كتبت صحيفة “النهار” تقول: لعلها مفارقة رمزية دراماتيكية ان يتزامن احياء الذكرى الـ18 لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومعه مشروعه للنهوض بلبنان مع انزلاق لبنان راهنا، بعد 18 سنة تماما، الى أسوأ واخطر مراحل الانهيار المالي والاجتماعي الذي بات يهدد بزعزعة اخر معالم الاستقرار الاجتماعي وربما الأمني فيه. على الأهمية اللافتة التي اكتسبتها “رسائل” الناس والسياسيين أيضا في يوم 14 شباط هذه السنة لجهة الاستفتاء المتجدد لزعامة الرئيس سعد الحريري والحريرية عموما، لم تحجب هذه المناسبة الخطورة التصاعدية والمتدحرجة للانهيار القياسي التاريخي في قيمة الليرة اللبنانية وسعرها في مواجهة “دولار الانهيار” الذي بات يسحق الأرقام القياسية ساعة بساعة في بورصة هستيرية تتبعه فيها أسعار المحروقات وسائر الأسعار الاستهلاكية بما ينذر بوضع متفجر غير مسبوق. قفز سعر الدولار “الأسود” امس عن سقف الـ 75 الف ليرة موحيا بان تحطيمه سقف المئة الف ليرة لم يعد سوى مسألة أيام. واستتبعت ذلك ارتفاعات هستيرية مماثلة في أسعار المحروقات في الدورتين قبل الظهر وبعده لامس معه سعر صفيحة البنزين المليون و400 الف ليرة ! جرى ويجري كل ذلك على اعين “لا حكومة ” و”لا سلطة” و”لا برلمان” و”لا مصرف مركزي ” ولا مسؤولين اطلاقا . لم يسمع اللبنانيون ولم يعاينوا أي مبادرة او تحرك او اجراء مسؤول ينبئ بلجم الانهيار عن بلوغ ابشع مستوياته واخطرها. والانكى من كل ذلك ان اخطر ظواهر الازمة بل الكارثة المتمثلة بالصراع المفتوح بين المصارف وجهات قضائية تتقدمها القاضية غادة عون بدت الى تصعيد اخطر من السابق في ظل مضي المصارف في الاضراب المفتوح، وتعنت غادة عون في مطاردة المصارف من جهة أحادية غير موثوقة في تجردها غير ابهة بالتداعيات المدمرة محليا وخارجيا على إجراءاتها الشعبوية النزقة، وتحرك الكثير من القطاعات احتجاجا وخشية امام المراحل الخطيرة الجارية للانهيار فيما بدأت معالم تحركات لجهات عديدة في الشارع حيث سجل قطع عدد من الطرق لا سيما في طرابلس وعكار ومستديرة الكولا- بيروت إحتجاجاً على الأوضاع المعيشية وحيث سُجل إطلاقُ رصاص كثيف في طرابلس، وسط دعوات في كل المناطق للنزول الى الشارع ورفع الصوت.
كما عاد مشهد الطوابير امام المحطات بعدما رفع بعضها خراطيمه. وبعد صدور جدول اسعار عن وزارة الطاقة حمل ارتفاعا كبيرا في اسعار المحروقات، توجّهت نقابة اصحاب المحطات في لبنان برسالة الي وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض، تطلب اخذ المبادرة ومن باب “الضرورات تبيح المحظورات “لاصدار جدول تركيب اسعار بالدولار الاميركي على فترة محدودة الى حين استقرار الاوضاع”.
وردًا على هذا التحذير، أكد فياض أن الوزارة تعمل على منصة لاصدار اكثر من جدولين في اليوم، تماشيا مع تقلب سعر صرف ولكن لن نتوجه الى تسعير البنزين بالدولار ولن نخالف القانون. وأوضح فياض أنه “بحسب قانون حماية المستهلك يجب أن تصل المادّة للمواطن بالليرة اللبنانية”.
اما في ازمة الاضراب المصرفي فتتفاقم الأمور في ظل ما أكدته مصادر مصرفية لـ”النهار” من أن النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أرجأت النظر في شكواها ضد عدد من المصارف التي لم تتجاوب مع قرار رفع السرية المصرفية الى يوم الجمعة، علما أنه كان يفترض أن تنتهي مهلة تسليم المعلومات اليوم. وعُلم أنه تم رفع شكاوى على 18 مصرفاً، وبناء عليه، بدأت عون تحقيقاتها بطلب معلومات من مصارف عوده، والبحر المتوسط، ولبنان والمهجر، وبنك بيروت، وسوسيتيه جنرال، والاعتماد المصرفي، وسرادار. كما علمت “النهار” أن “لبنان والمهجر” أبدى التعاون وسلّمها المعلومات المطلوبة منه حتى تلك التي لها صفة رجعية بالقانون وذلك بعدما وافق أعضاء مجلس الادارة والمديرين المطلوب اعطاء معلومات عنهم، مع تأكيد المصرف موقف جمعية المصارف في بيانها الاخير أن لا رجعية في القانون، وكذلك فعل “الاعتماد المصرفي” الذي أبدى تعاوناً مع طلبات عون.
