كتبت “الجمهورية” تقول: الإستعصاء يطوّق الأزمة الداخلية بكلّ تشعباتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية، وكذلك السياسية، وتضافرت تناقضات وأجندات ومقامرات أطراف الإنقسام السياسي على مدّه بكلّ اسباب تحصينه. والسؤال الذي بات يطرح نفسه بإلحاح في موازاته: كيف يمكن كسر هذا الاستعصاء على النحو الذي ينأى بلبنان عن جحيم كارثي ينتظره، ويضمن إعادة نهوضه مجدداً، ويبقيه على خريطة الدول، ويُخرج اللبنانيين من خوفهم على حاضرهم ومستقبلهم؟
المناخ الداخلي العام، وبلا أدنى شك، مفخخ في كل مفاصله، تبدو فيه مكونات التعطيل جميعها مجتمعة على هدف واحد، هو تدمير ما تبقّى من هذا البلد. والمضي في لعبة شعارات وعناوين وبكائيات خادعة، يصعّب على المواطن اللبناني المنكوب والمخدوع، فهم السلوك الذي ينتهجه هؤلاء، بتعمّد العبث بلبنان وسدّ كلّ النوافذ والمنافذ والمخارج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وترك هذا البلد يسلك طريق السقوط في مجهول مفتوح على سيناريوهات تطوق مصيره باحتمالات أقلّها خطر الزوال.
حريق مالي وسياسي
ضمن هذا المناخ، يندرج الحريق المالي الذي اشعلته غرف سوداء تحرّكت بكبسة زر من «الحمايات الخفيّة»، لإشهار سلاح «الدولار»، والدفع به نحو «اللاسقف». وهو الامر الذي يدفع ثمنه المواطن اللبناني ويشلّ قدرته على اللحاق بما يرتّبه من أعباء، وارتفاع رهيب في الاسعار. وضمن هذا المناخ ايضاً، يندرج التحلّل السياسي، الذي تتوالى صوره الفضائحية على حلبة الملف الرئاسي، وتديرها عقليات مدمّرة، ولاؤها لأجنداتها ومكاسبها، وكبّلت جلسات انتخاب رئيس الجمهورية بالفشل الحتمي، وحسمت خياراتها، في ما يبدو بصورة نهائية، بمنع ضخّ هورمونات التوافق في المسار الرئاسي المعطّل.
هذه الصورة، وكما يقول مرجع مسؤول «تنعى كل احتمالات الانفراج، ولبنان ورئاسة الجمهورية، وما يستتبع انتخاب الرئيس أمام حائط أكثر من مسدود، فلبنان مع الأسف بات مكبّلاً بالمناكفات والمزايدات والكيديات، وباتت معها صياغة أي توافق او تفاهم او إحداث ثغرة انفراج في هذا الحائط، ضرباً من المستحيل، وعلينا في هذا الواقع ان نتوقع الأسوأ».
وقال المرجع لـ”الجمهورية”: «هي المرة الأولى في تاريخ لبنان التي نقف فيها على حافة مجهول مخيف يتهدّد كل الواقع السياسي، وحتى بنية النظام اللبناني برمّته. وأمام ما بلغناه من انسداد، صار الحديث عن توافق داخلي حول انتخاب رئيس للجمهورية، في جو رافض كليّاً للتوافق، غير ذي معنى على الاطلاق، ما بات يوجب البحث عن بدائل جدّية تكسر هذا الانسداد».
ولفت المرجع، إلى «انّ المجلس النيابي، بتركيبته الراهنة، أثبت فشله في انتخاب رئيس للجمهورية، وسيبقى ساحة مفتوحة للفشل مع كل جلسة يعقدها لانتخاب الرئيس، طالما انّه لا يبدو في أفقه ما قد يعدّل من توجّهات الاطراف السياسية والنيابية، على نحو ينقل المجلس من كونه حاليّاً عنواناً لأقليات متصارعة وكامنة لبعضها البعض، وساحة للعداوات والتناقضات والصدامات والصبيانيات والولدنات والتهريجات والاعتصامات الاعلامية، إلى حلبة تفاهم وشراكة في سلوك مسار الانقاذ، بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية، وهذا ما ليس ممكناً مع الأسف».
