أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: ” قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} صدق الله العلي العظيم.
لقد تطرّقنا في الخطبة السابقة إلى بعض الجوانب المهمة من هذه الآية المباركة وتحديداً عن دلالتها على وجوب الصوم وأنه أحد الأمور الخمسة التي بُني عليها الإسلام، وانه ضرورة من ضروريات الدين الواضحة التي لا يحتاج في إثباتها إلى الاتيان بالدليل وكفى تعبيراً عن أهميتها إلى جانب ما ذكرنا تكرار ذكرها في عدة آيات من القرآن الكريم، الى جانب الروايات الكثيرة التي وردت في الصوم.
فهي، أولا ًفعل عبادي لله تعالى التي يؤتى بها بقصد امتثال امره تعالى التي به تتقوم عباديتها، فلو أُتي بالصوم بقصد آخر أو لغاية أخرى سُلبت عنه صفة العبادة، وهذا أمر تشترك فيه كل العبادات من الصلاة والحج وغيرها، فهي إحدى أشكال الممارسات للعبودية لله سبحانه وتعالى باللسان وبالفعل معاً بعد الإسلام والاقرار بالالوهية والوحدانية باللسان والنية حيث تعددت هذه الأشكال وتنوّعت، ففي الصوم بالامتناع عن ممارسة بعض الأفعال في وقت مخصوص وهو أيام شهر رمضان ما بين طلوع الفجر الى غروب الشمس التي تسمى بالمفطرات من الاكل والشرب والجماع وغيرها.
بينما في الصلاة تتمظهر بالاتيان بها بالكيفية الخاصة ابتداءً بالنية وتكبيرة الإحرام إلى قراءة السورتين والركوع والسجود، وفي الحجّ بالنية والإحرام بالتلبية إلى التواجد في عرفة والمبيت بمنى ورمي الجمرات والطواف وصلاة الطواف والسعي والحلق أو التقصير والعمرة. ففي كل واحدة من هذه العبادات نمارس شكلاً من التعبّد لله تعالى يتفق بالنية ويختلف بالفعل، ولكنها جميعا تؤدي مهمة واحدة هي تحقيق التقوى لله تعالى والأستقامة على طريق الجادة حتى لا نحيد عن الصراط السوي {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} الذي تجعله هذه العبادات مجتمعة أمراً مُحقّقاً إن أتى بها وفق الشروط المأمور بها، فالصوم والصلاة والحج والزكاة التي هي عبادات تربوية بالدرجة الاولى للتركيز الذهني لدى الإنسان أنه مسؤول بالدرجة الاولى أمام الله تعالى وأن هذه المسؤولية تعني أن وجوده ليس عبثياً، وأن عليه ان يأخذ الحياة بجديه ومسؤولية وأن يعرف قدر نفسه وحدوده وأنه عبد لله تعالى، فإن الجاهل لحدوده سيتصرف بلا ضوابط ويودي بنفسه إلى التهلكة. قال الإمام علي عليه السلام: (رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدَ طوره)، فإن الإنسان اذا جهل قدر من يقف أمامه لن يستطيع أن يتصرف معه بحكمة فإما أن ينقصه قدره أو يعطيه ما لا يستحق أو يخطأ مراده أو كمن يمسك بمقود السيارة وهو يجهل قيادتها أو قوانين السير، فإما ان ينتهي إلى التهلكة وعلى الاقل لن يدرك مرامه.
يقول أمير المؤمنين علي(ع): ” أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ”.
فالمعرفة هي الاساس للوصول إلى الهدف ومع الجهل يخبط خبط عشواء، فإذا ما كان الانسان عاقلاً وعرف أنه عبدٌ لله تعالى ورافقته هذه المعرفة في حياته أمن التهلكة وضمن الفوز في بلوغ الهدف ولم يخطأ الطريق اليه وهذا ما تحققه العبادة.
إن اعدى أعداء الانسان هي نفسه التي بين جنبيه كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك. وعنه (ص):”والذي نفسي بيده ما من عدو أعدى على الإنسان من الغضب والشهوة، فاقمعوهما واغلبوهما واكظموهما”.
وقال الإمام الصادق (ع): “احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شئ أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم”.
وفريضة الصوم تقوّي إرادة الإنسان في مواجهة هذا العدو الذي هو نفسه المعبّر عنها في هذه الروايات بالاهواء التي تجر الإنسان إلى مزالق الشر واستخدام ألسنتهم في الذم والاذى للآخرين. إنّ الصيام عن الطعام والشراب هو أهون الصيام، والصيام الحقيقي هو ما ورد عن جابر بن عبدالله الانصاري (رض) عن رسول الله (ص): “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء”.
فكما أنّ الصلاة المقبلة هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر فكذلك الصيام ينهى عن الاذى وارتكاب المآثم، والا كان كما ورد عن رسول الله لامرأة صائمة تسبّ جارية لها، فدعاها النبي (صلى الله عليه وآله) لطعام فامتنعت لكونها صائمة، فقال لها: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع.
إنّ التربية وصناعة الشخصية الانسانية الايجابية والمتخلقة بأخلاق الله تعالى هي التي تعمّر الأرض بالبناء الصالح وتحقّق الاستقرار والسلام والسعادة لبني البشر كما جاء في الإنجيل: “«الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».” (لو 2: 14).
