كتبت “الديار” تقول: الحدث الجامع الذي شهدته المملكة العربية السعودية بانعقاد القمة العربية في مدينة جدة، امس، فتح صفحة جديدة من التقارب والوئام لم تشهدهما الدول العربية منذ سنوات، وأسّس في ما يبدو الى انفراجات أكبر تكمّل التطورات الايجابية والتحولات التي تلاحقت في المنطقة في الفترة الاخيرة، بخطوات عملية عاجلة تبرّد او تطفىء نقاط التوتر، وتعزز الواقع العربي بعلاقات وثيقة، وبعناصر التحصين امام التحولات والتطورات الاقليمية والدولية.
لبنان، الذي كان في قلب هذا الحدث، باتَ متموضعاً في محطة انتظار ان تتمدّد تلك الانفراجات اليه، وهو في هذا الموقع ما زال يعوّل على انّ العاطفة العربية التي ابديت تجاهه في القمة، تُترجم بحراكات مكثفة ما بعد القمة، سواء عربية او غير عربية، تفتح الافق الرئاسي المسدود على تفاهمات داخلية تكسر التعطيل القائم، وتسرّع في انتخاب رئيس للجمهورية.
واللافت للانتباه انّ القمة العربية، وان كانت قد عبّرت عن حرص عربي جامع على لبنان، واعادة انتظام حياته السياسية، ضمن تركيبة التعايش والمناصفة التي تحكمه، لم تُعف نفسها من مسؤولية الوقوف مع لبنان وتقديم كل ما يساعد اللبنانيين على تجاوز ازمتهم، الا انها في المقابل تلقي بالجانب الاول والاساس من هذه المسؤولية على اللبنانيين، وكذلك على السلطات اللبنانية، في العمل الحثيث على إتمام الاستحقاقات الدستورية بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تعمل على انتقال لبنان من مدار الازمة الى مدار الاصلاح والانفراج.
اعلان جدة
وقد انتهت اعمال القمة الى تبنّي ما سُمّي «إعلان جدة»، الذي تضمن بندا خاصا بلبنان جاء فيه: «نُعرب عن تضامننا مع لبنان ونحث كافة الأطراف اللبنانية لانتخاب رئيس للجمهورية يرضي طموحات اللبنانيين وانتظام عمل المؤسسات الدستورية واقرار الاصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته».
وكانت القمة العربية قد انعقدت في دورتها الثانية والثلاثين، بمشاركة عربية شاملة، برز فيها غياب رئيس لبنان، وحضور الرئيس السوري بشار الاسد، وكذلك مشاركة الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي. واللافت ان مداخلات القمة صبّت في اتجاه تأكيد التضامن العربي والعمل المشتركة لتحقيق المصلحة العربية، وبرز في هذا السياق تأكيد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على «اننا لن نسمح بأن تتحول منطقتنا الى منطقة صراعات»، مُعرباً عن امله في ان تسهم عودة سوريا الى الجامعة العربية في تحقيق الاستقرار فيها وحل ازمتها»، ومؤكدا للدول الصديقة في الشرق والغرب بـ«اننا ماضون في السلام».
كلمة لبنان
وفي كلمة لبنان في القمة، عرض رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي وضع لبنان «الذي يستمر في معاناته من ازمات متعددة أرخَت بثقلها على الشعب اللبناني الذي يعيش سنوات عجاف، يعاني فيها يومياً ما يعانيه من فقدان المقومات الاساسية المعنوية والمادية التي تمكّنه من الصمود».
ولفت الى أنّ «هذه الحالة ازدادت تعقيدا بشغور سدة رئاسة الجمهورية، وتعذّر انتخاب رئيس جديد، اضافة الى أن لبنان لم يتوان يوما عن فتح أبوابه أمام اخواننا النازحين السوريين، إيماناً بأخوّة الشعبين وتقدّم الاعتبارات الانسانية على ما عداها»، مركّزًا على أنّ «طول أمد الأزمة وتعثر معالجتها وتزايد اعداد النازحين بشكل كبير جداً، يجعل من ازمة النزوح أكبر من طاقة لبنان على التحمّل، من حيث بناه التحتية، والتأثيرات الاجتماعية والارتدادات السياسية في الداخل، ومن حيث الحق الطبيعي لهؤلاء النازحين بالعودة إلى مدنِهم وقراهم، مشيرا الى أنّها «عودة لا يمكن أن تتحقق اذا لم تتضافر الجهود العربية، مع مؤازرة من المجتمع الدولي، وبالتواصل والحوار مع الشقيقة سوريا، في اطار موقف عربي جامع ومحفّز عبر مشاريع بناء وانعاش للمناطق المهدّمة لوضع خارطة طريق لعودة الاخوة السوريين الى ديارهم».
