي سيقضيها في لبنان، ولا الى برنامج لقاءات لودريان، أُفيد بأنّ السفارة الفرنسية وجهت الدعوة الى عدد من رؤساء الكتل والاحزاب اللبنانية للمشاركة في حفل غداء يقيمه لودريان في قصر الصنوبر ظهر يوم الجمعة المقبل.
وأبلغت مصادر ديبلوماسية مسؤولة الى «الجمهورية» قولها ان لودريان سيُطلق في لبنان «مهمة الفرصة الاخيرة»، التي تأتي في هذا التوقيت محصّنة بزخم كبير من اللقاء الاخير بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي.
وكشفت انّ لودريان يحمل معه الى بيروت طرحا جديدا يحظى بدعم دولي حوله، يتمثّل في انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، بعدما ظَهّرت جلسة الانتخاب الاخيرة عجز مختلف الاطراف السياسية في تمرير خياراتها.
إلّا انّ مصادر سياسيّة تساءلت عن كيفية عبور هذا الطرح، خصوصاً انّ ثمّة اعتراضات مُسبقة أبدَتها بعض الجهات السياسية، لا سيما حركة «امل» و«حزب الله» الداعمان لترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ويؤكدان ان انتخاب قائد الجيش يتطلّب تعديلا دستوريا، وكذلك الامر بالنسبة الى التيار الوطني الحر.
ولفتت المصادر الى أن مهمّة لودريان تنطلق من ان هناك خيارين وحيدين امام القادة في لبنان، إمّا إدراك مصلحة لبنان وتغليبها على الحسابات السياسية والحزبية والتسليم بحل رئاسي يُفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية في وقت قريب جداً يَليه تشكيل حكومة على وجه السرعة، وإمّا «الانتحار الجماعي» عبر البقاء في دوامة التعطيل والانقسام، وهذا معناه فتح الباب واسعا امام سيناريوهات دراماتيكية، لا تهدد بتعميق الازمة المالية والاقتصادية فقط، بل تهدد وجود لبنان وبقاءه كدولة ووطن. ومعلوم في هذا السياق ان لودريان قد أطلقَ تحذيراً للقادة في لبنان مع بدايات الازمة فيه من المنحى الذي يسلكونه ويؤدي الى «الانتحار الجماعي»، في بلد شَبّهَه بسفينة التايتانيك التي تغرق ولكن من دون موسيقى. وأبدى تحوّفا جديا من ان نصل الى وقتٍ، مع تَفاقم ازمة لبنان واستمرار تقاعس القادة السياسيين وعدم قيامهم بواجباتهم تجاه بلدهم، يختفي فيه لبنان ونخسره كدولة ووطن.
عاطفة فرنسية وسعودية
وسألت «الجمهورية» مصادر ديبلوماسية فرنسية عن نتائج لقاء الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، فاكتفت بالقول: ان الرئيس ماكرون والامير محمد بن سلمان تباحثا في تفاصيل الوضع في لبنان وتعقيداته، وأسّسا لما يمكن القيام به لمعالجة الازمة في لبنان.
وقالت المصادر ان المقاربة اللبنانية تقاطَعت عند عاطفة عبّر عنها الزعيمان تجاه لبنان، وارادة مشتركة بينهما بأنّ الضرورة باتت مُلحّة جداً لإنهاء المأساة التي يعيشها لبنان، والسيّد لودريان سيتحرك في مهمّته في لبنان على هذا الاساس، والتأكيد للقادة اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم السياسية بأنه بات من المُلحّ أن يرتقوا الى مستوى مسؤولياتهم في العمل جديا لتعافي لبنان بسرعة، وإخراجه من مأزقه السياسي».
الى ذلك، نقلت مصادر ديبلوماسية لبنانية عما سَمّتها مستويات فرنسية مسؤولية تخوّفها وتحذيرها في آنٍ معاً من ان استمرار الوضع في لبنان على حاله من التعطيل لانتخاب رئيس الجمهورية، والتأخير في تشكيل حكومة انقاذ، من شأنهما أن ينحدرا بلبنان الى انفجار ووضع كارثي تشمل عواقبه كل اللبنانيين، وهو ما يضع الايليزيه والرئيس ماكرون كل ثقله في الملف اللبناني لتجنيب هذا البلد من ان ينزلق الى هذا الانهيار.
الجلسة التشريعية
على الصعيد التشريعي، من المقرر ان يعقد المجلس النيابي اليوم جلسة تشريعية برئاسة الرئيس نبيه بري، لدرس واقرار بنود مالية عاجلة متعلقة بفتح اعتمادات لصرف رواتب موطفي القطاع العام، حيث من دون إقرارها معناه ان لا رواتب للموظفين.
وكان جدول اعمال الجلسة محور اللقاء الذي عُقد بين رئيس المجلس ورئيس حكومة تصريف الاعمال، وبرغم ان هذه الجلسة مرجّح ان يكتمل نصاب انعقادها، خصوصاً انّ كتلاً اساسية تزيد عن الـ65 نائبا، قررت المسشاركة فيها، ومن بينها نواب التيار الوطني الحر الذي اعلن بعض نوابه انه «اذا كانت ثمة امور طارئة، واذا كان الحل متعذراً لرواتب القطاع العام» فإنّ الحضور ضروري، لوحِظ ان ثمة نوايا لدى بعض المكونات النيابية المعارضة للعمل على تعطيل نصاب الجلسة، حيث استبقوا الجلسة بإعلان عدم مشاركتهم فيها… وبات مؤكداً في هذا السياق عدم مشاركة نواب القوات اللبنانية وكتلة «تجدد».