ورداً على سؤال عن البدائل الممكنة، وما إذا كان حل المجلس النيابي احد الخيارات البديلة، اكتفى المرجع بالقول: «الانتخابات النيابية أنتجت هذا المجلس، وتوزعت فيه القوى السياسية على شاكلة اقليات ولا اكثرية حاسمة فيه، ودلّت التجربة منذ ما قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، انّ حسم الاستحقاقات الكبرى، ومنها انتخاب رئيس الجمهورية، يوجب تلاقي اقليات المجلس على هذا الانتخاب، ولكن ما شهدناه على مدى 11 جلسة اكّد استحالة التلاقي والتوافق على رئيس. في الوقت الذي يسقط لبنان فيه في مزيد من الاهتراء على كل مستوياته، فهل نسلّم بهذا الامر، ونستسلم للسقوط، والمناكفات الشعبوية او المسرحيات التهريجية والاعتصامات الاستعراضية، ونبقى مستمرين في مسلسل الفشل من جلسة إلى جلسة. فقد آن الأوان لوقف هذا المنحى. لا اقول انّ ثمة بدائل جاهزة، وانما هذا الانسداد بات يوجب الانتقال من دائرة الفشل إلى مدار البحث الجدّي عن بدائل لكسر الانسداد. كل هذا المسار الذي نشهده لا ينتج رئيساً، وبالتالي لا يمكن ان يستمر، وإذا ثمة ما هو غافل عن حقيقة ما نحن فيه، نقول له انّ البلد يفلت منا، وقد نصل الى لحظة لا نجده فيها».
إعتصام النواب
في هذه الاجواء، واصل النائبان ملحم خلف ونجاة عون صليبا اعتصامهما داخل قاعة مجلس النواب، للمطالبة بعقد جلسات متتالية للمجلس حتى انتخاب رئيس للجمهورية، وسُجّلت امس زيارات تضامنية معهما من قِبل بعض النواب الذين يصنّفون أنفسهم سياديين وتغييريين.
واعتبرت النائبة صليبا انّ «هذا ليس اعتصاماً بل حقّ دستوري بأن نبقى في القاعة لحين انتخاب رئيس للجمهورية. ولا نوجّه رسالة لأحد بل نمارس حقّنا، وهذه واجباتنا بالوظيفة التي سلّمنا إيّاها الشعب «عم نطلب فقط من النواب يشتغلوا شغلن» وباقون في المجلس».
اما النائب خلف فقال: «نحن ضدّ النهج التعطيلي، ونحن نهج جديد في هذا الوطن. ونؤكّد للبنانيين ضرورة عدم فقدان الأمل. فهذا بلد يجب أن يعيش، ونحن هنا بإرادة الشعب». اضاف: «مطلبنا الإبقاء على الجلسات مفتوحة حتى انتخاب رئيس للجمهورية، فنحن نشعر وكأنّ الديموقراطية تسقط في لبنان، وعلينا مسؤولية اليوم بأن نحترم اللعبة الديموقراطية».
الرئيس بري يردّ
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، هو انّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لم يبادر إلى تحديد جلسة انتخابية لرئيس الجمهورية في الموعد التقليدي المفترض يوم الخميس المقبل، بل بادر إلى تحديد جلسة لانعقاد اللجان النيابية المشتركة في اليوم نفسه، لدرس مشروع قانون تعديل بعض أحكام قانون الضمان الإجتماعي، وإنشاء نظام التقاعد والحماية الإجتماعية، وهو الامر الذي ادرجته مصادر سياسية مسؤولة في سياق الردّ غير المباشر على ما سمّتها «مزايدات ومحاولات ضغط غير مبررة، وليست في محلّها».
أي هدف للاعتصام؟
وفي هذا السياق، قالت مصادر مجلسية لـ»الجمهورية»: «النائب غير مقيّد، حيث له الحق في ان يعبّر عن رأيه وموقفه بالطريقة التي يريدها، وهذا الامر لا جدال فيه على الإطلاق. ولكن كان الأجدى لو كان عنوان اعتصام بعض النواب في المجلس، للضغط على الاطراف للتوافق على انتخاب رئيس الجمهورية، وهنا نعتبره اعتصاماً بريئاً وصادقاً. ولكن ان يتعنون هذا الاعتصام بالضغط لعقد جلسات مفتوحة لانتخاب الرئيس، في محاولة مقصودة او غير مقصودة، للتعمية على السبب الأساس لتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، الا وهو هروب البعض من التوافق، والإيحاء وكأنّ رئيس المجلس هو من يعطّل انتخاب رئيس الجمهورية. فهذا يجعلنا ننظر إلى هذا الاعتصام بعين التشكيك بالنوايا والاهداف».
في اي حال، تؤكّد المصادر، انّ «هذا المنحى مرفوض، ولا يمكن القبول به او تجاوزه او تمريره، فإن كان هؤلاء حريصين على انتخاب الرئيس فليضغطوا في اتجاه التوافق. وربما نسي هؤلاء او تناسوا انّ رئيس المجلس ومنذ ما قبل انتهاء ولاية عون والدخول في فترة الفراغ الرئاسي كان اول من نادى بالتوافق، ولا يزال يعتبر انّ هذا التوافق يشكّل المعبر الإلزامي لإنجاز الانتخابات الرئاسية، ومن دون هذا التوافق سنبقى ندور في حلقة التعطيل المفرغة».
اجتماع باريس
إلى ذلك، وعلى مسافة ايام من انعقاد الاجتماع الاميركي- الفرنسي- السعودي- القطري، أبلغت مصادر ديبلوماسية من العاصمة الفرنسية الى «الجمهورية» قولها: «أن لا موعد محدداً بصورة نهائية لانعقاد هذا الاجتماع، انما المؤشرات ترجح انعقاده خلال الاسبوعين المقبلين».