واذ شدد ميقاتي على «احترام لبنان للقرارات الدولية المتتالية كافة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي وقرارات الجامعة العربية وميثاقها، والالتزام بتنفيذ مندرجاتها»، أكّد باسم كل لبنان «احترام مصالح الدول الشقيقة وسيادتها وأمنها الاجتماعي والسياسي، ومحاربة تصدير الممنوعات اليها وكل ما يُسيء الى الاستقرار فيها». وذكر أنّه «التزام ثابت ينبع من احساس بالمسؤولية تجاه اشقائنا، ومن حرصنا على أمنهم وسلامتهم وصفاء العلاقات الأخوية معهم وصدقها».
وتوجّه ميقاتي إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قائلًا: «مَن استطاع نقل السعودية وشبابها الى المواقع القيادية والريادية التي وصلوا اليها، وتحويل السعودية الى بلد منتج بكل ما للكلمة من معنى، في فترة قصيرة، ليس صعباً عليه أن يكون العضد لاشقائه في لبنان. من هنا فإننا نتطلّع الى رعاية السعودية ولفتتها الاخوية تجاه بلدي لبنان، ليتمكن من النهوض من جديد».
الداخل
داخلياً، لم يطرأ أيّ جديد على الخط الرئاسي، وعلى ما تؤكد مصادر معنية بالملف الرئاسي لـ«الجمهورية» ان الصورة ما زالت ثابتة في نقطة التعقيد والتعطيل، والتمنيات الديبلوماسية السعودية وكذلك الدولية، التي أبديت خلال الايام الاخيرة، بحسم الاطراف اللبنانية خياراتها وتحديد مرشحيها لرئاسة الجمهورية والذهاب الى جلسة انتخاب رئاسية، لم تلق الترجمة المنتظرة لها. وبالتالي، ما حُكي عن احتمالات لعقد تفاهمات بين اطراف المعارضة حول مرشحين معينين، نَسَفته التناقضات والافتراق العميق بين هذه الاطراف، وخصوصا بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وهو الامر الذي لا يؤشّر حتى الآن الى انعقاد جلسة انتخاب رئاسية في المدى المنظور».
جهوزية للانتخاب
الى ذلك، فإنّ السائد على خطوط المواجهة الرئاسية هو التنافر وتبادل كرة التعديل، وفي هذا الاطار، اكّدت مصادر ثنائي حركة «امل» و»حزب الله» لـ»الجمهورية» ان الكرة الرئاسية ليست في ملعب الحركة والحزب، بل هي لدى الاطراف الاخرى التي نرى انّ عليها ان تحسم خياراتها وتحدد مرشحيها، ونحن على جهوزية تامة للنّزول فوراً الى المجلس النيابي، والمشاركة في جلسة تنافسية بين مرشحين لرئاسة الجمهورية، وليربح من يربح».
نتحدّاهم بتحديد جلسة
في المقابل، اكدت مصادر في المعارضة لـ«الجمهورية» ان حركة الاتصالات لم تتوقف بين اطراف المعارضة، وخلافاً للتشويش الذي يمارسه «حزب الله» وحلفاؤه، فإنّ الامور تسير وفق ما هو مرسوم لها، ولسنا مضطرّين لأن نكشف اوراقنا منذ الآن، فليكفّوا عن المماطلة والتعطيل، ان كانوا جديين في انتخاب رئيس، نتحداهم في أن يحددوا جلسة لانتخاب الرئيس، وساعتئذ نقول كلمتنا ونكشف ما لدينا».
لا ثقة
وبحسب معلومات «الجمهورية» فإنّ فرضية عَقد تفاهم بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية لا يبدو انها قابلة للترجمة، وكل ما قيل عن إمكان اقترابهما مِن تبنّي احد المرشحين، لم يكن له مكان على ارض الواقع، وأوساط الطرفين تؤكد على الثقة المفقودة بينهما، وامكان صياغتها مستحيل، كما يستحيل وقوف «القوات» و«التيار» على مساحة انتخابية مشتركة».
تطورات جدية
ويبرز في السياق الرئاسي ما تؤكّد عليه مصادر ديبلوماسية من العاصمة الفرنسية لـ«الجمهورية» بـ»انّ الملف اللبناني سيشهد تطورات جدية ومهمة في الايام المقبلة»، من دون ان تحدد ماهية هذه التطورات».
ورداً على سؤال عما اذا كان المنتظر حراك فرنسي أحادي الجانب، او حراك مشترك فرنسي سعودي، اكدت المصادر «ان اصدقاء لبنان على هدف واحد هو مساعدة لبنان على التعجيل بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تباشر عملها الفوري في اجراء الاصلاحات وتحديد الخطوات التي تسهم في إخراج لبنان من أزمته، ومن هنا سيستكمل التحرك المساعد للبنان في الاتجاه الذي يصبّ في إحياء فرصة قوية لتحريك سريع لملف الرئاسة في لبنان، ومساعدة لبنان على انتخاب رئيسه».