فالسلام والمسرّة لبني البشر هي غاية الدين وتعاليمه، اما الأهواء واتباع الشهوات والتكالب على الدنيا فلن يحقّق سوى التناحر والخصومات والاضطرابات والعذابات والاحزان وتقضي على السلام والاستقرار الداخلي للانسان فضلاً عن الاجتماع البشري، ولن تتحقق المسرّات على حد التعبير الوارد في الإنجيل، وهو ما عاشته الانسانية المعذبة على مرّ الزمان أنها افتقدت المعرفة فافتقدت الطريق إلى الحياة الهانئة والسعيدة، ولأنها افتقدت المسؤولية فتصرّف العابثون بالحياة بمصائر الناس على طبق أهوائهم ومصالحهم دون اعتبار لقيم الحق والعدالة المطلقة وغير النسبية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والاحداث وتطور الحياة ووسائل العيش والحاجة إليها دائمة ومستمرة.”
اضاف: “ايها الأخوة، إنّ ما يعيشه العالم العربي والإسلامي ومنه لبنان من ضعف وتفرّق ناتج عن ضمور الشعور بهذه القيم، وليس عن قلة الامكانات أو قلة العدد، فقد تكوّنت هذه الأمة وبُنيت على أهم وأقوى عوامل القوة وهي العقيدة هذه العقيدة التي توّحد ولا تُفرّق، التي جمعت بين أعراق وألوان وشعوب ولغات مختلفة واستطاعت أن تصنع منهم قوة لا نظير لها في وقت قصير جداً، تحمل رسالة الخير للعالم اجمع وقال تعالى فيها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر}، مُبيّناً لها أيضاً أسباب ضعفها ومُحذّراً لهم منها فقال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ناهياً لهم عن العبث والتلاعب في أسباب قوتهم ولكنهم تفرقوا ففشلوا، لقد عادوا إلى ما يُفرق إلى التنازع إلى المذهبية القذرة التي أدت إلى أن يؤكلوا ويُطمع فيهم كل حقير، وأن يزرع في قلبهم الكيان الاسرائيلي الغاصب وأن يستضعفهم العالم فيسيطر على المواقع الاستراتيجية لهم، وأن يستثمر وينهب خيراتهم فأصبحوا جميعاً مستضعفين، لا استقرار ولا تنمية وبلدانهم متخلّفة وشعوبهم فقيرة محتاجة تمد ايديها للمساعدات الدولية وتتقاتل فيما بينها وتُستخدم لتحقيق مصالح القوى الدولية الظالمة لها ولشعوبها. لذلك فنحن بحاجة إلى العودة إلى ما يوحّدنا وأن ندع ما يُفرقنا ويضعفنا ويطمع الاعداء في زيادة استضعافنا”.
وتابع: “إنّ اعادة علاقات التعاون بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية أفرح قلوب المسلمين جميعاً وأعطاهم الأمل بالخروج من الواقع الراهن وإعادة اللحمة إلى أبناء هذه الأمة وإصلاح أمورها، وهذا سينعكس حتماً على لبنان الذي ابتليَ أيضاً بما ابتليت به الأمة العربية والاسلامية من التفرّق والتشتّت والتمسّك بالطائفية البغيضة، حيث تركنا ما يجمعنا من التمسّك بالوطن والكرامة الوطنية الى التمسّك بالطائفية التي بُنيَ عليها لبنان وهي علة مصائب اللبنانيين”.
واكد الخطيب “انّ دولة المواطنة التي يتساوى فيها اللبنانيون هي الدواء وهي الممر الآمن للسلام والاستقرار الدائم والقوة والمنعة التي تحفظ الطوائف وتحقق التنمية، ولا نحتاج معها كل عقد من الزمن إلى تسوية جديدة بعد أن نكون قد دمّرنا البلد باقتصاده وأهله وأكثرنا من الايتام والارامل وأحزان الأمهات الثكالى”.
وقال: “وانتم تعلمون بعد كل التجارب الماضية، انه لا بدّ بعد كل ذلك من الجلوس أخيراً على طاولة الحوار، فلماذا هذا العناد والإصرار على الشحن الطائفي في كل صغيرة وكبيرة؟ كفى تنمّراً مع هذه المأساة التي يعيشها البلد تمزيقاً وانهياراً لمؤسساته ودماراً لاقتصاده وسقوطاً لعملته الوطنية وتآكلاً لرواتب الموظفين والعسكريين في الخدمة الفعلية أو متقاعدين وصراخاً لأبنائه الذين يئنون جوعاً قبل أن ينفلت العقال وتندمون حيث لا ينفع الندم.”
واردف: “وهنا نجدّد وبإصرار على وجوب العمل بأقصى سرعة والدفع باتجاه عودة النازحين السوريين تخفيفاً للاعباء الاقتصادية التي يتحمّلها لبنان وقد وصل اقتصاده الى الانهيار، ونحمّل المجتمع الدولي مسؤولية منع النازحين من العودة إلى بلادهم المسؤول أساساً عن نزوحهم وتدمير بلدهم سورية، والذي يسكت إن لم يكن يُشجع العدو الاسرائيلي على الاعتداء اليومي عليها، وكان آخرها العدوان الذي جرى بالأمس”.
وختم: “في ذكرى يوم الأرض، نتوجّه بتحية الاكبار والإجلال الى أصحاب هذه الارض المباركة التي تأبى وجود احتلال فوق ترابها المجبول بدم الشهداء الذين بذلوا التضحيات لتحريرها من رجس الاحتلال، ونشدّ على أيدي المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في استمرار الالتزام بقضيته العادلة ومقاومة الاحتلال وإفشال أهدافه حتى تحقيق النصر وتحرير فلسطين والقدس الشريف ان شاء الله”.