واكّدت المصادر، انّ «مجرّد انعقاد الاجتماع، يؤشر الى انّ الملف اللبناني لا يزال في دائرة اولويات واهتمامات أصدقائه، وخصوصاً فرنسا، التي تضع ثقلها لإحداث انفراجات سياسية واقتصادية في لبنان». الّا انّ المصادر عينها لفتت الانتباه إلى انّ «مقاربة هذا الاجتماع، ينبغي الّا تخرج عن سياق الواقعية، وبالتالي عدم تكبير سقف التوقعات قبل انعقاده، وخصوصاً انّه في جوهره يشكّل مناسبة وفرصة جديدة لحث اللبنانيين والتمنّي عليهم مجدداً ان يبادروا سريعاً إلى انجاز استحقاقاتهم الدستورية. على انّ نجاح هذه الفرصة اولاً واخيراً، مرتبط بمدى استجابة القادة السياسيين في لبنان، وشراكتهم في اختيار رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة جديدة ترعى عملية انقاذية للبنان، وخطوات اصلاحية واسعة على كل الصعد والمستويات».
لا نتائج نوعية
وقالت مصادر سياسية واسعة الاطلاع لـ»الجمهورية»، انّ من غير المتوقع بروز حركة خارجية ضاغطة بشكل مباشر على الملف اللبناني لتسريع انتخاب رئيس للجمهورية، وبالتالي فإنّ المؤشرات السابقة للاجتماع المرتقب في العاصمة الفرنسية لا تشي بعرض مسودة مشروع حل للأزمة في لبنان، او ما يمكن ان تسمّى «ورقة لبنانية»، بل هذا الاجتماع كناية عن مشاورات تكميلية لسياق التشاور الدوري الجاري بين حين وآخر بين الدول المعنية بهذا الاجتماع، وبالتالي ينبغي عدم تحميله اكثر مما يحتمل وتوسيع مساحة الآمال حياله.
وفي معلومات المصادر عينها، انّها لا تتوقع خروج اجتماع باريس بنتائج نوعية، «بل انّ نتائجه محدّدة سلفاً، لناحية التأكيد على ما تمّ تأكيده في البيانات الاميركية والفرنسية والسعودية والقطرية السابقة، لناحية التشديد بداية على دعم لبنان وسيادته واستقراره الأمني والاقتصادي، وكذلك لناحية حث القادة السياسيين اللبنانيين على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة قادرة على تطبيق الإصلاحات اللازمة لمعالجة الأزمتين السياسية والاقتصادية».
ورداً على سؤال حول ما يوجب عدم رفع سقف الآمال من اجتماع باريس، قالت المصادر: «المستويات الدولية على اختلافها، اكّدت انّها لن تكون في موقع الضغط المباشر على الملف اللبناني، ما يعني أن لا مبادرات من اي جانب دولي او عربي تجاه لبنان. فلبنان كما هو واضح منطقة ساخنة ومتوترة، لكنها تقارَب فقط من الموقع الإعلامي وضمن سياق المواقف التقليدية للدول، وخصوصاً لناحية تأكيد الدعم للبنان وسيادته واستقلاله وما إلى ذلك. وعلى لبنان الّا يتوقع اكثر من ذلك، خصوصاً انّ جدول الاولويات والاهتمامات الدولية المباشرة بات محصوراً في اماكن اخرى، وعلى وجه الخصوص حيال الملف الاوكراني، حيث انّ المؤشرات الحربية على الجبهة الروسية- الاوكرانية، وكذلك على الجبهة الروسية- الدولية، توحي بدخولها منعطفات تنذر بتطورات اكثر خطورة، وتداعيات على اكثر من ساحة دولية».
صفعة أممية
في هذا الوقت، تلقّى لبنان امس، صفعة أممية، بفقدانه حقه في التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
وجاء ذلك في بيان للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش امس، اعلن فيه «انّ فنزويلا ولبنان وجنوب السودان متأخّرة عن سداد مستحقات لميزانية تشغيل الأمم المتحدة، وهي من بين 6 دول فقدت حقوقها في التصويت في الجمعية العامة المكونة من 193 عضوًا». ووفقًا لرسالة الأمين العام، فإنّ الحدّ الأدنى من المدفوعات اللازمة لاستعادة حقوق التصويت هو 76244991 دولارًا لفنزويلا، و1835303 دولارًا للبنان، و196130 دولارًا لجنوب السودان.
الخارجية توضح
وأوضحت وزارة الخارجية والمغتربين، في بيان، أنّ سائر المراحل الخاصة لتسديد المبلغ المطلوب قد أُنجزت، وبعد الاتصالات التي تمّ اجراؤها مع كل من رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية، تبيّن أنّ عملية الدفع النهائية ستتمّ مباشرةً، بما يحفظ حقوق لبنان في الأمم المتحدة.