الراعي
على صعيد المواقف، قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، في عظة قداس الأحد امس، «إنَّ المسؤول الذي لا يصلي لن يسمع كلام الله في ضميره، ولا أنين من هم في دائرة مسؤوليّته. أليس هذا أصل أزمتنا السياسيّة في لبنان وما يتفرّع عنها من أزمات اقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة واجتماعيّة وإنمائيّة؟ المسؤوليّة هي نوع من الأبوّة».
وسأل الراعي: «كيف نستطيع مع شعبنا، الذي تكويه في الصميم هذه الأزمات، أن نقبل بمهزلة ما جرى في جلسة انتخاب رئيس للجمهوريّة الأربعاء الماضي، بعد ثمانية أشهر من الفراغ والإنتظار، حيث انتُهك الدستور والنظام الديمقراطيّ بدمٍ بارد، وتوسّع جرح الإنقسام والإنشطار، في وقتٍ يحتاج فيه لبنان إلى شدّ أواصر الوحدة الداخليّة؟ أهكذا نحتفل بمئويّة لبنان المميّز بميثاق العيش معًا مسيحيّين ومسلمين، وبالحريّات العامّة، والديمقراطيّة، والتعدّدية الثقافيّة والدينيّة في الوحدة؟ أهكذا ننتزع من لبنان ميزة نموذجيّته، ونُجرّده من رسالته في بيئته العربيّة؟ فلا بدّ من عودة كلّ مسؤول إلى الصلاة والوقوف في حضرة الله بروح التواضع والتوبة والإقرار بخطئه الشخصيّ، لكي يصحّح خطأه، ويتطلّع إلى حاجة الدولة والمواطنين من منظار آخر».
وكان البطريرك الراعي قد أكد، في ختام سينودس أساقفة الكنيسة المارونية، أنه «فيما شعبنا يعيش مأساته الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والإجتماعيّة، جاءت جلسة انتخاب رئيس للجمهوريّة الأربعاء الماضي بكيفيّة إيقافها عن مجراها الدستوريّ والديموقراطيّ، لِتزيده وتزيدنا ألـمًا معنويًّا، وتجرحنا في كرامتنا الوطنيّة، وتخجلنا بوصمة عار على جبيننا أمام الرأي العام العالميّ، لا سيما انّ الجميع يتطلّعون إلى لبنان بأمل انتخاب الرئيس، لكي يتمكّن من الخروج من أزماته».
وختم: «أمّا من جهتنا فلا نفضّل أحدًا على أحد، بل نأمل أن يأتينا رئيس يكون على مستوى التحديات وأوّلها بناء الوحدة الداخليّة، وإحياء المؤسّسات الدستوريّة، والمباشرة بالإصلاحات المطلوبة والملحّة».
وفي بيان السنودس، دعا اساقفة الكنيسة المارونية النواب الى «القيام بواجبهم الوطني والدستوري وانتخاب رئيس للجمهورية، ثم الإسراع في تشكيل حكومة مؤهلة وقادرة تمتلك برنامجًا إصلاحيًا ديناميًا بحيث يكتمل عقد السلطات ويتأمّن توازنها وتعاونها بإرادة وطنية جامعة».
وأيّد الاساقفة «تأييدا كاملا مواقف البطريرك الراعي الذي يقوم بالمساعي الحثيثة لتعميق التفاهمات بين جميع اللبنانيين»، ودَعوه الى متابعة هذه المساعي لجمع اللبنانيين وإقامة الحوار فيما بينهم، حوار المحبة في الحقيقة، لأن هذا الحوار بات ضروريًا من أجل قراءة نقدية لأحداث الماضي وتنقية الذاكرة وفتح الطريق أمام المصالحة الشاملة. كما يؤكدون على تمسّكهم بالثوابت الوطنية، أي العيش المشترك والميثاق الوطني والدستور والصيغة التشاركية بين المكوّنات اللبنانية في النظام السياسي وتطبيقها بشكل سليم.
عودة
اما متروبوليت بيروت وتوابعها لطائفة الروم الارثوذكس المطران الياس عودة فقال خلال قداس الاحد امس: «إن بلدنا يعاني بسبب يد الشر التي تتلاعب به وتتقاذفه غير آبهة إلا بمصالح من استعبدوا أنفسهم لخدمتها. إثنتا عشرة جلسة لانتخاب رئيس لم تكن سوى عمليات إجهاض تمنع إنقاذ بلد، يكون وطنا لجميع أبنائه. لماذا هذا الأسر الذي يقبع فيه بعض النواب الذين يفترض بهم أن يكونوا أحرارا، وأصواتا صارخة بصراخ الشعب اليائس؟ النيابة ليست هروبا من المسؤولية بل هي تمثيل الشعب أحسن تمثيل. هل يؤيد الشعب حقا تصرف نوابه وتقاعسهم عن القيام بواجبهم الأول وهو انتخاب رئيس للجمهورية، لا بالطريقة التي يريدونها بل كما يمليه الدستور؟ هل أحسن التصرف من أدلى بصوته وغادر القاعة وكأنه غير مهتم لا بالبلد ولا بنتيجة الإقتراع؟ هل هكذا تكون الممارسة الديمقراطية؟ وهل ضياع صوت أمر عادي لا يستحق الوقوف عنده أو الإعتراض عليه؟ ما هذه العبثية المدمرة؟ كيف سيبنى وطن لا يستطيع نواب الشعب فيه احترام الدستور وانتخاب رئيس، بجدية وديموقراطية، رئيس لكل البلد، يشارك في عملية انتخابه جميع النواب، ويكون خادماً للشعب بأسره، لا لجماعات محددة فقط؟ ألم يَحن وقت التخلي عن الأنانيات والمصالح من أجل إنقاذ البلد».