وخَلصت الى القول: لبنان ينزلق منذ سنوات الى مصاعب تفاقم مأساة اللبنانيين، ومرحلة الفراغ الرئاسي زادت من هذه المصاعب وتهدّد ببلوغها واقعاً أشد سوءاً، وعلى اللبنانيين ان يدركوا انه لم يعد هناك مجال لإضاعة الفرص والمزيد من الوقت».
إيجابيات المنطقة ستتوسع
وفي السياق نفسه، كشفت مصادر ديبلوماسية عربية لـ«الجمهورية» ان الحراك الديبلوماسي الذي بدأه السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، قد وصل الى نقطة توقّف مؤقتة فرضها انعقاد القمة العربية في جدة، وسيستأنف هذا الحراك ما بعد القمة».
واذ لفتت المصادر الى انّ «الحراك العربي والدولي ينطلق من قاعدة اساس عنوانها انّ وضع لبنان لا بد ان يحسم ويخرج من دائرة التعقيد»، قالت: نحن متفائلون في امكان تحقيق ذلك في وقت قريب، ذلك انّ ما شهدته المنطقة من تحولات ومناخات ايجابية ستتوسع، وستشمل لبنان بالتأكيد، ونحن على ثقة بأن اللبنانيين لن يقبلوا بأن يبقى لبنان متخلفاً عن الالتحاق بتلك الايجابيات واستثمارها في ما يخدم مصلحة لبنان، التي باتت توجِب على السياسيين تسريع الخطى نحو انتخاب رئيس، والشروع في معالجة أزماته».
موقف أميركي
الى ذلك، أكّدت ليزا جونسون المرشحة لمنصب سفيرة الولايات المتحدة في بيروت ان «التحديات التي يواجهها لبنان» تتضمن «الفساد المستشري، وسوء الإدارة، وتهديد «حزب الله» لسيادة لبنان وأمنه».
وقالت في بيان تلته امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي: «لسوء الحظ، يقف لبنان اليوم على حافة الانهيار، والشعب اللبناني يتحمّل تكاليف تقاعس قادته. حيث فشل قادة لبنان في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الحاسمة المطلوبة لبرنامج صندوق النقد الدولي، وهو المسار الواقعي الوحيد للبلاد نحو التعافي. كما أنهم لم ينتخبوا بعد رئيساً ولم يشكلوا حكومة، ما يحرم الشعب اللبناني من القيادة عندما يكون في أمسّ الحاجة إليها».
واعتبرت أنّ الطريق إلى الأمام واضح، مشدّدةً على أنه يجب على لبنان انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة مخوّلة تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها.
وقالت: «إن الطريق إلى الأمام بالنسبة للبنان لن يكون سهلاً. إنني أدرك تماماً أن هناك كيانات تقف في طريق التقدم، سعياً وراء المصلحة الذاتية. وكما يتضح من تصنيفاتنا الأخيرة للعقوبات، لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة مكافحة الفساد في لبنان… كما أنني على دراية واضحة بالتهديد الذي يشكله «حزب الله» على سيادة لبنان واستقراره، وكذلك على الولايات المتحدة وإسرائيل والمنطقة، كما تظهر العقوبات الأميركية الأخيرة ضد الممولين ومهرّبي المخدرات وشبكة التهرب من العقوبات. الولايات المتحدة ملتزمة استهداف أولئك الذين تربطهم صلات بـ«حزب الله». ورأت ان هناك «سبباً للتفاؤل»، مشيرة الى «إبرام لبنان اتفاقية تاريخية للحدود البحرية مع إسرائيل بوساطة الولايات المتحدة».
قضية سلامة
من جهة ثانية، برز تطور قضائي لافت امس، تجلّى بتسلّم لبنان مذكرة من الانتربول لتوقيف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الذي علّق على هذه المذكرة بقوله ان مذكرة التوقيف الصادرة في حقه جاءت بناء على طلب القاضية الفرنسية التي استندت على تغيّبه عن جلسة الاستجواب في 16 ايار الجاري. وقال في تصريح له انه لم يحضر جلسة الإستجواب لعدم إخطاره تِبعاً لأصول القواعد والقوانين المرعية الإجراء، وانّه سيتقدّم باستئناف لإلغاء هذه الإشارة.
واللافت في هذا السياق اعلان وزير الداخلية بسام مولوي بأنّ مذكرة الانتربول أحيلت الى الجهات القضائية المختصة، حيث أفيد بأنّ مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات يقوم بدرسها تمهيداً ليبني على الشيء مقتضاه، فيما برز ما نقلته قناة الحدث عن مولوي بأنه سيتم تسليم سلامة الى فرنسا اذا ما طلب القضاء اللبناني ذلك، معتبراً انه على سلامة ان يتنحّى فوراً، ومشيراً الى انه سيكون للحكومة موقف من بقاء سلامة في منصبه الاثنين المقبل».