الحريري و”الرسائل”
وسط هذا الجو المشدود القاتم اخترقت ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري مجمل المشهد السياسي – الشعبي بحيث تحولت إقامة الرئيس سعد الحريري منذ ثلاثة أيام وحضوره في يوم الذكرى مناسبة واضحة لانطلاق رسائل بارزة سواء عفوا او عمدا. الحضور الشعبي الكثيف والالتفاف العاطفي حول الرئيس سعد الحريري ان على ضريح والده وان في بيت الوسط، قال ابلغ الرسائل حول المكانة الأقوى للحريري في زعامته رغم انسحابه من السياسة قبل اكثر من سنة . والجانب الاخر الأهم هو الإحاطة السياسية بالحريري التي اتخذت شكل استفتاء متجدد ومتعدد الجهة والطائفة والحزب والشارع . كان بارزا جدا ان يوفد سمير جعجع نصف عدد أعضاء كتلته النيابية برئاسة جورج عدوان الى بيت الوسط لنقل تحياته الى الحريري . كما كان بارزا ان يزور وليد جنبلاط وسامي الجميل وشخصيات عديدة من تحالف 14 اذار سابقا الحريري بلا قفازات. وكان مهما ان تزور بيت الوسط امس كتلة الاعتدال الوطني كلها ومن ثم يخرج الحريري من دارته ويزور عين التينة حيث كان لقاء طويل وغداء مع الرئيس نبيه بري. كما من رمزيات هذا المشهد هذه المرة ان السفير السابق جوني عبده الغائب عن لبنان منذ سنوات طويلة حضر خصيصا لاربع وعشرين ساعة الى بيت الوسط بما ينطوي على دلالات مهمة .
ورغم تصميمه على عدم الحديث في السياسة، مرّر الحريري رسائل سياسية واضحة في حديث الى الإعلاميين، مفادها أن الظروف الموضوعية التي دعته الى تعليق عمله السياسي منذ أكثر من عام لا تزال قائمة، وليس هناك ما يدعوه الى إعادة النظر في قراره راهناً، منتقداً استمرار نهج التعطيل وسوء الإدارة، ومستدركاً أنه لو كان في الحياة السياسية مع كتلة وازنة لما تمكن اليوم من تبديل أي شيء في الاستحقاق الرئاسي أو غيره.
وبعد مشهدية الحشد الذي توافد الى الضريح، قال الحريري بتأثر أمام زواره أن “محبّة الناس نعمة”. وبدا انه يحافظ على هدوء المتيّقن من صحة قرار اتخذه منذ أكثر من عام. وقال “أنا اليوم في عالم الأعمال ولا أهتم بالتنظير” وشدد على وجهة نظره بأن الدولة في بلد كلبنان يجب أن تكون جزءاً من الحل وليست الحل كلّه، بمعنى أن الدولة يجب أن تقدم خدمات عصرية يحتاجها البلد، الى جانب قطاعات متخصصة تملك القدرة والمعرفة على تسريع النمو والأعمال بشكل رؤيوي ومنظم.
وبشأن الحديث عن أجواء سلبية طغت على اللقاء مع الرئيس سعد الحريري، أكدت مصادر “القوات” لـ”النهار” أن هناك مطابخ سوداء وماكينات، تعمل على فبركة خلافات باستمرار، إما بين “تيار المستقبل” و”القوات” أو بين “القوات” و”الكتائب” أو بين “تيار المستقبل” والمملكة العربية السعودية، فيما نسي هؤلاء أن الخلاف الفعلي هو الخلاف الاستراتيجي بالرؤية الوطنية وهو بين الفريق السيادي والفريق التابع لإيران، أي فريق الفساد والسلاح.
وتنفي “القوات” أي قطيعة سياسية مع أيّ مكون سياسي، ومع الحريري تحديداً، فهو كان خارج البلاد بقرار شخصي، والقوات تحترم هذا القرار. والتباين السياسي بين القوى الحليفة حق لكل فريق لكنه لا يفسد بالودّ قضية. وأشارت المصادر إلى أنّ رسالة “القوات” من اللقاء مزدوجة.
أولاً، هي رسالة وطنية في مناسبة عزيزة وأليمة بسبب اغتيال حصل بعد مرور نحو 15 عاماً على دخول لبنان مرحلة السلم، اغتيال استهدف رجلاً نقل لبنان من الدمار إلى الإعمار، وأعاد علم لبنان ليرفرف في كل دوائر القرار.
ثانياً، للتأكيد أن التواصل قائم وموجود مع الحريري، ولا يحاولن أحد الدخول على هذا الخط من أي طرف كان للخربطة.